كشفت دراسة جديدة أن الدماغ البشري مصمم لتصنيف وجوه الآخرين بناء على سمتين أساسيتين هما "الثقة والهيمنة"، وهو ما يساهم في تشكيل انطباعات فورية عن الأشخاص الذين نقابلهم للمرة الأولى.
ورغم أن هذه الانطباعات التلقائية راسخة بعمق في دوائرنا العصبية، وتؤثر على سلوكنا بطرق عميقة، إلا أنها غالباً ما تكون غير دقيقة.
ويمكن لهذه الأحكام التي يتم اتخاذها في جزء من الثانية أن تؤثر في كيفية تفاعلنا مع الناس، وتشكّل قراراتنا بطرق قد لا تدركها، فهل تساءلت يوماً كيف يتوصل الدماغ البشري إلى هذه الاستنتاجات بسرعة وبشكل متسق؟
وأشارت الدراسة المنشورة في دورية "إي نيورو" إلى أن هذه الأحكام، التي تعمل غالباً كـ"صور نمطية للوجه"، ليست متسقة بشكل مدهش عبر أشخاص مختلفين فحسب، بل يبدو أيضاً أنها متجذرة بعمق في بنية الدماغ، وتؤثر على السلوك الاجتماعي بطرق يمكن أن تكون خفية وعميقة.
مساحة السمات
ويمكن لهذه الانطباعات، التي تحدث في جزء من الثانية، أن تشكل قراراتنا في مجالات مهمة من الحياة، بما في ذلك فرص العمل والنتائج القانونية وحتى الانتخابات السياسية.
وتسلط هذه الدراسة الضوء على آليات الدماغ التي تدعم هذه الأحكام السريعة، ووفقاً للباحثين، تستخدم أدمغتنا "مساحة السمات" ثنائية الأبعاد لتصنيف الوجوه بناء على الثقة المدركة والهيمنة، إذ يُعتقد أن هاتين السمتين تطورتا كعنصرين حاسمين للبقاء، ما ساعد البشر الأوائل على تقييم ما إذا كان شخص ما صديقاً أم عدواً بسرعة.
ومساحة السمات، هي خريطة عصبية ثنائية الأبعاد داخل الدماغ تصنّف الوجوه على طول محورين رئيسيين هما "الثقة، والهيمنة".
و تقيس الثقة مدى جدارة الوجه بها من عدمها، وغالباً ما ترتبط هذه الجدارة بالنوايا المتصورة، سواء بدا شخص ما ودوداً وآمناً، أو عدائياً ومهدِّداً.
أما الهيمنة فتقيّم مدى سيطرة الشخص أو خضوعه، وتتعلق بالقوة أو السلطة المتصورة، سواء بدا شخص ما قادراً على ممارسة السيطرة أو النفوذ.
وعندما ترى وجهاً، يضعه دماغك بسرعة داخل "مساحة السمات" ثنائية الأبعاد، فعلى سبيل المثال، قد يتم رسم وجه بابتسامة دافئة في أعلى محور الثقة، بينما قد يتم رسم وجه بفك قوي في أعلى محور الهيمنة.
التلفيف الصدغي الأوسط
شملت الدراسة 26 مشاركاً (19 أنثى، و7 ذكور) خضعوا للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي أثناء عرْض سلسلة من الوجوه.
وأظهرت النتائج أن التلفيف الصدغي الأوسط، وهي منطقة من الدماغ تشارك في معالجة المعلومات المفاهيمية العامة، تلعب دوراً مركزياً في تكوين انطباعات السمات.
ويُمثّل التلفيف الصدغي الأوسط الوجوه تلقائياً داخل هذه المساحة ثنائية الأبعاد، بغض النظر عما إذا كان الفرد يؤمن بوعي بدقة هذه الأحكام.
وذكر الباحثون أن منطقة الدماغ الأمامية تشفّر السمات الوجهية مثل الثقة والهيمنة بطريقة آلية ومتسقة بين مختلف الأشخاص، ويحدث هذا التشفير دون أن يقر الشخص بالضرورة بصحة هذه الانطباعات، وهو ما يسلط الضوء على مدى ترسُّخ هذه الصور النمطية للوجه في دوائرنا العصبية.
ووجدت الدراسة أيضاً أن مناطق أخرى في الدماغ، مثل الوصلة الصدغية الجدارية والثلم الصدغي العلوي الخلفي تُمثّل مساحة السمات هذه فقط لدى الأفراد الذين يُقرّون صراحة بصحة انطباعاتهم عن الوجه.
ولفتت إلى أنه عادة ما تشارك هذه المناطق في التفكير الاجتماعي الأكثر تعقيداً، ما يشير إلى أنه عندما يستخدم شخص ما الصور النمطية للوجه بوعي للحكم على الآخرين، يتم تنشيط عمليات إدراكية إضافية.
وقد يفسر هذا التمييز بين المعالجة الضمنية والصريحة لسمات الوجه سبب ميل بعض الأشخاص إلى الاعتماد على هذه الأحكام السريعة في اتخاذ القرار، حتى عندما لا تكون دقيقة.
وأظهر الفص الصدغي الأمامي الأيسر وهو منطقة أخرى تم فحصها في الدراسة، هذا التمثيل لمساحة السمات، ولكن فقط في أولئك الذين طبّقوا هذه الصور النمطية صراحة.
التحيزات الاجتماعية
ونوّه الباحثون بأن نتائج هذه الدراسة لها تداعيات مهمة على فهم التحيزات الاجتماعية وكيف تتشكل في الدماغ، من خلال الكشف عن الأساس العصبي لأنماط الوجه، إذ يأملون إلقاء الضوء على سبب استمرار هذه التحيزات، وكيفية تخفيفها.
ويمكن أن تؤدي انطباعات الوجه إلى تحيزات ضارة، ما يؤثر على كيفية إدراكنا والتفاعل مع الآخرين بطرق غالباً ما تكون خارج سيطرتنا.
ويرى الباحثون أن فهم آليات الدماغ وراء هذه الصور النمطية، هو خطوة حاسمة في معالجة التأثيرات الاجتماعية والنفسية التي تخلفها.
وبينما ركزت الدراسة على تمثيل ثنائي الأبعاد للجدارة بالثقة والهيمنة، فإن الباحثين يعترفون بأن نماذج أخرى، مثل الأطر ثلاثية أو رباعية الأبعاد، قد تلعب أيضاً دوراً في كيفية إدراكنا للوجوه.
وقال مؤلفو الدراسة إن الأبحاث المستقبلية وهذه الاحتمالات تبحث بشكل أكبر في كيفية تطور هذه الآليات العصبية ووظيفتها، عبر الثقافات المختلفة والاختلافات الفردية.
وتشكل هذه النتائج تقدماً كبيراً في فهمنا لكيفية حكم أدمغتنا ضمناً وصراحة على الآخرين، وتشير إلى آليات محتملة قد تؤدي إلى تحيزات اجتماعية بناء على الوجوه.
كما تؤكد الدراسة الحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية التعامل مع البيئات التي تتطلب إصدار أحكام فعلية على الأشخاص، مثل المحاكم ومؤسسات القانون، للتأكد من أن وجوه المتهمين لا تؤثر على أحكام القضاة.