اغتيال زاهدي في دمشق يفتح ملفات "صعبة" بين سوريا وإيران

time reading iconدقائق القراءة - 12
سيارة إسعاف أمام سفارة طهران في دمشق عقب غارة إسرائيلية على القنصلية الإيرانية. 2 أبريل 2024 - Reuters
سيارة إسعاف أمام سفارة طهران في دمشق عقب غارة إسرائيلية على القنصلية الإيرانية. 2 أبريل 2024 - Reuters
دمشق -علاء إبراهيم

مع رفع الأنقاض من المبنى الملحق بالسفارة الإيرانية على شارع اتستراد المزة الحيوي في العاصمة السورية دمشق، بدا وكأن العلاقة بين البلدين نفضت شيئاً من الغبار الذي راكمته في الأشهر الماضية، ووسمته التوترات الأمنية المكبوتة والمطالبات الاقتصادية الإيرانية بتسديد ما استفادت منه دمشق من خلال الخط الائتماني بين البلدين في الفترة الماضية خلال سنوات الحرب.

الاغتيالات المتكررة للمستشارين الإيرانيين كانت تدفع بالكثير من الأصوات القريبة من طهران للقول بوجود اختراق أمني أوتغاضٍ سوري كبير عما يحدث خصوصاً أن هؤلاء القادة عملوا في سوريا في سنوات الحرب في ظروف أصعب وأكثر انكشافاً من الناحية الأمنية، وعلى جبهات عدة، ولم يسقط منهم هذا العدد الكبير.

اتهامات دفعت رئيس أحد الأجهزة الأمنية السورية للقول لزواره الذين طرحوا هذا الموضوع أن طرح شبهة من هذا النوع "قد يكسر الجرة بين الأصدقاء".  

ولكن تدمير مقر القنصلية الإيرانية في دمشق الذي تعرض للقصف الاثنين الماضي، وأدى إلى سقوط 13 شخصاً، بينهم العميد محمد رضا زاهدي، القيادي في "فيلق القدس" - الفرع الخارجي لـ"الحرس الثوري الإيراني"، جاء ليخفّف من حدة التوتر بين الطرفين. 

تلميحات بخرق أمني

التوتر الذي بلغ ذروته في الأشهر الماضية عندما أرسلت الأجهزة الأمنية الإيرانية "رسالة مكتوبة" إلى نظيرتها السورية اشتكت فيه تلميحاً من خرق أمني كبير لدى الجانب السوري ينعكس نجاحاً في الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة للأراضي السورية، لتلي مطالبات إيرانية من دمشق بمنح أراض زراعية وامتيازات لمشاريع وإدارة قطاعات حيوية أسوة بالجانب الروسي، الذي تتولى شركات منه إدارة مناجم الفوسفات ومصانع للسماد وقطاعات أخرى كانت مملوكة ومدارة من قبل شركات حكومية سورية في الماضي. 

الشدّ المكتوم بين الطرفين لم يستفد من الرأي العام السوري الذي صار بالإمكان لمس انتقاداته للوجود الإيراني في البلاد، وإن انحصر الانتقاد العلني بتواجد الإيرانيين في المباني السكنية وبين المدنيين، الأمر الذي يعرضهم للاستهداف، فليس من الصعوبة أن تلتقط منشورات لناشطين وأشخاص عاديين يسألون عن جدوى الوجود الإيراني بعد كل هجوم إسرائيلي في المدن، وهو ما يمكن ربطه بمعلومات عن أوامر سرية من القيادة المركزية في طهران لإخلاء قادتها في سوريا لكل مقار سكنهم السابقة، والذي تم تداوله في الإعلام حينها على أنه انحسار للتواجد وعودة للقادة إلى طهران، لكن استهداف القنصلية وعملية الاغتيال تؤكد أن ما جرى حينها لم يتجاوز تغيير مقرات سكنية، وأن القادة كانوا إلى حين تدمير القنصلية متواجدين في سوريا. 

لكن الهجوم الأخير الذي جاء استكمالاً لأسبوع دام سجلت فيه إسرائيل هجمات في دمشق ومحيطها، وفي حلب شمال البلاد وريفها، وفي مواقع أقل شهرة في المنطقة الوسطى، أظهر وفقاً للتحقيقات الجنائية السورية والتقييمات الأمنية المشتركة جملة من الاستنتاجات.

أولها هو اتساع الخرق الأمني؛ فثلاث غارات جاءت نهاية شهر مارس، قضت على "مشروع عسكري كبير" كان يحضر وأنهته في مهده؛ ومن ثم انطلقت لتغتال كل من كان معنياً به من الجانبين، ورغم غياب أي تأكيد رسمي، فإن الاعتقاد بنجاح إسرائيل في تدمير منظومة دفاع جوي ومنظومات صاروخية مطورة كانت في طريقها إلى سوريا ولبنان تحسباً لتوسع للصراع الدائر في غزة الآن. 

التقييمات الأمنية السورية المستمرة وجدت أن بعض الاستهدافات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا كانت لمنازل خاوية، كتلك التي استهدفت منزلاً في محيط قرى الأسد كان قد أخلي قبل أيام، وآخر لبناء سكني في منطقة كفرسوسة وسط العاصمة، والذي أخلي قبل دقائق فقط من ضربه بصواريخ إسرائيلية. 

وثانيها، هو تحديد مصدر الخرق الذي أصبح المعنيون ميالين للقول إلى أنه تقني في الدرجة الأولى وشخصي في الدرجة الثانية وهو ما خلق هوساً بالتخلي عن الهواتف الذكية أصبح يرى في دوائر الجيش السوري والحرس الثوري الإيراني العامل في سوريا وصولاً إلى حزب الله، والحشد الشعبي في العراق. 

ثالث الاستنتاجات، هو غياب تنسيق الحلفاء العسكريين في سوريا، وهو غياب يتأرجح بين المقصود والإهمال، فمثلا أنشأ الجيش الروسي منذ أسابيع نقطة مراقبة في الجولان السوري في موقع ملاصق للخط الفاصل مع المناطق التي تحتلها إسرائيل، فيما بدا حينها إشارة إلى انحسار للوجود الإيراني الذي لم يختف من المنطقة.

 ولكن الاستهدافات الإسرائيلية استمرت تأتي من الاتجاه نفسه ولا بد أن العسكريين الروس يرسلون إلى قادتهم برقيات تحصي الصواريخ الإسرائيلية التي تعبر فوقهم كل أسبوع في طريقها إلى أهدافها الإيرانية، دون أن يبلغ الروس حليفهم المفترض في الحرب السورية هذه الأهداف لتتجنب مصيرها.

نظريات الإهمال المتعمد تجد أصداء لها في قصة تحييد مطار دمشق الدولي عن الاستهدافات الإسرائيلية، الذي كان نتاجاً لجهد روسي يبدو أنه لم يثمر إلا بعد اغتيال رضي موسوي القيادي الأقدم في "الحرس الثوري" الإيراني، الذي سقط في غارة إسرائيلية في منطقة السيدة زينب على أطراف دمشق في ديسمبر الماضي بثلاثة صواريخ إسرائيلية بعد أن أنهى اجتماعاً مع السفير الإيراني، وبعد دقائق من افتراق الاثنين.

فموسوي الذي كان الموكل ملف الجسر الجوي الإيراني إلى سوريا كان المسؤول الأول عن إدارة الوجود الإيراني في مطار دمشق ومحيطه، وجاء الاتفاق الروسي الإسرائيلي لتحييد المطار من قائمة الاستهدافات بعد اغتياله ما أعاد وضع شكل التنسيق الروسي الإسرائيلي وأهدافه مكان الريبة الإيرانية في أقل تقدير، وفتحت الأعين الإيرانية على مستوى الخرق وشكله، وتصويبه حتى لناحية الشكوك الإيرانية حول الخروقات ضمن الأجهزة الأمنية السورية، المتابعة الإسرائيلية لموسوي منذ لحظة مغادرته مكتب السفير الإيراني مباشرة واغتياله لحظة وصوله إلى منزله، لا يمكن تركها ضمن خانة المصادفة مع الاغتيال الأخير، والذي تم بعد متابعة إسرائيلية لمغادرة السفير الإيراني للاجتماع داخل القنصلية. 

آخر الاستنتاجات، هو تراجع القناعة الإيرانية بأن ما يحدث كان يحدث بغض طرف رسمي سوري، لا يمانع في تصاعد النبرة الشعبية ضد إيران، ويتجاهل ما يحدث في فلسطين، ويتقاعس عن معالجة خروقات أمنية تشتكي منها إيران.

غرفة تحت الأرض بعيداً عن الأعين

الغارة الأخيرة، كانت سبباً رئيساً في هذا التراجع، فالتحقيقات بينت أن الاجتماع الذي استهدفته إسرائيل تم في غرفة في مستوى تحت الأرض في المبنى المجاور للسفارة يكون الدخول إليه بعيداً عن أعين العامة وحتى السلطات السورية، وجاء الاجتماع ليضم إلى العميد زاهدي وقيادين عسكريين آخرين والسفير الإيراني ونائبه في دمشق، وبعد مغادرة السفير الإيراني المبنى القنصلي إلى المبنى المجاور عبر ممر داخلي جاءت الغارة الإسرائيلية خلال أقل من 6 دقائق من مغادرته ما دل على متابعة لصيقة للمهاجمين لما يحدث داخل المبنى الحصين.

اقرأ أيضاً

واشنطن تحذر طهران من استخدام هجوم دمشق "ذريعة للتصعيد" في المنطقة

حذرت الولايات المتحدة إيران من استخدام الهجوم على قنصليتها في دمشق، كـ"ذريعة لمزيد من التصعيد في المنطقة أو لمهاجمة المنشآت أو الأفراد الأميركيين".

المصادر السورية تربط بين ما حدث وبين أحاديث كانت تدور داخل المبنى نفسه في الأسابيع العشرة الأخيرة، حيث قال الدبلوماسيون الإيرانيون وضباط الحرس الإيراني لزوارهم من إعلاميين سوريين وقيادين في تنظيمات تمولها إيران أن "طهران لا تمانع، بل وترغب في الخروج من سوريا ولكن..." وهنا يختلف السياق حسب متلقي الحديث فتارة يكون الانسحاب مربوطاً بأن يشكل ذلك "ثقلاً في ميزان التفاوض السوري القادم"، في ملفات أوسع تتجاوز تخفيف الضغوطات إلى وضع مسار "حل أشمل" وتوافق إقليمي يضمن المصالح الاقتصادية باستثمارات، ترى أنها من حقها بعد دعم حكومة دمشق لسنوات من خلال الخط الائتماني الذي فتحته لدعم حكومة الرئيس السوري في مواجهة المتمردين. 

الإيرانيون تحدثوا لزوراهم عن قلقهم من استخدام "المعارضة الإيرانية" لملف الديون السورية كورقة ضغط على الحكومة وهي التي تقول المعارضة الإيرانية إنها قد تجاوزت الخمسين مليار دولار، وكان السؤال عنها حاضراً حتى في مجلس الشورى الإيراني وهنا يقول الإيرانيون "نحن لن نحدد الثمن الذي يجب على السوريين المطالبة به ولكن لو سألنا أحد فسنقول إن مجرد عودة العلاقات أو فتح سفارة أو استثمار مالي ليس ثمناً كافياً." 

تصريح وجد صداه في لقاءات وزير الخارجية الإيراني في دمشق الاثنين الماضي، حيث قال أمير عبد اللهيان لمضيفيه ما يفهم منه أن الانسحاب الإيراني من سوريا هو ورقة بيد السوريين "يتمنى" الإيرانيون أن تستخدم لتحصل مكاسب لسوريا، ويتركون للقيادة السورية تقرير الثمن المناسب لهذا الانسحاب. 

تصريح أكده أكثر من شخص ممن حضروا لقاءات الوزير الإيراني، أضاف أحدهما بالقول إن الطرح ليس جديداً، وقد نقل من مبعوثين للمرشد الإيراني إلى القيادة السورية في ثلاث مناسبات على الأقل بدءاً من منتصف العام الماضي. 

ويبدو أن دمشق قررت ألا توفر جهداً للقول لحليفتها أنها معها، فوصول وزير الخارجية السوري خلال أقل من ساعة من وقوع الهجوم؛ ومن ثم رئيس الوزراء كانا أمرين احتفى بهما الإعلام الإيراني؛ ومن ثم تقاطر المسؤولون السوريون للتعزية في مشهد غير مألوف، رغم تكرار الاستهدافات القاسية لإسرائيل وسقوط الكثير من المستشارين الإيرانيين.

تذمر يطفو على السطح

الحماسة الرسمية السورية التي قرأها الإعلام الإيراني الذي حرص على الحديث بشأن متانة العلاقة بين الطرفين، رغم كل ما حدث هو الأمر الذي دفع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، إلى القول لصحافي سأل سؤالاً ذي معان ملغمة في المؤتمر الصحافي المشترك بين الوزيرين في دمشق "بأننا نأخذ كل ما يأتي من الأصدقاء بحسن نية". 

الأحاديث الإيرانية التي يحرص المسؤولون الإيرانيون على أن تبقى في إطار التسريبات – في  قد يكون محاولة لتسهيل إنكارها إن اضطر الأمر - قد تبدو محاولة للتعامل مع ردة الفعل الشعبية المتنامية ضد شكل التواجد في سوريا، حيث سجلت عدة حوادث في العاصمة مؤخراً لأشخاص رفضوا تأجير شقق يملكونها لسكان إيرانيين خوفاً من ضربات إسرائيلية تستهدفهم وهو أمر إن وضع مع ما يطفو على السطح من تذمر معلن على وسائل التواصل الاجتماعي يرسم صورة لمعادلة تجعل الوجود الإيراني أكثر تعقيداً، رغم إجماع كل المطلعين على الملف في المؤسسات الرسمية السورية، أن الوجود الإيراني متجذر وعميق وجزء من مشروع كبير لا يمكن تفكيكه أو انحلاله بسهولة.  

تغيير الشكل لا يعني تراجعاً بالضرورة، ولكنه في الوقت نفسه لا يمكن أن يكون تقدماً، ففي الوقائع فإن ما يتم على الأرض في دمشق وريفها يرسم صورة واضحة لمستقبل التواجد الإيراني الذي يبدو أنه في تغير مستمر، فأعداد المقاتلين الذين يتلقون رواتبهم من إيران في مدينة دمشق انخفضت بأكثر من النصف في الأشهر الـ10 الماضية، ومقرات إيرانية عدة كانت معلنة، وترفع العلم الإيراني في العاصمة ومحيطها أغلقت وانتقلت إلى منطقة السيدة زينب في ريف دمشق.  

مصدر أمني سوري رفيع مطلع على سير العلاقة الأمنية بين البلدين اعتبر ما يجري "إعادة تشكيل ضرورية للعلاقة تستجيب لتطورات الحرب التي لا تحتاج إلى أعداد ضخمة من المقاتلين كما كان الوضع في السابق ولتفادي الاستهداف الإسرائيلي المستمر".

تصنيفات

قصص قد تهمك