حر مصر القياسي نموذج لتفاقم الكلفة الاقتصادية للتغيرات المناخية

أضرار هائلة تطال محاصيل القمح والبرتقال والمانجو بسبب معدلات احترار غير مسبوقة

time reading iconدقائق القراءة - 11
بائعة تجلس محتمية من حرارة الشمس في أحد شوارع ضواحي القاهرة بمصر - Bloomberg
بائعة تجلس محتمية من حرارة الشمس في أحد شوارع ضواحي القاهرة بمصر - Bloomberg
القاهرة -بلومبرغ

خلال أحد أيام الحر القائظ في أبريل الماضي، أشارت عالمة الأرصاد الجوية في القاهرة أميرة ناصر، إلى سجل مكتوب حول طقس مصر يعود للقرن التاسع عشر.

تبلغ درجة الحرارة في الهواء الطلق 41 درجة (105 درجات فهرنهايت)، أو 46 درجة عند التعرض مباشرة لأشعة الشمس، وهي درجة حرارة كافية لإيقاف بطارية هاتف أميرة.

في داخل المبنى، تحتوي سجلات متحف الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية على صفحة تعود لأبريل من عام 1874، عندما بلغت درجة الحرارة في القاهرة 24 درجة.

قالت: "نشهد موجات حر فعلياً رغم أننا لا نزال في شهر أبريل. لم نسمع بهذا قبل عقود". بينما سجل كوكب الأرض حالياً 12 شهراً متتالياً من درجات حرارة قياسية، تمثل ظاهرة الاحتباس الحراري مشكلة خطيرة لا سيما بالنسبة إلى مصر، البلد الذي ترتفع الحرارة فيه بأسرع المعدلات على مستوى العالم.

يشعر خبراء الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية بالقلق من أن هذا الصيف سيكون أشد قسوة مقارنة بالسنة الماضية، ما سيقلب حال السلع الأساسية والزراعة رأساً على عقب، ويؤثر على الحياة اليومية.

انقطاع الكهرباء في مصر

تجد إدارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، التي حصلت مؤخراً على خطة إنقاذ بقيمة 57 مليار دولار، نفسها مضطرة للوصول بواردات الغاز الطبيعي المسال لأعلى مستوياتها منذ عام 2018، بهدف تلبية الطلب اللازم لتشغيل أجهزة التكييف التي تعمل من دون كلل في أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان. كما أسفر انخفاض إنتاج محصول القمح جراء الحرارة وشح المياه، عن زيادة الاعتماد على واردات الحبوب التي تعتبر حيوية لتوفير الغذاء للسكان في مصر.

في الوقت نفسه، تؤثر انقطاعات الكهرباء المستمرة بطريقة هائلة على عمليات الإنتاج. وتتوقف أجهزة الكمبيوتر المحمولة خلال اجتماعات الفيديو على برنامج "زووم". كما يهرع العاملون بالمكاتب عندما تُعلن الانقطاعات مسبقاً، للعودة إلى المنزل مبكراً لتجنب البقاء عالقين داخل المصاعد، والتي أفادت تقارير إعلامية محلية بأنها تسببت على الأقل في عدد محدود من الحوادث المميتة، عندما حاول أشخاص الخروج منها أثناء انقطاع الكهرباء المفاجئ.

باعتبارها مؤشراً على تأثيرات التغير المناخي، تُعد مصر بمثابة مقياس لما ينتظر الاقتصادات عبر أنحاء العالم كافة خلال صيف السنة الجارية، ومستقبلاً.

وعانت دبي بالفعل من آثار الطقس المتطرف بعد أن تسببت الأمطار الغزيرة في إغراق منازل وطرق لعدة أيام. وواجهت بنجالور العاصمة التكنولوجية في الهند، شحاً في المياه. مع وصول الطقس الحار إلى أوروبا والأميركتين، ستشعر الدول الأخرى بالمتاعب الخاصة بها.

الهواجس من حالات الوفاة

تخشى أميرة، التي تواصل دراستها لنيل درجة الدكتوراه في أطروحة تتناول موجات الحر، تداعيات أخرى محتملة في مصر.

وقالت: "يتمثل أحد الهواجس التي نواجهها في الوفيات الناجمة عن ارتفاع درجات الحرارة. لم تصل درجة الحرارة إلى 50 حتى الآن، لكن علينا أن نكون مستعدين، وأن نضع خطط طوارئ مشابهة لخطط مواجهة الفيضانات".

تُعد معاناة مصر شديدة بصفة خاصة جراء طبيعتها الجغرافية، نظراً لأنها بلد صحراوي، يملك موارد مائية محدودة. يجعل ذلك درجات الحرارة ترتفع بضعف معدلات بقية كوكب الأرض، ما يظهر تأثير الحرارة المفرطة، وتبرز أهمية التنبؤ بالظواهر الجوية المتطرفة بدقة لعملية وضع السياسات والأعمال التجارية.

وبالفعل، يتنبأ خبراء الاقتصاد، وخبراء المناخ بدرجة حرارة شديدة خلال صيف العام الجاري في مناطق عديدة حول العالم.

حرارة أعلى من المعتاد

لا تزال مساحات واسعة من شمال الأطلسي تحديداً تشهد درجات حرارة أعلى بكثير من المعتاد، وعلى الأرجح سيسفر ذلك عن تأجيج طقس حار مستمر في أوروبا. يعني هذا زيادة الطلب على الطاقة لأغراض التبريد، ويفاقم مخاطر حرائق الغابات في اليونان وإسبانيا ومنطقة الريفييرا الفرنسية. يمكن أيضاً أن تجلب العواصف المطيرة الغزيرة خطر حدوث فيضانات مفاجئة، وتتسبب باضطرابات في الزراعة. يأتي ذلك علاوة على الخسائر البشرية.

أوضح كارلو بونتمبو، مدير خدمة "كوبرنيكوس" للتغير المناخي بالمركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى: "شهدنا على مدى العشرين سنة الماضية ارتفاعاً في معدل الوفيات المرتبط بدرجات الحرارة في أوروبا بـ30%، وتأثرت بذلك الغالبية العظمى من الأراضي الأوروبية".

ويواجه كل من المغرب والمكسيك الجفاف، بينما تتعرض ولاية كاليفورنيا الأميركية، والجنوب الغربي الأميركي لموجات حر.

في تايلاند، أودت درجات الحرارة المرتفعة بحياة عدد أكبر من الناس فعلاً العام الحالي مقارنة بـ2023 بالكامل. وفي الولايات المتحدة الأميركية، يتوقع الخبراء موسماً نشطاً للغاية للأعاصير الاستوائية.

بالعودة إلى مصر، سيفاقم صيف آخر من الانقطاعات الهائلة للكهرباء الضغط على ميزانية البلاد، وعلى السكان الذين يعانون فعلياً ارتفاع معدلات التضخم في مصر، وتراجع قيمة العملة، وزيادة أسعار الوقود محلياً. لم تحصل البلاد على حزمة إنقاذ في صورة استثمارات وحزم مساعدات إلا في الآونة الأخيرة.

تداعيات مناخية

صرح وزير المالية المصري محمد معيط بأن دعم الدولة للوقود بلغ 220 مليار جنيه مصري (4.6 مليار دولار) خلال السنة المالية الحالية، وأن وقف عمليات قطع الكهرباء يتطلب 300 مليون دولار إضافية شهرياً لاستيراد كمية كافية من مواد الطاقة.

ويخشى مسؤولو المناخ من أن يتضرر جزء من محصول السنة الجارية بشدة في مصر. وقد تعرض محصول البرتقال للدمار تقريباً في السنة الماضية، ولم يتمكن المزارعون من تصدير كميات كبيرة. كذلك تشير تقديرات إلى أن إنتاج المانجو هبط بنسبة تتراوح بين 14.6% و50.5% في السنة الماضية، بينما هبط محصول الذرة في جنوب مصر أيضاً بما يتراوح بين 30 إلى 40%، بحسب الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية.

تضررت مناطق قضاء العطلات أيضاً. سجلت أسوان- التي تضم آثاراً ومعابد فرعونية رائعة  وهي واحدة من أكثر الوجهات السياحية شهرة بالبلاد، ومصدر إلهام لرواية أجاثا كريستي المعروفة بـ"موت على ضفاف النيل" - أعلى درجة حرارة لها بالتاريخ حيث بلغت 49.6 درجة في الظل يوم 6 يونيو الجاري.

قياس الحرارة

لدى مصر واحدة من أقدم التقاليد حول العالم على صعيد عملية مراقبة درجات الحرارة.

بدأ قياس درجات الحرارة بمعدل 5 مرات يومياً في عام 1829 بالتزامن مع مواقيت الصلوات الخمس، في غرفة واحدة داخل "مدرسة المهندسين". ويعرض متحف الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية أدوات لقياس الطقس استخدمها المصريون القدماء.

في الوقت الحالي، يتواصل خبراء الأرصاد الجوية المصريون بصورة دائمة مع وزارات مختلفة مسؤولة عن الطيران والزراعة والنقل والطاقة. يقدم هؤلاء الخبراء توقعات مهمة لكل شيء، بداية من التخطيط العمراني إلى الواردات، سعياً للتخفيف من آثار الطقس المتطرف الذي ألحق أضراراً بمحصول القمح المصري المهم خلال 2010، وتسبب في وفيات بالعشرات نتيجة درجات الحرارة المرتفعة بعد 5 أعوام، وخلال 2018 أسفرت فيضانات عن إغراق منازل وانقطاع للكهرباء، وإغلاق الطرق في إحدى أكثر ضواحي القاهرة الراقية.

حياة صعبة

وراهناً، ينظم العديد من المصريين حياتهم اليومية بالكامل تبعاً لتوقعات الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية. في القاهرة، لا تملك سلوى عبد العظيم (49 سنة) مكيف هواء. ومن ثم، فهي تراجع باستمرار صفحة هيئة الأرصاد الجوية على "فيسبوك" لوضع خطط التعامل مع موجات الحر، إذ تخزن المياه في "جراكن" (صفائح بلاستيكية) لاستخدامها لأغراض الشرب، وتبريد الرأس والرقبة عند انقطاع الكهرباء.

تحاول عائلتها إنجاز المهام كافة قبيل انقطاع الكهرباء، مثل الانتهاء من الدروس والأعمال المنزلية، وشحن مصباح إضاءة "ليد" (LED). ينبغي لها أيضاً أن تطهو الطعام في الصباح الباكر قبل التوجه إلى العمل.

موجات الحر

علقت بقولها: "الأمر الوحيد الذي أترقبه بشدة في الوقت الحاضر هو الفترة الفاصلة بين موجات الحر".

يجعل التغير المناخي العديد من المدن حول العالم شديدة الحرارة بصورة خطرة جراء "تأثير الجزر الحرارية الحضرية" الذي يحدث لأن المباني، والإنشاءات المكثفة تحبس الحرارة. تمثل هذه مشكلة، لا سيما لمدن مثل منطقة القاهرة الكبرى التي يتجاوز تعداد سكانها 20 مليون نسمة.

قالت سندس إبراهيم، مصممة جرافيك مستقلة في القاهرة: "يطل منزلي على واجهة جنوبية، ما يجعله شديد الحرارة. لذلك أهرع إلى مقهى بمركز تسوق أعلم أنه لا يعاني من انقطاع الكهرباء، أو أذهب للعمل من منزل والدتي إذا توافرت كهرباء عندها. لكن يصعب بشدة الحفاظ على استمرارية عملي".

هذا المحتوى من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ.

تصنيفات

قصص قد تهمك