"الحشاشين".. حين يصبح الخيال أكثر حضوراً من التاريخ

time reading iconدقائق القراءة - 6
الملصق الدعائي لمسلسل "الحشاشين" - facebook/AlhashashenSeries
الملصق الدعائي لمسلسل "الحشاشين" - facebook/AlhashashenSeries
القاهرة -عصام زكريا*

ساهم الجدل الذي سبق، وصحب بداية عرض، مسلسل "الحشاشين" في الاهتمام به، لكنه تسبب، من جهة أخرى، في نصب ساتر من الزجاج الملون بين المشاهدين والعمل، فباتت طريقة استقباله وتقييمه مرهونة بموقف كل مشاهد من هذا الجدل، وبات من الصعب مشاهدته بمعزل عن هذا الجدل، خاصة والعمل لم يزل يعرض، تاركاً خلف كل حلقة منه مزيداً من القراءات والاستنتاجات والأحكام.

لا تأريخ.. ولا تأويل

الآن، وبعد أن أوشك العمل على الانتهاء، وخفتت حدة الجدل، وتبين أن كثيراً من التفسيرات التي لاحقته، باعتباره عملاً دعائياً ضد جماعة "الإخوان المسلمين"، أو باعتباره تجميلاً لصورة حسن الصبّاح، قد ثبت أنها كانت متسرعة ومتعسفة، وأنه أصبح من الممكن الآن النظر إليه بموضوعية كعمل فني قائم بذاته، بعيداً عن كل هذا الجدل.

"الحشاشين" في بداية ونهاية المطاف هو نتاج مخيلة مستوحاة من التاريخ، كما تنص عناوينه، وليس تأريخاً، أو محاولة لتأويل هذا التاريخ، حتى لو كان، بالفعل، يحمل تاريخاً، ومحاولة لتأويل هذا التاريخ.

المخيلة هي الأساس والمحرك الأول في "الحشاشين"، ذلك أن حسن الصبّاح في المسلسل هو شخصية خيالية تمتلك من مقومات الشخصية الدرامية، ما يجعلها مختلفة عن أي كتاب تاريخي أو أي محاولة لاختصاره في تأويل ما. 

رحلة سقوط

"صبّاح" المسلسل هو شخصية من لحم ودم لها خصوصيتها التي لا تشبه غيره، وفي الوقت نفسه هي شخصية روائية نمطية Archtype، من التي يطلق عليها الـAnti-hero والتي يمكن أن نترجمها بـ"البطل اللابطل". والمسلسل نفسه ينتمي إلى "ثيمة" رحلة السقوط.

في الدراما هناك ما يعرف برحلة البطل، تلك الشخصية التي تستطيع التغلب على ما يعترضها من أعداء خارجيين أو عيوب ونقاط ضعف داخلية، ليصل إلى قمة البطولة بالتضحية بنفسه من أجل الآخرين، ولكن الدراما تروي لنا أيضا قصة البطل الذي يسقط، إذ يفشل في امتحان البطولة الأخير، أو قبل الأخير، وغالباً ما يكون امتحان الانتصار على الذات، فيتحول إلى بطل نقيض، تغلبه عيوبه، ويغرق في الجانب المظلم، على طريقة دارث فيدر في Star Wars أو آل باتشينو في Scarface أو أحمد ذكي في "الإمبراطور"، وأحيانا يكون هناك شخصيتان صديقان يسقطان معاً، كما في الفيلم الفرنسي Borsalino، الذي تحول إلى "سلام يا صاحبي" و"الصعاليك" وأعمال أخرى.

وأحياناً يكون هناك صديق ثالث يستطيع النجاة بنفسه من فخ السقوط، كما في "طيور الظلام"، ومسلسلي "جزيرة غمام" و"القاهرة كابول" لعبد الرحيم كمال مؤلف "الحشاشين".

يحمل حسن الصبّاح (كريم عبد العزيز) ملامح مختلفة من هؤلاء الأبطال الساقطين: رجل بدأ حياته بأحلام كبيرة ونبيلة، ولكن بذرة الفساد المزروعة فيه ظلت تنمو وتكبر دون أن يتصدى لها، أو يحاول التغلب عليها، وفي النهاية طغت وغطت عليه.

دراما كونية وإخراج عالمي

يصيغ عبد الرحيم كمال فكرته في قالب درامي بارع: بناء مأساوي محكم، شخصيات تنبض بالحياة، لكل منها طبيعته وقدره ومصيره المحتوم، وفي الوقت نفسه تتحكم فيهم جميعا دراما كونية تفرق وتجمع، فتتلاقى مصائرهم وتتصارع وتصل لذروة المأساة، كما في مسرحية لشكسبير أو أوبرا لفاجنر.

بجانب الشخصيات الثلاث الرئيسية (الصباح ونظام الملك والخيام) يمتلئ "الحشاشين" بالشخصيات المكتوبة جيداً: دنيا زاد زوجة الصباح، زيد بن سيحون، برزك أميد، يحيى ابن المؤذن وخطيبته نورهان، الإمام الغزالي، وغيرها من الشخصيات التي يلعب كل منها دوراً محورياً في الملحمة الكونية التي تحركها الأقدار.

وينجح المخرج الموهوب بيتر ميمي بداية من اختيار عشرات الممثلين، معظمهم مناسب تماماً في دوره، حتى ضيوف الشرف الذين يظهرون في مشاهد معدودة.

ومن اختيار الممثلين إلى اختيار مواقع التصوير والملابس والإكسسوارات، ثم التصوير العالمي لحسين عسر، والمونتاج السلس المتدفق لأحمد حمدي، مع موسيقى أمين أبو حافة التي تعمق من الجو الأسطوري المأساوي، وهو واحد من المسلسلات القليلة التي تبدو فيها كل جملة موسيقية وكأنها جزء أصيل من مضمون المشهد الذي تُسمع فيه.

ومن المشاهد الحوارية المكتوبة بعامية مصرية رصينة وبليغة، إلى مشاهد المعارك والمؤثرات الخاصة المقنعة، فإن العمل مبهر للعين والأذن، مبهج للعقل والوجدان معاً.

"الحشاشين"، بعيداً عن الجدل المحاط به،  عمل يمكن مشاهدته والاستمتاع به كدراما خيالية متقنة الصنع، في تصوري من أفضل ما قدمته الدراما العربية في تاريخها، ولا يقل بأية حال عن الأعمال العالمية المماثلة، غير أنه يفوقها في مضمونه الإنساني والفلسفي والروحي، الذي يعني حاضرنا ومستقبلنا أكثر من أي شعب آخر.

صحيح أنك تعيد قراءة صفحة مهمة من التاريخ بعيون صناع العمل، ولكنها قراءة نابعة من الدراما نفسها، وليست مقحمة أو ملصقة مثلما هو الحال مع معظم الأعمال "الدعائية" و"التعليمية". وقد عبر البعض عن احتمال أن يحب المشاهد شخصية حسن الصبّاح، وهذا صحيح من ناحية، ولكن من ناحية ثانية هذه ميزة كل عمل درامي عظيم.

إننا نحب "ماكبث" شكسبير، ونشفق عليه أحياناً، وكذلك "كوريولانوس"، و"الملك لير"، وكلهم أبطال لهم إيجابياتهم، وصفاتهم الطيبة، ولكنهم سقطوا نتيجة عيب واحد قاتل في شخصياتهم، لا يؤدي فقط إلى انهيارهم الشخصي، ولكن إلى زلزلة العالم كله من حولهم. ولا تنس أن الثلاثة كانوا أيضاً شخصيات تاريخية، تحولت على يد شكسبير إلى شخصيات أقوى وأشهر من الشخصيات التاريخية.

لقد دخل حسن الصبّاح "الحشاشين" التاريخ، ربما أكثر من الصبّاح التاريخي نفسه، ذلك أن الشخصية الروائية في المسلسل اكتسبت من الحضور والدلالات ما يفوق الشخصية المذكورة في كتب التاريخ.

وكم من مرة نقول أن الفن أعظم وسيلة تخاطب تؤثر في عقول وقلوب البشر؟!

غير أن المرء لا يتيقن من تلك الحقيقة إلا عندما يظهر عمل فني حقيقي مثل "الحشاشين".

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك