أبطال "يونان" و"عالم الحب" و"أرض مفقودة" سوف تبقيهم الأفلام أطفالاً إلى الأبد

قراءة في جوائز الأفلام الطويلة بمهرجان البحر الأحمر 2025

جانب من حفل ختام وتوزيع جوائز الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، جدة، السعودية. 13 ديسمبر 2025 - redseafilmfest.com
جانب من حفل ختام وتوزيع جوائز الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، جدة، السعودية. 13 ديسمبر 2025 - redseafilmfest.com
جدة -رامي عبد الرازق*

أطفال كثيرون مروا على مسابقة الأفلام الطويلة في الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي لهذا العام، التي عقدت من (4 إلى 13 ديسمبر الجاري، أطفال حقيقيون ومجازيون ومتخيلون، أبناء للحاضر المرعب، أو ميراث أزمنة سابقة أحضرتهم الشاشة تبجيلاً لحكاياتهم التي سوف تبقيهم أطفالاً إلى الأبد.

7 أطفال من 6 مناطق مختلفة، زمانية ومكانية، من السعودية وفلسطين ولبنان والصين وماليزيا وكوريا الجنوبية، يعيشون بين أربعينيات القرن الماضي وحاضر الألفية المرتبكة، يتأملون العالم المجنون بنظرات مشفقة على الكبار، ويخافون من البلوغ؛ لأنهم أدركوا مبكراً عمق الألم الذي ينتظر أرواحهم الصغيرة.

الطفل الكبير

نبدأ مع أكبرهم، منير نور الدين بطل فيلم "يونان" الحائز على جائزتي أفضل إخراج لأمير فخر الدين، وأفضل ممثل للرائع جورج خباز، منير هو روائي لبناني مهاجر إلى ألمانيا، يعيش حالة عزلة وجودية مقبضة، ثمة ما يكتم على أنفاسه، يمنع صدره من التعرف الطبيعي على الهواء المتاح، لا مرض بالرئة ولكن غصة في الروح، تحول دون أن يمارس الحب والكتابة والحياة نفسها، فيقرر التمرد في لحظة غضب، تماماً مثلما فعل النبي التراثي يونس (يونان في العهد القديم) ويخرج إلى البحر.

في فيلم شعري يحمل اسماً مأخوذ من الكتاب المقدس لا يصح أن نغفل المجازات، و"يونان" شعري بامتياز، وبالتالي يسهل أن ندرك أن منير ليس شخصية درامية تقليدية، منير في جانب منه، وربما الجانب الأساسي والأهم؛ طفل كبير.

طفل يعيش في عالم الكبار المخيف، العالم الذي بدأ مع حكاية أمه البعيدة، المصابة بخفوت الذاكرة، لكنها لا تنسى الحكاية التي أطلقته إلى العالم الواسع ذات يوم، حكاية الراعي الذي لا عين ولا لسان ولا أذن له، ولا تعرف زوجته اسمه لأنه لا يتحدث، ولا يملك سوى أن يحمل لها كومات الصوف كي تغزل منها حكايتهم الغريبة.

يسأل منير أمه عن الحكاية في مكالمة طويلة بينهم، هي لا تذكره لكنها تذكرها، وتتحول الحكاية إلى جزء من هواجس منير، وأشباح عزلته التي تطارد باله المضطرب إثر الجمود وفقدان الرغبة في حياة لا تشبه ما تمناه وهو طفل.

وكلما استعاد منير الحكاية سواء بصوت الأم أو في مخيلته، كلما حضر الطفل الذي لا يزال يعيش في داخله، بل إن هيئته تتغير حين يصبح جزءاً من الحكاية، نراه وهو يجلس بين الراعي وزوجته وقد قصر شعره عن شكله خارج الخيال، كأنه طفل أتت به أمه قبل قليل من صالون الحلاقة.

ثم نراه أخيراً في محاولته أن يتصالح مع هذا الطفل وهو يهرب بخياله إلى بيت الراعي، حيث يجد أمه نفسها فتمد يدها إليه، ليضطجع في حجرها المخملي بجسده الرجولي وروحه الصغيرة الهشة، يستمع إلى نصائحها وهي تداعب شعره في فعل أمومي خالد، وتلين نظرة عينه متخلياً عن الرجل الذي أصبح عليه ولم يحبه - سبق أن حاول الانتحار في الجزيرة المعزولة التي لجأ إليها - أو مستريحاً من عناء النضج الوهمي، والعمر الطويل.

ومن سؤال الطفل الكبير عن إمكانية استعادة العمر والأحلام والشغف الأول، إلى سؤال المراهقة التي غادرت طفولتها القريبة جداً، حاملة ندوباً مشتعلة على جسدها الجديد وروحها الغضة، في "يونان" كان سؤال منير هو (ماذا حدث للطفل الذي كنته؟) وفي الفيلم الكوري الجنوبي "عالم الحب" الحائز على جائزة اليسر لأفضل ممثلة سيو سو-بين جاء سؤال المراهقة المضطربة: لماذا حدث ما حدث للطفلة التي كنتها؟

بطلة الفيلم جو- إن هي مراهقة شابة مشحونة بهرمونات المرحلة العمرية الفائرة، نبدأ معها وهي تقبل زميلاً لها بحب جارف للتجربة العاطفية والجسدية، تقبله كأنها تتذوقه أو تكتشفه، هي شغوفة بالمشاعر والتفاصيل الحسية، يسكنها مرح غامر، ويصعب السيطرة على طاقتها البراقة في البيت والمدرسة والشارع، لكن كل هذا ليس سوى قناع ركيك، تداري خلفه السؤال الذي ينفجر مع أمها في السيارة ذات مرة، بينما يجلسان في المغسلة الآلية، في مشهد مفعم بالمجاز وعنف المكاشفة، فبينما تمر الفرشاة الضخمة على بدن العربة من الخارج مسببة عاصفة من المطر والصابون، تنفجر جي- إن بالسؤال في وجه أمها: لماذا حدث معي ما حدث؟ لماذا تركتموني للعم الذي انتهك براءتي وحطم علاقتي بالرجال؛ أفسد عليّ طفولتي وأفشل حبي للعالم والحياة؟

تصرخ جي- إن بينما تشكل لها المخرجة المجاز الكافي لكي تؤدي سيو سو- بين أفضل مشاهدها في الفيلم، عملية الغسيل التي تجلي الحقيقة وتكشف الأوساخ المتراكمة عن البدن الصغير؛ هنا تتحول سيارة الأم إلى استعارة عن جسد الطفلة الذي اتسخ بتحرشات العم الملعون.

صحيح أن السيناريو يلعب في البداية بمهارة ليوهمنا أن الأب المسافر، الذي يعيش في عزلة غبية، هو المتورط الأساسي في الأزمة، لكننا ندرك بعد ذلك أن تورطه ليس كما تصورنا، فهو ليس الجاني، لكنه المتجاهل أو المُنكر لما تعرضت له طفلته.

هذا فيلم مكدس بالأطفال، لأنه معني بأسئلتهم الشفافة عن العلاقة بين أجسادهم وعالم الكبار المرعب؛ الأم نفسها تعمل في مدرسة، وفي مقابل تساؤلها عن العلامات التي تراها يومياً على جسد واحدة من الطفلات التي تعتني بهن، تتعجب ابنتها من أنها لم تكن تتساءل بهذه الحمية عن العلامات التي كانت تراها على جسد ابنتها الصغيرة؛ قبل أن تكبر وتصير مراهقة ملعونة بعلاقات تبحث عن التصالح مع العاطفة والجسد.

الملصق الدعائي للفيلم الكوري
الملصق الدعائي للفيلم الكوري الجنوبي The World of Love (عالم الحب) الحائز على جائزة اليسر لأفضل ممثلة في مهرجان البحر الأحمر السينمائي - redseafilmfest.com

صغيرة كنت وأنت صغيرون

صغيرة كنت وأنت صغيرون 

حبنا بدنا بنظرات عيون

قالوا ترى ذولا يحبون!

من الصغر لما يكبرون..

                        أغنية عراقية

في الساعة 5:05 بتوقيت بيروت، ولد نينو، وفي الساعة 5:06 ولدت ياسمينة في الغرفة المجاورة له بالمستشفى، وفي الساعة 5:07 تعرض المبنى للقصف في ذروة الحرب الأهلية في لبنان.

هكذا تبدأ حكاية الطفلين اللذين قدم عبرها المخرج سيريل عويس ترنيمته في رثاء الوطن "نجوم الأمل والألم"، الحائز على جائزة "اليسر" لأفضل سيناريو.

نينو وياسمينة هما الجيل الذي نجا من مفرمة الحرب الدموية، لكن الظروف السياسية والاقتصادية للبقعة الساحرة المنكوبة أفسدت عليهما الكثير من متع شبابهما المغدور، تجمعهما حركة النجوم يوم ميلادهما، لكنهما لا يلتقيان إلا كطفلين في المدرسة الابتدائية، وكما الأغنية، تبدأ قصة حبهما بنظرات العيون، القصة التي تشكل خلال فصول الفيلم جزيرة النجاة الخيالية، التي يحلمان بأن يصلا إليها كي تدوم طفولتهما الأسطورية.

يحافظ المخرج على سرد غير خطي لحكاية الطفلين، نراهما يكبران فيرث نينو مطعم عائلته ويحقق له مجداً مادياً وشهرة مستحقة، وشخصية جذابة تخلط بين الطعام والمرح في توابل ليست سرية، بينما تعمل ياسمينة في مجال الأعمال الجامدة، تتخشب مشاعرها عند حدود الرسميات، ولا تكاد ترفع عينيها الجميلتين عن هاتفها الذي لا يصمت، لكنها حين تلتقي نينو في صدفة من تدبير النجوم، ينهزم جمودها، وتتحلحل مشاعرها الساكتة، مستعيدة الطفلة التي كانت عليها وقت أن كانت تهمس له بحكاية الجزيرة المسحورة قبل 13 سنة.

تسير حكاية الطفلين التقليدية مع حكاية الشابين النمطية، لكن التركيبة التي تجمعهما تصبح لها نكهتها الدرامية الخاصة، والتي ترفع من شأن القصة كلها، يتخلص الفيلم من المعلومات سريعاً دون التورط في الميلودراما السياسية المبتذلة، لصالح الرباط المقدس بين الطفلين والشابين، والذي يتجاوز كل العقبات تقريباً، بداية من فراقهما وهما صغار، وظل الطفل نينو ينتظرها لشهر كامل عند عربة القطار القديمة وقت أن وعدته بالحضور ولكن منعها أهلها من رحلة الهروب الساذجة؛ مروراً برفضها الهجرة إلى ألمانيا بعدما التقت به ثانية، ثم رفضها أن تنجب منه عقب (ليلة الحب الحلوة) التي أثمرت عن أمل، ابنتهما الرائعة، التي تبدو أكثر نضجاً من كليهما، أو لنقل التي تبدو كطفلة ثالثة انضمت إلى الطفلين الكبيرين؛ وصولاً إلى الأزمة الكبرى في علاقتهما والتي ترتبط بالوضع اللبناني الحالي، وانهيار الاقتصاد والعملة والسوق والأعمال، وهو الوضع الذي لا يوجد منه مفر سوى القفز من السفينة قبل أن يغرق الجميع.

لكن نينو المصمم ألا يقفز، ينجح بشكل فانتازي في أن يستبقي ياسمينة، هذه الفانتازيا التي تلون قصتهما منذ فارق الدقيقة الأولى بين ميلادهما، ومنذ أن منحتهما النجوم بركتها القدرية، فظلا يحتميان بحكايتهما الطفولية، وجزيرتهما السحرية، التي نكتشف في النهاية أنها ليست سوى لبنان نفسه، كما يصوره المخرج في اللقطة الأخيرة، بنفس التتابع الذي كان يصور به أحلامهما الصغيرة عن ملاذهما المتخيل؛ فلبنان هو القطار المتعطل والمطعم المغلق والبنوك المفلسة واللحم الشحيح، ولكنه أيضاً بالنسبة لنينو وياسمينة هو الملاذ الأخير.

الملصق الدعائي للفيلم اللبناني
الملصق الدعائي للفيلم اللبناني "نجوم الأمل والألم" الحائز على جائزة "اليسر" لأفضل سيناريو في مهرجان البحر الأحمر السينمائي - facebook/filmjo

تجدر الإشارة إلى أن ثنائية الطفلين اللذين يقطعان سوياً رحلة حياتية أو مادية أو حتى مجازية، تكرر هذا العام في عدد من الأفلام الفائزة.

طفلان آخران هما سوميرا، 9 سنوات، وأخيها الأصغر شافي، اللذين يقطعان الرحلة الملحمية المخيفة من ميانمار هرباً من احتراق بيتهما؛ إلى ماليزيا حيث يعيش عمهما، في فيلم "أرض ضائعة" للمخرج الياباني أكيو فوجيموتو، والحاصل على جائزة اليسر الذهبية.

يتذكر الطفلان شجرة المانجو التي تسكن أمام منزلهما، والتي رغم احتراق البيت لم تحترق، تصبح رفيقهما في رحلة الهرب التي تقلبهما بين أيادي المهربين واللاجئين والفارين من حريق الاضطهاد، يختار المخرج طفلين لكي يصبحان مجردين من كل شيء، إلا نظرتهما المتسائلة عن أسباب وحشية عالم الكبار؛ لا يملكان سوى سؤال واحد لا أحد ممن يرافقهما يتمكن من الإجابة الشافية عنه: لماذا لا نستطيع أن نعود إلى منزلنا؟

الملصق الدعائي لفيلم
الملصق الدعائي لفيلم Lost Land (أرض ضائعة) للمخرج الياباني أكيو فوجيموتو، والحاصل على جائزة اليسر الذهبية في مهرجان البحر الأحمر السينمائي - redseafilmfest.com

هذا السؤال يمكن أن ينسحب بالمناسبة على أطفال الفيلم الفلسطيني"اللي باقي منك" إخراج شيرين دعيبس والحاصل على جائزة اليسر الفضية، فالعائلة الفلسطينية التي طردت من يافاً أرض البرتقال عام 1948 يظل أطفالها يتساءلون ولو بعيونهم؛ متى سنعود إلى منزلنا، فالأرض الضائعة ليست فقط بيت الأطفال الفارين من لسعات الاضطهاد؛ ولكنها البقعة المقدسة المحتلة بالسلاح والوعود غير المستحقة.

من هنا يمكن أن نفهم أيضاً لماذا أطلق صناع الفيلم الشرق آسيوي على تجربتهم هذا الاسم المجرد دون تعريف (أرض ضائعة) لأن التجريد يفيد التعميم، ورحلة سوميرا وشافي وسؤالهما عن المنزل وشجرة المانجو ليست بعيدة عن أسئلة ابن سليم عن برتقال يافا الذي لم يعد في إمكان عائلته زرعه وقطافه، بعدما دهست بياراته أحذية المستوطنين.

تستمر الأسئلة على استقامتها من جيل إلى آخر، الأسئلة التي تشرخ طفولة الحفيد، حين يقبض عليه مع أبيه أثناء حظر التجول من قبل دورية إسرائيلية، ويجبر أفراد الدورية الأب على أن يسب نفسه وزوجته - أم الطفل - ما يجعل ابنه منذ هذه اللحظة يفارق الطفولة إلى عالم الكبار الملوث بالدم والامتهان وغياب الكرامة، التي لا سبيل لاستعادتها سوى بالمقاومة والحجارة.

بالعودة إلى عنصر الثنائية يتبقى لدينا الفيلم الصيني "أصوات الليل" للمخرج زانج زونجشين، الحائز على جائزة اليسر لأفضل إنجاز سينمائي على مستوى التصوير، ليأخذنا إلى الريف الصيني، حيث الواقع الاجتماعي الصلب وغير المريح للنساء أياً كان وضعهن العائلي، الكل يعمل والكل يعرق والكل يعيش حياته مثل الأصنام التي يصورها المخرج متحجرة وسط حقول الشعير، وفي خضم الطبيعة الساحرة والمؤلمة، تسمع الطفلة تشينج نداء من صوت ليلي، فتنهض متتبعة إياه؛ وفي صرة الغابة المتألقة بالغموض يلوح لها رفيقها الجديد، طفل شبحي يبحث عن أمه المفقودة، وعبر زيارة الأصوات الليلية تتشكل العلاقة بين الثنائي الغريب؛ طفلان أحدهما شبح أو ربما كلاهما؛ فتشينج تراقب في النهار أمها التي تعمل دون كلل، ويلوح في عيونها الإدراك العميق أن هذا هو المستقبل الذي ينتظرها، وأن أم صديقها الشبحي لا شك فقدت روحها أثناء العمل الكثير الذي لا ينتهي قبل أن ينهي وجود النساء المنكبات على الزرع والحصاد في "سيزيفية" ممتدة.

الطفلة والناقة 

لو أردنا ان نمد خطاً جامعاً بين أطفال الأفلام الفائزة بجوائز اليسر هذا العام، فلن نجد أوضح من أزمة مغادرة عوالم الطفولة إلى أرض الكبار، سواء فرادى أو ثنائيات؛ هذه الأزمة تتجاوز النمو الطبيعي أو التطور العمري العادي والعادل، في تدرجه أو صعوده نحو المراهقة ثم الشباب وما يليه من مراحل، الأزمة في الأفلام أن الأطفال يغادرون نحو تصاعد لا يمهلهم الاستيعاب، يجردهم بقسوة وعنف وبشكل مفاجئ من نقاء أرواحهم ونصاعة ذاكرتهم، التي لا تحمل هم الماضي ولا فجاجة المستقبل، بل ولا تعرف عن الحاضر سوى دوائر المرح والاستمتاع.

يأتي الفيلم السعودي "هجرة" للمخرجة شهد أمين، والحائز على جائزة لجنة التحكيم ليفكك هذه الأزمة، بما يجعلنا نتابع محطات المغادرة، من الطفولة الملونة بنتف الثلج البيضاء إلى جفاء الصحراء منزوعة البهجة والصفاء والراحة.

تصعد جنى - التي يوشك (خراط البنات) أن يمنح جسدها دمغته الأنثوية - مع أختها الأكبر سارة وجدتها صاحبة الوجه الصخري، إلى الحافلة المتجهة من الطائف إلى مكة في طريق الحج عام 2001، ولكن أي منهم لا يصل إلى عرفة ولا يبلغ منتهى الرحلة المقدسة، بل تضيعهم الطرق، فتهرب سارة، وتلحقها الجدة في محاولة لمنعها من الانفلات العاطفي نتيجة الكبت الذي يتجلى لنا في كل التفاصيل - وقتما كانت الصحوة لا تزال في ذروة صلابتها - بينما نتابع الرحلة من عيني جنى، التي يتكشف لها خلال المطاردة الطويلة المكثفة، جانباً غير هين، ليس فقط من تاريخ عائلتها وجدتها - التي جاءت مع أبيها مهاجرة من خارج المملكة قبل عقود واستقرت في صحراء الجزيرة - ولكن من حاضرها القريب، المليء بالنساء المنقبات، الصارخات من أجل حدود الله؛ والرجال الضعفاء، المتخلين كحبيب أختها التي غادرت من أجله، أو المتلاعبين الذين يسيرون على حبال الواقع من أجل أن يتجنبوا السقوط المريع القادم إليهم لا محالة، مثل سائق العربة التي تقلهم في رحلة البحث، والذي يتحول بالتدريج إلى أكثر من مجرد رفيق؛ بل يحل محل الأب الغائب في كهوف قسوته.

تتماهي جنى الصغيرة مع شخصية أختها الكبرى سارة في الخوف من المستقبل، تشعر لوهلة أنها لو أحبت حين تكبر أو أرادت التمرد بأي شكل كان، فسوف يكون مصيرها كمصير أختها، مسجونة في دار رعاية بأمر الأب ومباركة المجتمع، وتذوب أكثر في ظل جدتها، فيتكشف لها مخزون الحكايات التي تتراكم خلف قناع وجهها المصبوب على نظرة جادة لا تتغير، تحبس خلفها ابتسامة لا تظهر أبداً.

تتمكن المخرجة من تحويل الأزمة الكبرى التي كانت تعيشها البلاد إلى أزمة الطفلة التي تكبر قبل الأوان بحكم جلافة الحاضر وغموض المستقبل آنذاك، ولا تريح المخرجة عناء بطلتها الصغيرة في النهاية؛ بل تترك أسئلتها مفتوحة حين تعود إلى جثمان الجدة المتوفاة، فلا تجد سوى ناقة سوداء، تنفلت إلى الرمال، فلا ندري هل ضلت الطريق إلى الجثمان؛ أم أن الجدة نفسها تحولت إلى هذا المخلوق الذي يشبه النساء على حد قول السائق رفيق رحلتها؛ فالجمال والنساء يتساوون في أنهم يملكون ذاكرة قوية ولا ينسون أبداً من يسيء إليهم.

تلك هي الحكمة التي تعبر بها جنى من بوابة الطفولة الرحبة، إلى صحراء الكبار الضيقة على اتساعها، مغادرة بريق الثلج إلى شفرات الأصفر الباهت، تنتهي طفولتها في هذه اللحظة، لكن ذاكرتها سوف تنسخ إلى الأبد كل ما مر بها، ربما لكي تحكيه حين تصير جدة إلى حفيدة جديدة، سوف تتمنى لها جنى أن تعيش طفلة إلى الأبد.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك