تكتظ خزائن الأميركيين بالملابس لدرجة أن رفوفها وقضبان التعليق تنحني تحت أثقالها، فتبدو وكأنها تستنجد عسى أن تجد من يخفف عنها، ولا يقتصر الأمر على الخزائن، فتجد الملابس مكدسة تحت أسرّتهم أيضاً، وإن كان هنالك ما يملك الأميركيون فائضاً منه، فهو الملابس التي لم تعد تناسبهم مقاساً، والأحذية التي لم تكن مريحةً منذ ابتياعها، والقبعات والقمصان المجانية التي لم يطلبوها أو يرغبوا بها من الأساس.
كيفية الحدّ من فيض الثياب لطالما كان سؤالاً بلا إجابة، سواء بالنسبة لمن يحاولون إفراغ بعض الأشياء من خزائنهم، أو من يقلقون من أن ينتهي هذا الفائض في مكبات النفايات، حسب معظم التقديرات، يشتري الأميركي قطعة ملابس على الأقل في الأسبوع، صُنع أغلبها على افتراض أن الشاري لن يرتديها إلا بضع مرات، ثم يودعها في خزانة مكتظة بالملابس.
إقبال على الملابس المستعملة
لكن في السنوات القليلة الماضية، ظهرت بارقة أمل في نهاية نفق النمط الاستهلاكي للملابس، إذ يبدو أن اهتمام المتسوقين الأميركيين، بالأخص من هم دون سن الأربعين، بالملابس المستعملة يتزايد.
صحيح أن الملابس الجديدة تتوفر اليوم بأسعار أرخص وكميات أكبر من أي وقت مضى، إلا أن كثيراً من تصاميمها مملة ومكررة، كما أن الفتور الذي عمّ قطاع الأزياء في ما بعد الجائحة أيقظ شعوراً ينتاب المراهقين، وهو أن الملابس القديمة أجمل من تلك التي تقترحها عليهم العلامات التجارية (أو الخوارزميات كما كان في الآونة الأخيرة).
سجلت سوق الملابس المستعملة في الولايات المتحدة نمواً أسرع بسبع مرات مقارنة بسوق الملابس الجديدة في العام الماضي، فيما توقع تحليل صدر في 2023 عن شركة "جلوبال داتا" (GlobalData) ومنصة إعادة بيع الملابس "ثريد أب" (ThredUp) توسع السوق بنسبة 11% سنوياً حتى 2028. برغم أن سوق الملابس المستعملة لا تشكل إلا جزءاً بسيطاً من إجمالي سوق الملابس الأميركية، يتعذر تجاهل حجمها الذي بلغ اليوم 43 مليار دولار.
دخول شركات الموضة إلى السوق
هناك إذاً فرصة تجارية واضحة، وبالفعل تحاول الشركات الناشئة استغلالها لتحقيق مكاسب منذ ما يربو على عقد. إذ يرغب كثير من الناس ببيع كنوز الملابس القديمة التي يحتفظون بها في خزائنهم لو توفرت لهم طريقة سهلة لفعل ذلك، كما ثمة كثير من الراغبين بشرائها.
إن نجحت بالجمع بين الطرفين على منصة متخصصة بالأزياء لا تشبه عرض الأغراض المستعملة في باحة المنزل، وتعد بتقديم تشكيلة متنوعة أكثر من متاجر الملابس القديمة أو المستعملة، فستتمكن عندئذ بصفتك الوسيط من الحصول على نسبة من الأرباح عن كل عملية بيع. كما يمكنك الترويج لمنصتك على أنها بديل ملتزم بمعايير الاستدامة البيئية عن "شي إن" و"تيمو".
هذا بالضبط ما حاولت عدة شركات ناشئة أن تفعله، ومنها مثلاً "ريل ريل" (RealReal) و"فيستيير كولكتيف" (Vestiaire Collective) وهما تستهدفان المتسوقين الباحثين عن ملابس راقية، و"بوشمارك" (Poshmark) و"ثريد أب" (ThredUp) الموجهتين لمن يبحثون عن تصاميم رائجة بأسعار جيدة، إلى جانب "ستوك إكس" (StockX) و"جريلد" (Grailed) للمهتمين بآخر صيحات الموضة، و"ديبوب" (Depop) للفتيات اللواتي يعشقن التصاميم العتيقة التي عادت بقوة.
لقد تنامى إقبال المستهلكين على الملابس المستعملة لدرجة دفعت بعض العلامات التجارية التقليدية لدخول السوق، حيث طرحت كل من "أيلين فيشر" (Eileen Fisher) و"ليفايز" (Levi’s) و"لولوليمون" (Lululemon) و"ماديويل" (Madewell) و"باتاجونيا" (Patagonia) خطوط بيع ملابس مستعملة عبر الإنترنت. كما أعلنت "والمارت" قبل فترة وجيزة عزمها عرض بعض الملابس من "ستوك إكس" للبيع عبر موقعها الإلكتروني.
لكن معظم هذه الشركات أخفقت في تحقيق أرباح ثابتة، أو حتى في تحقيق أي ربح من الأصل، بعد مضي عقد أو أكثر على دخولها السوق.
نماذج عمل مختلفة
أدرجت مثلاً كل من "ريل ريل" و"ثريد أب" و"بوشمارك" أسهمها في البورصة، لكن تلك الأسهم فقدت كثيراً من قيمتها الأولية على مر السنين. وقد أعاد المستثمرون الاستحواذ على "بوشمارك" في 2023، بعد أقل من سنتين فقط من طرح أسهمها. (وقال متحدث باسم الشركة إنها عادت إلى تحقيق الربح كشركة خاصة).
أمّا "ستوك إكس" التي أُشيع في الماضي أنها تعتزم طرح أسهمها للاكتتاب العام، فقد شهدت عدة جولات تسريح موظفين خلال السنوات الماضية. وفيما تقول "إتسي" (Etsy) التي اشترت "ديبوب" في 2021 مقابل 1.6 مليار دولا، إن مبيعات المنصة مستمرة في النمو، لمّح رئيس "ديبوب" التنفيذي كروتي باتيل جويال في مقابلة مع "فوج بيزنيس" هذا العام إلى أن الشركة ما تزال لا تحقق ربحاً. وقال آرون كيريس، الشريك في استراتيجية العملاء والتسويق في "باين آند كو" (Bain & Co) إن "العرض والطلب كبيران جداً"، ولكن فيما عدا ذلك فإن الأرقام ليست لصالح الشركات.
تعمل منصات إعادة البيع بأساليب متنوعة، لكن بشكل عام يمكن تصنيفها تحت نموذجين تجاريين، فثمة شركات تحتفظ بالبضاعة لديها، وأخرى تترك البضاعة لدى البائع إلى حين إتمام البيع. قال كيريس إن احتفاظ الشركات بالبضاعة، مثلما تفعل "ريل ريل" و"ثريد أب" يفترض أن يكون من ناحية نظرية "أفضل للشاري والبائع على حدّ سواء". فذلك يتيح مثلاً تصوير البضاعة بدقة وشحنها بسرعة، ما يصب في مصلحة الطرفين.
ومقابل هذه التسهيلات، يتنازل البائع عن نسبة من الربح في كل عملية بيع. فتتقاضى المنصات أموالاً أكثر من أجل تغطية كلفة شراء البضاعة وشحنها إلى المستودع حيث تُفحص وتُصنف وتُغسل وتُصور كي تُعرض، زد على ذلك كلفة ومشقة التعامل مع البضاعة المرتجعة.
أشار كراكوفيسكي، مدير شؤون البيع بالتجزئة في الأميركتين لدى شركة "إيرنست آند يونج" إن هذا النموذج يترافق مع بعض المخاطر، ففي كثير من الأحيان تتلقى هذه المنصات بضاعة غير صالحة للبيع، ولا تكتشف ذلك إلا بعد أن تكون قد دفعت ثمنها، وتكلفت على فحصها، ما يضطرها بالتالي لإيجاد طرق أخرى للتخلص منها، وغالباً ما تلجأ إلى بيعها بالجملة إلى وسطاء يشحنونها إلى خارج البلاد لبيعها أو لرميها في المكبات.
قال كراكوفيسكي: "الحقيقة المؤسفة هي أن بعض هذه الملابس قد ينتهي بها الأمر في مكبات النفايات". وكثيراً ما تصح مقولة أن لا خير في ما رماه الطير في هذا السياق.
تهديد الموضة السريعة
برأي كيريس، تجنب الاحتفاظ بالبضاعة هو الخيار الأفضل لخفض التكاليف. إذ إن منصات البيع التي تعمل كوسيط فقط بين البائع والشاري لا تحتاج إلى كثير من الأصول، فيتولى الباعة التصوير والتغليف والشحن، ويحتفظون بالتالي بنسبة أكبر من سعر المبيع. وهذا شبيه إلى حدّ ما بالنموذج الذي تتبعه شركة "إي باي" (eBay)، والذي أثبت قدرته على تحقيق نجاح مستقر، حيث ارتفعت أسهم الشركة بنسبة 50% فيما انقضى من 2024، وهي تحقق أرباحاً بمليارات الدولارات سنوياً. لكن "إي باي" تستفيد أيضاً من بيع منتجات متنوعة، بينها بضاعة بأسعار أعلى وهامش ربح أكبر من الملابس المستعملة.
زد على ذلك أنه برغم تكدس كميات هائلة من الملابس الزائدة في منازل الأميركيين، فإن القطع التي يرغب الناس بشرائها محدودة. وسأل كراكوفيسكي: "كم من الخزائن تخفي كنوزاً؟" إذ لا يمكن لهذه المنصات أن تطلب ببساطة مزيداً من القطع التي تحقق مبيعات عالية، كما لو كانت تطلبها من مصنع، بل يتعين عليها أن تقنع الناس واحداً تلو الآخر بالبحث في خزائنهم وإرسال هذه القطع.
يبرز أيضاً تحدي الموضة السريعة. فالضغط المتزايد لخفض الأسعار الذي تفرضه متاجر الموضة السريعة قليلة الجودة، يعيد تحديد ما يعتبره المتسوق الأميركي سعراً منطقياً، وكلما انخفض هذا السعر، يصعب الحفاظ على هامش ربح في تجارة الملابس المستعملة. مع مرور الوقت، ستصبح أغلب القطع المعروضة على منصات إعادة البيع ملابس تنتمي إلى الموضة السريعة التي يعتبرها كثيرون بلا قيمة.
تشجيع على الشراء
لقد دخلت بعض العلامات التجارية التقليدية سوق الملابس المستعملة بغرض تحسين صورتها، وليس لتعزيز إيراداتها. قال كراكوفيسكي الذي قدّم استشارات لعلامات تجارية بارزة حول برامج إعادة البيع، إن هذه الخطوة "ملائمة جداً لسرديتها المتعلقة بالاستدامة ولثقافة الشركة وصورة العلامة التجارية... هي تدرك أن هذه التجارة لن تصل قطّ إلى الحجم اللازم، نظراً لتطلبها جهداً بشرياً كبيراً".
بالتالي، فإن أهداف منصات إعادة البيع بأنواعها كافة لا تختلف كثيراً عن غايات أوائل متاجر الملابس المستعملة مثل "جود ويل" (Goodwill)، التي نشأت كتجارة بالتزامن مع نمو الإنتاج الصناعي للملابس في بداية القرن العشرين.
فقد ساعدت هذه المتاجر على إقناع الأميركيين بشراء ملابس أكثر مما تحتاجه عائلاتهم، وهو أمر كان يُعتبر في حينها من مظاهر البذخ. وهكذا تحول سلوك شائن اجتماعياً إلى فرصة للعطاء، إذ بات الناس يشعرون براحة حيال شراء ملابس جديدة، فيما يتبرعون بملابسهم القديمة.
لدى منصات إعادة البيع القدرة على إحداث تحول في التفكير مثلما فعلت محال بيع الملابس المستعملة قبل أكثر من قرن، فهي تحوّل الأموال المهدورة المعلقة على شكل ملابس في الخزائن إلى فرص إنتاج، وتطمئن المتسوقين إلى أن استثمارهم لن يكون مهدوراً، إن ارتدوا فستاناً أو حذاءً جديداً لبضع مرات فقط.
لعل أكبر دليل على هذا الالتزام من عالم الموضة يتمثل بالمنصة الجديدة "كرواسانت" (Croissant)، وهي تأتي على شكل إضافة لمتصفح "جوجل كروم" ترافق المستخدم خلال التسوق عبر الإنترنت، وتحدد بواسطة الذكاء الاصطناعي السعر المضمون الذي يمكن للمتسوق الحصول عليه إن أعاد حقيبة اليد أو النظارات الشمسية التي يوشك على شرائها إلى الشركة في غضون سنة.
قال جون هاورد، الرئيس التنفيذي والمؤسس الشريك لـ"كرواسانت" إن بيانات الشركة تشير حتى الآن إلى أن أسعار إعادة البيع المضمونة تشجع المتسوقين على شراء قطع أغلى مما يختارون عادةً. فالوعد بأن تحافظ السلعة على جزء من قيمتها عند إعادة بيعها يطمئنهم معنوياً، ويشعرهم وكأن هناك تخفيضاً على سعرها، مع أنهم لن يتمكنوا من استرداد هذا المبلغ إلا بعد أن يخرجوا هذه الملابس من الخزانة لتعرضها "كرواسانت" على منصات "ديبوب" و"بوشمارك" وغيرها من المنصات التي نستخدمها جميعاً. وما أن يصبح المال في يدك، حتى تعود على الأرجح للتسوق مجدداً.
هذا المحتوى من "اقتصاد الشرق مع بلومبرغ"