عندما وقف جون تيرنس، مدير هندسة الأجهزة الذكية في أبل، الثلاثاء الماضي، ليعلن أن أبل قررت هذا العام ألا توسّع فقط نطاق حدود ما يمكن إنجازه على أجهزة آيباد، وإنما تستهدف "سحق" تلك الحدود تماماً، لم يتخيل أن يثير الإعلان الرسمي، والذي يحمل اسم "السحق Crush" لإطلاق آيباد برو 2024 كل هذا الغضب داخل جمهور الشركة وخاصة مجتمع الفنانين.
الإعلان الذي وصلت مشاهداته خلال وقت النشر إلى 720 ألف مشاهدة على يوتيوب، يعرض مجموعة كبيرة من ابتكارات البشر، تتنوع بين آلات موسيقية وآلعاب مختلفة، وكذلك منحوتة حجرية، بالإضافى إلى عدد كبير من الدمى والألوان، كل ذلك أسفل آلة سحق صناعية ضخمة.
آلة السحق تقوم بما هي بارعة فيه، وهو سحق جميع تلك العناصر بين شقيها بشكل تام، وعندما تُرفع، يظهر تحتها أنحف آيباد في العالم، آيباد برو 2024.
شارك مدير أبل، تيم كوك، المقطع الإعلاني في منشور عبر حسابه الشخصي على إكس، وتابعه أكثر من 40 مليون شخص، وأرفقه بقوله: "آيباد برو هو أنحف جهاز أنتجناه على الإطلاق، وأكثر شاشة متطورة صنعناها، مع قوة غير مسبوقة لشريحة معالج M4. تخيل فقط حجم الأشياء التي يُمكن إنتاجها بواسطة هذا الجهاز".
رسالة واضحة
وفق ما قاله تيرنس قبل عرض الإعلان، فإن رسالة أبل من الإعلان هي رفع سقف طموحات وخيال مستخدمي أجهزة آيباد برو الجديدة، لتبلغ مستويات لم تصل إليها من قبل، والسر في ذلك هو أن الشركة وضعت إمكانيات فائقة داخل أجهزتها اللوحية الجديدة، ليصبح آيباد برو أداة غاية في التطور، عند مقارنتها بأية أدوات اخترعها البشر من قبل.
كذلك، تأتي تغريدة كوك لتركز على أن أبل أيضاً أرادت أن توصل من هذا الإعلان فكرة أنها "سحقت" كماً هائلاً من الإمكانيات المتطورة، ووضعتها في قلب جهاز لوحي سُمكه 5.1 ملليمتر فقط.
وعلى الرغم من أن الرسائل واضحة، إلا أن مغزاها الخفي قد يكون هو السبب في حالة الغضب التي سيطرت على الفنانين، الذين رأوا أبل تحاول من خلال إعلانها الجديد أن تُصدّر فكرة أن تطور التكنولوجيا سيتفوق على اللمسة البشرية التي وضعها مُبدعون عبر التاريخ، في منتجات غيرت تعامل البشر مع حياتهم وإدراكهم لمستوى الإبداع والابتكار.
خروج هذا الإعلان بهذا التنفيذ المعقد والرسائل المتداخلة يأتي في توقيت حرج بالنسبة للشركات التقنية، ففي ظل دخولهم في سباق نحو تطوير أجهزة وتقنيات تقدم مزايا ذكاء اصطناعي، يتخذ المبدعون من البشر موقفاً دفاعياً، يحاولون من خلاله وضع حد لهذا التطور، كي تظل لهم السيطرة في سير العالم نحو المستقبل، وألا يأتي عصر تستبدلهم فيه الأنظمة الذكية بسبب تفوقها عليهم في القدرات والإمكانيات.
كما انتقد البعض اختيار أغنية All I need is You لتكون هي أغنية الإعلان، ففسرها البعض بأن الشركة الأميركية ترى جهازها الجديد iPad Pro 2024، بكل ما يحتويه من تقنيات متطورة من بينها الذكاء الاصطناعي، بديل لجميع الأدوات الناتجة عن الإبداع البشري، والتي تم سحقها خلال إعلان.
بل ووصل الأمر إلى حد اتهام أبل بالنرجسية، وأنها غير قادرة على الاستماع وإدراك الحالة العامة التي يعيشها جمهور الفنانين والمبدعين مع التطور السريع لتقنيات الذكاء الاصطناعي، التي أصبحت منصاتها قادرة على تصميم الصور وإنشاء مقاطع الموسيقى، بل وإنشاء الفيديوهات، من مجرد أوامر نصية.
البعض استوعب الرسالة التي قصدتها أبل القائمة على مفهوم تقديم منتج واحد "نحيف" وخفيف الوزن ويتضمن كماً هائلاً من الأدوات والتقنيات، وذلك انطلاقاً من الفكرة التي استخدمها الراحل ستيف جوبز، مؤسس أبل، عندما كشف لأول مرة عن جهاز "آيبود" الموسيقي، واستخدم عبارة "تخيل الأمر وكأنك تضع 1000 أغنية في جيبك".
ولكن هذه الفئة أيضاً هاجمت طريقة تنفيذ أبل لهذا الاتجاه التسويقي، إذ رأت أن الشركة قامت بتضخيم تصورها للفكرة، كي توضح حجم الإبداع والتطور داخل أجهزة آيباد الجديدة، ولكنها انحرفت عن مسارها خلال التنفيذ، فأصبحت الرؤية النهائية للإعلان أقرب إلى تدمير أدوات الإبداع البشري منه إلى تكثيفها في منتج واحد.
2024 أصبحت 1984
يرى بعض الفنانين أن أبل من خلال إعلانها الجديد Crush قد خالفت رؤيتها الخاصة، والتي وضعتها في إعلانها الشهير "1984"، والذي عُرض في بطولة كرة القدم الأميركية Super Bowl في عام 1984، وكان يركز على فكرة أن حواسيب ماك ستغير مفهوم العالم عن الأجهزة الحاسوبية للأبد، وستكسر الصورة النمطية للحواسيب.
في ذلك الوقت، كانت أبل تستعد للخروج عن المألوف وتقديم تجربة مختلفة كلياً لسوق الحواسيب مع قدوم أجهزة ماك، لذلك فرمية المطرقة، التي أدتها البطلة الإنجليزية آنيا ماجور في رياضة رمي القرص، التي حطمت الشاشة التي كانت تعرض شخصية "الأخ الأكبر Big Brother"، والتي تضمنتها رواية 1984، للروائي البريطاني جورج أورويل، كانت بمثابة تحطيم للأفكار المتحجرة وفتح آفاق جديدة للإبداع البشري.
لذلك، سخر بعض الفنانين من أن إعلان "السحق" الجديد من أبل نفسها يدمر فكرتها عن الإبداع البشري، لأنها سحقت أدواته تحت وطأة آلة سحق صناعية، لتستبدلها جميعاً بجهاز إلكتروني، يمنح البشر بدائل افتراضية، لكل ما هو مادي وحقيقي في حياتهم.
وذهب بعض الفنانين إلى أن إعلان Crush جعل عام 2024 أشبه بعام 1984، في إسقاط على عبارة استخدمتها أبل في إعلانها القديم، لتعبر عن أن حواسيب ماك ستجعل عام 1984 لا يشبه أبداً رواية "1984".
هجوم كبير
شارك فنانون كبار في انتقاد أبل بسبب الإعلان، إذ خرج ريد مورانو، مخرج مسلسل Handmaid's Tale الشهير، ليطالب تيم كوك وشركة أبل بضرورة تدارك الموقف، وألقى باللوم عليهم لأن اختيارهم لم يكن موفقاً.
كذلك سخر إيد سلومون، كاتب فيلم Men in Black المعروف، من الإعلان، وكتب منشوراً على "إكس" وكأنه يتحدث بلسان أبل عن رسالتها من الإعلان قائلاً: "من يحتاج إلى البشر وحياتهم وكل ما يجعل لها قيمة؟ قم بالغوص الآن في هذا الجهاز التقني الجديد، وامنحنا روحك".
جميع الانتقادات اتفقت على أن توقيت طرح أبل لهذا الإعلان لم يكن موفقاً بالمرة، فلم يكد يمر عام على احتجاجات وإضرابات عُمال هوليوود، بشأن اتجاه شركات الإنتاج الفني والسينمائي نحو الاعتماد بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي، وخسارة عدد كبير من مطوري الألعاب والتطبيقات لوظائفهم، بل ودخول فنانين مشهورين في صراعات قضائية بسبب انتهاك حقوق ملكيتهم الفكرية لأصواتهم وأعمالهم الفنية، بعد شيوع إنتاج أعمال فنية تحاكي أساليب البشرية دون إذنهم.