يحب الإيطاليون جبن موزاريلا، ودرج الفرنسيون على تناول خبز باجيت، أما النيجيريون فيستطيبون أرز جولوف، ما يقابل ذلك لدى الأميركيين هو برجر معه بطاطا مقلية، كما يرغبون بأن يكون رخيصاً.
منذ طرح الأخوان ماكدونالدز رؤيتهما لبرجر سريع التحضير بسعر 15 سنتاً في 1948، أصبح لحم البقر الرخيص سمة أميركية، وتكاد تكون حقاً مكتسباً إلى جانب حق التصويت وحفلات التخرج في المدارس الثانوية.
لكن هذا الحق صار يبتعد في أيامنا هذه عن متناول كثير من الأميركيين، إذ بلغ متوسط سعر البرجر في مطاعم الوجبات السريعة في الربع الثاني من العام 8.41 دولار، وتلك زيادة 16% عما كان عليه منذ خمس سنوات، وفقاً لبيانات منصة "إجنايت منيو" (Ignite Menu) التابعة لشركة استشارات الأغذية "تكنوميك" (Technomic).
حتى لدى "ماكدونالدز"، ارتفع متوسط سعر برجر "بيج ماك" إلى 5.29 دولار في يونيو، بزيادة 21% عن متوسط 2019 (والمقصود هنا الشطيرة فقط، وليس وجبة تشمل بطاطا مقلية ومشروب)، لقد أصبح سعر البرجر مرتفعاً لدرجة أن المستهلكين من ذوي الدخل المنخفض يحجمون عن التردد على فروع المطعم، فتسبب ذلك بأول انخفاض في مبيعات الشركة منذ أربع سنوات، حسبما أظهرت أرباح الربع الأخير.
واستجابت الشركة لهذا الانخفاض عبر تقديم مزيد من العروض، مثل طرح وجبة توفير أو عرض من قبيل "اشترِ واحدة واحصل على الثانية مجاناً".
يبدو أن خطتها هذه قد تنجح، فقد حذت سلاسل الوجبات السريعة الأخرى حذو "ماكدونالدز"، لكن يخطئ من يظن أن حروب وجبات التوفير هذه ستُغرق السوق بالبرجر الرخيص، لأن ذلك يعكس عدم فهم لما يحدث ليس في قطاع الوجبات السريعة فحسب، بل في قطاع اللحم البقري.
لقد سجّل متوسط سعر التجزئة للحم البقري المفروم في المدن الأميركية في أغسطس 12.30 دولار للكيلوجرام، وهذا سعر قياسي يعكس انخفاض عدد قطعان الماشية إلى مستويات غير مسبوقة تاريخياً. بعد أن بلغت أعداد الماشية أوجها في 2019، ما انفكّت تنخفض لتبلغ في يناير رقماً هو الأدنى منذ 73 عاماً.
تقلص قطيع الماشية
كثير منا يتذكرون 2020 على أنه عام الوباء، لكن المزارعين يتذكرونه كسنة قحط. عندما تنحسر المراعي الخضراء، يرسل المزارعون قطعانهم للذبح قبل استيلادها، فيتراجع عددها وترتفع أسعارها.
مع أن الهطولات تحسّنت هذا العام، لكن هذا التحسّن لم يعمّ كافة أرجاء البلاد. وبرغم انخفاض سعر علف الماشية، جاء ارتفاع أسعار الفائدة والنفقات التشغيلية ليحولا دون عودة كثيرٍ من المزارعين لتنمية قطعانهم، أو ما يسمونه "إعادة بنائها". وعليه، سيستمرّ عدد القطعان بالانحسار فيما تواصل أسعار اللحوم الحمراء ارتفاعها.
تتغيّر أحجام قطعان الأبقار دورياً، وبالتالي أسعارها، وفقاً لظروف السوق والطقس السائد. بدايةً، على الأسعار أن ترتفع بما يكفي ليقرر المنتج زيادة قطيعه. ثم يأتي العامل البيولوجي لتكاثر الأبقار والذي يمرّ بدورةٍ طويلة: فعلى المنتج أن يستبقي بعض العِجلات (أو أبقار التكاثر) بدل أن يرسلها كي تُذبح. لكن مدة الحمل من الإخصاب إلى الولادة تستغرق تسعة أشهر. ثم تبقى العجول الصغيرة بضعة أشهر بصحبة أمهاتها قبل أن تُعلف في المزارع.
في آخر الشوط تُرسل الماشية إلى مزارع التسمين حيث يمكن أن تبقى لما يقرب من 300 يومٍ بحسب سرعة اكتسابها للوزن. وبذلك يتراوح عمر البقرة لدى ذبحها ما بين 30 و42 شهراً. (بالمقارنة مع الدجاج الذي يُذبح قبل بلوغه شهره الثاني.) وبسبب هذه العملية الطويلة، قد يستغرق الانتقال من أدنى نقطة إلى الذروة خمس سنوات.
تغير المناخ
لكن برغم بلوغ الأسعار مستوياتٍ قياسية، لا يمكن الجزم بأن عملية إعادة البناء آتية لا محالة. إذ إن شركات تعبئة اللحوم الكبرى، التي تشتري الأبقار في مرحلة التسمين، ترسل إشارات مختلطة. لقد قالت عملاقة قطاع اللحوم "تايسون فودز" (Tyson Foods) في مكالمة مناقشة أرباحها في أغسطس إن "الأرقام لا تدعم" إعادة بناء القطيع.
بيد أن منافستها "جيه بي إس" (JBS) قالت في مكالمة أرباحها بعد مضي أقل من أسبوعين، إنها ترى بعض العلامات الإيجابية مع انخفاض عدد الأبقار الصغيرة المرسلة للذبح بنحو 15%، ما يعني استبقاء مزيد منها للتكاثر.
مع ذلك، فإن نبوءة "جيه بي إس" بهذا الانتعاش في حجم القطيع، أي عدد الأبقار الجديدة الجاهزة للذبح، ليست قابلة للتحقيق قبل 2026. قال ديريل بيل، أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة ولاية أوكلاهوما، إن هذا يعني أن أسعار لحوم البقر سترتفع قبل أن تبدأ في الانخفاض.
حتى لو جاء هذا الانفراج، فهو لا يعني أن أسعار لحوم البقر ستنخفض فوراً، وذلك بسبب ما قد يشير إليه بعض مربي الماشية بحال الطقس، في حين يعرف آخرون أنه تغيّر المناخ. لطالما تعرّض قطاع اللحوم الحمراء لانتقادات باعتباره سبباً لتغير المناخ، ولكنه ضحية له أيضاً. ذلك أن تغير المناخ يزيد أمد القحط وشدته، فيدفع المنتجين إلى الإبقاء على حجم الماشية صغيراً لفترة أطول، ويستمرّ انخفاض العدد الأقصى للأبقار المتوفرة على مدى العقود مع كل دورة.
لكن الجفاف الأخير ليس وحده المسؤول عن التراجع التاريخي لأحجام القطعان، فقد أسهم فيه أيضاً جفاف عام 2010. قال لانس زيمرمان، المحلل البارز في مجال البروتين الحيواني في "رابوبانك" (Rabobank)، إن حالات الجفاف التي شهدتها السنوات الخمس عشرة الماضية تعتبر "من بين الأسوأ خلال 100 عام مضت".
يبلغ متوسط أعمار المزارعين ومربي الماشية في الولايات المتحدة 58 عاماً. وينظر منتجو لحوم البقر المتقدمون في السن إلى أسعار الفائدة المرتفعة، وما يستتبعها من ارتفاعٍ في تكاليف تربية قطعانهم، وكذلك إلى حالات الجفاف، ويوازنون بين هذه العوامل والأسعار المرتفعة التي يمكنهم جنيها مقابل تسييل قطعانهم الآن.
عليه يسهل فهم سبب تطلع كثير منهم إلى التقاعد. قد يستمر استخدام بعض أراضي من اختاروا التقاعد في إنتاج لحوم البقر، فيما سيصمد عدد من مربي الماشية الآخرين، بانتظار تحسن الظروف بينما يواصلون أعمالهم كما هو معتاد. لكن الأرجح هو تناقص أعداد الأبقار وتراجع أعداد مربي الماشية.
الدجاج هو البديل
إبان ذلك ترتفع تكاليف أخرى مثل العمالة، لكن مطاعم الوجبات السريعة ستسعى لتبقى عند حسن ظن المستهلكين وستستمر في تقديم العروض الترويجية، وتفعل ما في وسعها لاستقطاب الزبائن، حسب روب دونجوسكي، الرئيس العام لقسم الأغذية والزراعة العالمي في شركة الاستشارات "كيرني" (Kearney).
للمساعدة في خفض الأسعار، يُرجح أيضاً أن تقتطع المزيد من التكاليف من عملياتها الخاصة أينما أمكن، مثل إزالة خيارات تناول الطعام داخل المطعم في بعض الفروع. قال زيمرمان: "على الأرجح عروض التشيزبرجر الرخيصة ستغدو قليلة ومتباعدة، مع استثناء عدد قليل من العروض الترويجية القوية"، وبيّن أنه لا يتوقع أن تبدأ الأسعار بالانخفاض حتى 2030، مضيفاً أنه حتى حينها لن تعود الأسعار إلى ما كانت عليه. أي بعبارة أخرى، استعدّوا لتناول مزيد من شطائر الدجاج.
قد يتعيّن على الأميركيين في نهاية المطاف أن يتكيّفوا مع واقع جديد يعيدهم إلى أيام ما قبل "ماكدونالدز"، حينما كان لحم البقر طبقاً شهياً باهظ الثمن يمكن الاستمتاع به من وقت لآخر. هذا هو رأي جوناثان فولي، عالم البيئة والمدير التنفيذي لمشروع "دروداون" (Drawdown)، وهي منظمة غير ربحية تركز على حلول المناخ القائمة على العلم. قال فولي: "سيظل للحم الأحمر دور في قطاع الزراعة الأميركي، وإن يكن على نطاقٍ أصغر، لكنه أكثر كلفة واستدامة".
نموذج جديد لاستهلاك اللحوم
هذا هو النموذج الذي لطالما اتّبعته "نيمان رانش" (Niman Ranch)، وهي شركة صغيرة لإنتاج اللحوم، تملكها شركة "بيردو فارمز" (Perdue Farms). إنها تتخذ خطوات إضافية في رعاية حيواناتها وأراضيها، فهي لا تستخدم المضادات الحيوية أو الهرمونات المضافة، لكنها تعرض هذه اللحوم عالية الجودة بأسعارٍ أعلى من السوق.
لقد أثبت النموذج نجاحه في أوساط المزارعين ومربي الماشية، حيث تدفع لهم "نيمان رانش" علاوة ثابتة على سعر هذا المنتج، ولا يمانع الذواقة في دفع هذه الأسعار المرتفعة. مثلاً، في "سكواترز باب" في سولت ليك سيتي، سيكلفكم تشيزبرجر معدّ من لحوم "نيمان رانش" 17 دولاراً، وهذا سعر جيد جداً بالمقارنة مع مبلغ 185 دولاراً الذي ستدفعونه مقابل طبق أضلاع توماهوك من لحوم "نيمان رانش" لشخصين في مطعم "فيرتو أونست كرافت" في سكوتسديل بولاية أريزونا.
لكن تغير المناخ يؤثّر حتى على "نيمان رانش"، التي تعاني أيضاً من انخفاض العرض بفعل الجفاف وارتفاع تكاليف التشغيل. وهو ما يتجلى في ارتفاع أسعار لحومها أيضاً. قبل عشر سنوات، كان سعر أضلاع توماهوك هذه 90 دولاراً، وترك هذا الارتفاع للشركة مهمة ابتداع طرق جديدة لاعتصار دولارات أكثر من كل بقرة.
قال كريس أوليفيرو، المدير العام السابق في "نيمان رانش" والذي يشغل الآن منصب نائب الرئيس لتحول سلسلة التوريد في "بيردو": "إن أوقاتاً كهذه تدفعنا لإعادة التفكير في ما نفعله وكيف نفعله".
هذا المحتوى من "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ"