منذ عام 1992، يرتاد الباحث دومينيك جنتي، وهو يضع مصباحاً على رأسه، مرات عدة في السنة مغاور تمتد لكيلومترات تحت الأرض في فيلار في منطقة دوردوني الفرنسية، لفك شيفرة تغير المناخ.
عند أسفل منصة معدنية تسمح للسائحين بمشاهدة ظلال خيول رُسمت قبل 20 ألف عام، أو المشهد السحري لآلاف صواعد الكهوف وهوابطها، يظهر عالم المناخ القديم في منطقة بيريجور ثقبين تم حفرهما أثناء بحثه عن رواسب معدنية من البيئة الجوفية.
ويكتنز الكهف في جوفه معلومات لا تُقدّر بثمن: الأكسجين الموجود في مياه الأمطار المتسربة والمتراكم والمذاب تحت الأرض ليشكّل، على مدى آلاف السنين، طبقات من الحجر الجيري، والكربون، الناتج عن تعاقب النباتات الموجودة فوق الكهف.
ومن خلال تحديد هذين العنصرين، "سجلت" هذه الصواعد مناخ الماضي.
الغطاء النباتي يؤثر في المناخ
ويشير هذا الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، إلى أن "تغيراتها ترتبط بوفرة الغطاء النباتي فوق الكهف أو عدم وجوده، وبما أن وجود الغطاء النباتي على السطح مرتبط ارتباطاً مباشراً بالمناخ، فإن هذه العناصر تخبرنا عن تطوره".
ومع لودوفيك ديفو، وهو غواص سابق في البحرية الفرنسية يعمل الآن كمهندس مساعد، يستكشف الباحث الكهوف في أوروبا وشمال إفريقيا لجمع الصواعد التي تشكّل "أرشيفات مناخية" حقيقية.
في مختبره في بوردو، يعمد الباحث بعد ذلك إلى "أخذ عينات" من غبار الكالسيت الذي تم جمعه على الصواعد، ثم يُدخله في مطياف الكتلة لقياس وفرة نظائر الكربون وفك شفرة "إشارة المناخ".
يمكن لأداة مماثلة، لقياس اليورانيوم والثوريوم، تأريخ العينة حتى 500 ألف عام.
وفي الصين، نجح أحد الباحثين بتتبع تطور الرياح الموسمية المحلية على مدى 640 ألف عام.
تأثير الاختبارات النووية
في فيلار، أتاح التحليل الزمني لمحتويات الكربون 14، وهو نظير مشع للكربون، في الصواعد، من الممكن اكتشاف تأثير ذروة التجارب النووية التي أجريت في العالم خلال الحرب الباردة.
وبحسب الباحثين، فإن "الاختبارات التي أجريت في ذلك الوقت أطلقت كميات كبيرة من الكربون 14 في الغلاف الجوي"، تسللت بعد ذلك إلى الكائنات الحية، ثم عبر مياه الأمطار، إلى الصواعد الجوفية.
ذروة الكربون 14 التي رُصدت في كهوف أخرى في فرنسا وسلوفينيا وبلجيكا، تحدث في كل مرة بفارق سنوات بعد عام 1963، تاريخ معاهدة موسكو التي وضعت حداً للتجارب النووية في الغلاف الجوي.
هذا الاكتشاف "يُثبت" أن معظم الكربون المأخوذ من الصواعد كان بالفعل موجوداً من قبل في الغلاف الجوي والغطاء النباتي، ويعمل بمثابة "أداة تتبّع" لمعرفة وقت تسرب الماء والكربون بشكل أفضل بين السطح والكهف.
وقد أتاح اعتماد هذا التخصص الذي يزدهر حالياً، مع عشرات المختبرات في النمسا أو ألمانيا أو فرنسا أو المملكة المتحدة أو أستراليا أو الولايات المتحدة أو الصين.
مع إمكانيات تأريخ أطول، وبيانات موضعية، وتكاليف شحن منخفضة، يكمل هذا البحث في الكهوف تحليل الجليد أو النوى البحرية، التي تشكل عناصر أخرى لحفظ ذاكرة للمناخ، وتُسحب من القطبين والمحيطات.
تغيرات قوية
يعيد هذا البحث إظهار الدورات الرئيسية في تاريخ المناخ، بين الفترات الجليدية والفترات ما بين الجليدية، الناتجة عن تطور معلمات مدار الأرض، كما يكشف التغيرات المفاجئة داخل هذه الدورات.
سيتيح "التقدم التكنولوجي" قريباً أيضاً "تقدير متوسط درجات الحرارة" في أزمنة بعيدة، بحسب جنتي، من خلال نمذجة صواعد الكهوف بالأبعاد الثلاثية، باستخدام تطبيق على الهاتف الذكي.
ولتقويم الاحترار الحالي المرتبط بالنشاط البشري، ركّب الباحث أجهزة استشعار تحت الأرض منذ عام 1993، لقياس التغيرات في درجة الحرارة أو تدفق المياه أو محتوى ثاني أكسيد الكربون.
على عمق 35 متراً تحت الأرض، في بيئة فائقة الاستقرار، يحدّث الباحثان درجات الحرارة المسجلة على جهاز كمبيوتر محمول: 12,2 درجة مئوية مقابل 11,1 درجة مئوية قبل ثلاثين عاماً، وهي زيادة "ضخمة" في مثل هذا الوقت القصير.
ويقول جنتي: "لقد شهدنا بالفعل تغيرات قوية" في دورات الماضي، ولكن "لم يحدث مثل هذا الاحترار السريع في فترة ما بين الجليدية".
اقرأ أيضاً: