تونس.. جيش الفلامنجو الوردي يستعمر المناطق الرطبة

time reading iconدقائق القراءة - 9
طيور "الفلامنجو" في إحدى المسطحات المائية التونسية بعد رحلة هجرة طويلة - "الشرق"
طيور "الفلامنجو" في إحدى المسطحات المائية التونسية بعد رحلة هجرة طويلة - "الشرق"
تونس-نضال عازم

اكتشف الفريق العلمي لجمعية أحباء الطيور في تونس، موطناً جديداً لطيور النحّام، المشهورة عالمياً باسم "الفلامنجو"، إذ تم رصد عمليات تعشيش كبرى خلال السنوات الأخيرة على الساحل التونسي، تُعد الأولى من نوعها، في ما يُمثل نسبة صغيرة من هذه الطيور المهاجرة التي يصل 92% منها إلى المناطق الرطبة شمال إفريقيا.

وبين عامي 2019 و2021، أحصت الجمعية 1100 عشاً لطيور "الفلامنجو" في سبخة الساحلين المحاذية لمطار المنستير على الساحل التونسي، مشيرةً إلى أن كل زوج منها ينجب فرخاً واحداً في أعشاش معدة من طين.

قبل أن تصل إلى وجهتها شمال إفريقيا، تعبر هذه الطيور البحر المتوسط قادمة من منطقة "الكامارج" على السواحل الجنوبية في فرنسا، تاركة خلفها شتاء أوروبا القارس، بحثاً عن الدفء والغذاء، وللتزاوج في بعض الأحيان متى توفر لها الهدوء والأمان، لتعيش في موطنها الجديد ضمن معسكرات كبيرة تضم الآلاف.

تصل أسراب الفلامنجو لقضاء الشتاء في سبخة السيجومي بالعاصمة التونسية، وهي من أكبر المناطق الرطبة في المنطقة، وتأوي أكثر من 120 ألف طائر مائي مهاجر، يستقر منها نحو 30 ألف "فلامنجو" يافع، تتراوح أعمارهم من سنة إلى 4 سنوات، قبل بلوغ لحظة التزاوج التي تستدعي عودتها إلى الجنوب الفرنسي.

وفي معسكرها على الساحل التونسي، تُشكل أسراب النحّام الوردي مشهداً بديعاً، يكسر رتابة المباني الخرسانية المنتشرة في الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية، إذ لا شيء يُقلق راحة العلماء ونشطاء البيئة أكثر من مشاريع التوسع العمراني التي سعت الحكومات المتعاقبة لتنفيذها في المنطقة، لإنشاء مناطق ترفيهية ومنتجعات سياحية.

وبعيداً عن العاصمة، تستعمر أسراب "الفلامنجو" الوردي مناطق رطبة تونسية أخرى، وتحديداً السباخ ذات الملوحة العالية (50 جراماً في اللتر الواحد)، منها معسكر في سبخة محافظة أريانة شمال العاصمة، وآخر في سبخة قربة بمنطقة الوطن القبلي، وثالث في سبخة الساحلين وسط شرقي تونس، إضافة إلى تجمعات في مناطق أخرى جنوباً في خليج قابس الثري بالغذاء، وبحيرة بوغرارة بمحافظة مدنين، وفي جزيرة جربة.

الغذاء والدفء والتكاثر

تُمثل تونس موطناً مهماً للتنوع البيولوجي جنوبي البحر المتوسط، إذ تضم أكثر من 230 منطقة رطبة طبيعة، وأكثر من 900 منطقة مائية اصطناعية، بما في ذلك بحيرات ساحلية وشواطئ وسباخ، شكلت جميعها نُظماً إيكولوجية (بيئية) فريدة، استوجبت حمايتها وفق اتفاقية "رامسار" الدولية، التي تم توقيعها عام 1971، ودخلت حيز التنفيذ في 1975.

وضمت الاتفاقية ما يقارب 90% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بهدف الحفاظ المستدام على المناطق الرطبة، وتدارك المهام الإيكولوجية الأساسية للأراضي الرطبة، وتنمية دورها الاقتصادي والثقافي والعلمي وقيمتها الترفيهية.

وانضمت تونس إلى "رامسار" عام 1981، وسجلت 42 منطقة رطبة ذات أهمية دولية.

يتواجد في كامل المعمورة أكثر من 10 آلاف و400 نوع من عائلات الطيور، يعيش منها في العالم العربي ألف و70 نوعاً، في حين تحتضن تونس 412 عائلة منها، يُصنفها العلماء في 3 أنواع؛ الطيور القارة، والطيور المائية التي تقيم شتاء في مناطق تونس الرطبة، ومناطق أخرى شمال إفريقيا هرباً من شدة البرد الأوروبي، وتصل إلى تونس على مرحلتين، الأولى مطلع سبتمبر من كل عام، وتتجه نحو بلدان جنوب الصحراء، أما الثانية فتصل شمال إفريقيا وتونس مطلع أكتوبر لقضاء الشتاء.

أما النوع الثالث، تضم الطيور القادمة بغرض التكاثر، مثل "اليمامة العابرة" التي تصل تونس وشمال إفريقيا وإثيوبيا والسودان، وطائر الخطاف الذي حطم أرقاماً قياسية في هجرته، إذ تقطع أنثى هذا الطير أكثر من 22 ألف كيلومتر في العام الواحد، إضافة إلى طائر اللقلق.

وفي حديث لـ"الشرق"، أكد عبد المجيد الدبار، الناشط البيئي والخبير الدولي في علم الطيور، أن 172 نوعاً من الطيور المائية تقضي شتاءها في تونس، في حين تكتفي أنواع أخرى من الطيور المهاجرة بالعبور من الأجواء التونسية خلال رحلتها إلى عمق القارة الإفريقية نحو تنزانيا وناميبيا، لافتاً إلى أن تونس تُمثل أحد أبرز مسالك هجرة الطيور الثلاثة بين قارتي أوروبا وإفريقيا، ومنها عبر مضيق جبل طارق بين إسبانيا والمغرب، وطريق تعبره الطيور المهاجرة، مروراً بمصر وسيناء وفلسطين ولبنان وصولاً إلى مضيق البوسفور نحو أوروبا الوسطى وشمال القارة.

ومن بين الوجهات التي تتخذها الطيور في تونس "الوطن القبلي"، وهي مضيق على مسافة 120 كيلومتراً، يصفها الدبار بأنها "يد ممدودة نحو أوروبا في اتجاه صقلية، وتعبرها أصناف الطيور التي ترفرف بأجنحتها، وتلك التي تطلق أجنحتها للريح".

وأضاف الدبار: "تأتي هذه الطيور إلى جبل الهوارية، الذي يُمثل أقرب نقطة تونسية إلى أوروبا، إذ تختار يوماً مشمساً لتمتطِيَ كتل الهواء الدافئ، وتُحلّق في شكل دائري صعوداً لتبلغ ارتفاع يبلغ أحياناً 2000 متر، وحينها تنساب مطلقة أجنحتها القوية نحو صقلية، لتطير أطول مسافة ممكنة قبل أن تضطرها كتل الهواء البارد فوق البحر المتوسط للانخفاض، ومواصلة الرحلة مرفرفة بأجنحتها".

تعداد طيور اللقلق

كما انطلقت في تونس عملية تعداد طيور اللقلق، التي تجرى كل 10 سنوات بشكل متزامن، في جميع أنحاء العالم التي يعيش فيها.

ويرتبط وصول هذا الطائر المعروف أيضاً باسم "الحاج قاسم" أو " بِلّارج " كمعظم الطيور المهاجرة، في الشتاء للتكاثر، إذ تصل الذكور أولاً إلى تونس، لتعيد ترميم أعشاشها وبنائها منتصف شهر ديسمبر، وتلحق أنثى اللقلق بذكرها في فبراير لتجد عشها جاهزاً لوضع البيض فيه ورعاية فراخها حتى نهاية أغسطس، وهو موعد عودتها إلى إفريقيا وتحديداً إلى منطقة بحيرة تشاد، حيث تقضي شتاءها.

وتنقسم اللقالق التي تمر عبر تونس إلى عائلتين، واحدة تنطلق من وسط إفريقيا لتستقر شمالاً على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وتُمثل الطيور التي فرّخت في تونس وشمال إفريقيا، أما العائلة الثانية، فتعبر تونس خلال مارس في الربيع من دون الاستقرار فيها حتى تصل مقصدها في أوروبا، والذي يُمثل موطن تفريخها هي وآبائها.

وفي وقت سابق، وضع علماء تونسيون معدات تتبّع على 9 لقالق انطلقت من تونس، ما مكّنهم من معرفة مسالك هجرتها بشكل دقيق، وسرعة تنقلها وآخر أماكن وصلت إليها واستقرت بها.

وقد استقرت غالبية اللقالق التونسية في ختام رحلتها على ضفاف بحيرة تشاد، غير أن مفاجأة حققها أحد اللقالق التسعة المزودة بجهاز إرسال إشارة، إذ اتخذ وجهة أخرى بعيداً عن أفراد عائلته، ليستقر به المطاف في تنزانيا، ما يفوق ضعف المسافة التي قطعتها عائلته.

وفي حديث لـ"الشرق"، أوضح هشام أزفزاف، المنسق العلمي لجمعية "أحباء الطيور"، أن عملية تعداد اللقلق أحصت حتى الآن 1200 عشّ، أي زوج لقالق، وهي إحصائية تعود إلى عام 2014، ما يُرجح ارتفاع أعدادها في تونس، التي يتم إدراكها بشكل أدق مع نهاية شهر يونيو.

وانطلقت عمليات تعداد اللقلق على الصعيد العالمي قبل عقدين من الزمن، وذلك بعد أن أدركت مراكز البحوث تدهور أعدادها وتراجعها بنحو 6% سنوياً، لتبلغ أعدادها وضعية حرجة.

ويتابع نشطاء البيئة في تونس على مدى عقود، حركة الطيور المهاجرة بمختلف أنواعها، لحمايتها من مخاطر الانقراض واختلال التوازن الإيكولوجي، إذ أقرت تونس منظومة تشريعية مهم لحماية التنوع البيولوجي، وتنظيم الصيد وردع المخالفين، غير أن وطأة تغير المناخ، أدت في سنوات الجفاف الأخيرة إلى تراجع مساحات المناطق الرطبة، مما يُهدّد آلاف الأنواع الحيوانية والنباتية.

تصنيفات

قصص قد تهمك