منذ اللحظة الأولى لبث الاعلان التشويقي لمسلسل "من شارع الهرم إلى.."، وهو يثير ردود فعل لا تتوقف، بدأت باعتراض بعض المصريين على فكرة العمل الذي يدور حول راقصة مصرية تدخل منزل عائلة كويتية لتخريبه.
ثم اعتراض بعض الكويتيين على ظهور رجل كويتي يطلب من زوجته ارتداء المايوه البيكيني، ثم اعتراض البرلمان الكويتي على المسلسل كله (وذلك بعد قيام شخص سلفي مزواج ومخادع بترشيح نفسه لانتخابات الجمعية الوطنية).
كما هاجم وزير الإعلام الكويتي المسلسل (الذي جرى إنتاجه وتصويره في الإمارات) وأصدر توجيهات بعدم استضافة أي من صناع العمل في وسائل الإعلام الكويتية، هذا غير الضجة التي أثارها المسلسل على وسائل التواصل الاجتماعي ما بين معجبيه ومنتقديه.
قائمة الأكثر مشاهدة
الأمر المؤكد الوحيد وسط هذا الجدل، أن المسلسل يحظى بنسب متابعة كبيرة وضعته على قائمة الأعمال الأكثر مشاهدة هذا العام.
ربما تكون قد بدأت هذه المتابعة بدافع الضجة التي أثارها الإعلان التشويقي والفضول، ولكن كما يتبين، حلقة بعد الأخرى، فقد صنع العمل حالة من التشويق ومتعة المتابعة لا علاقة لها بالجدل، بقدر ما ترجع إلى جودة العناصر الفنية للمسلسل، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً وصولاً إلى كافة التفاصيل.
من ناحية الكتابة تبرع هبة مشاري حمادة (صاحبة "سرايا عابدين" بجزئيه الأول والثاني و"دفعة القاهرة" و"دفعة بيروت" وغيرها من المسلسلات الجيدة، المتنوعة في موضوعاتها وعوالمها) في صياغة عمل تنطبق عليه كل مواصفات الدراما التليفزيونية الجيدة، شخصيات كثيرة واضحة المعالم، لكل منها طبيعة وطبائع مختلفة، تتفاعل وتتصارع فيما بينها، وخطوط درامية متنوعة تتباعد وتتلاقى داخل خط درامي واحد لتصب جميعاً في مسار واحد نهائي، مواقف درامية وميلودرامية مثيرة، لا تخلو أي حلقة من المسلسل منها، تدفع بالشخصيات ومصائرها إلى حافة الهاوية، ثم تسحبها ثانية، لتعود وتدفعها من جديد إلى هاوية أخرى، وهلم جراً، بلا كلل أو ملل، حتى لا يكاد المشاهد يتمالك أنفاسه من سخونتها وسرعتها.
تعطي الكاتبة لكل شخصية من شخصياتها جسداً وعقلاً وروحاً وخصائص تميزها، حتى تكاد تذوب الفواصل أحياناً بين الشخصيات والممثلين الذين يلعبونها (والفضل في ذلك يعود أيضاً إلى المخرج الموهوب المثنى صبح وفريق الممثلين الرائع).
هذه الشخصيات التي كتبتها المؤلفة وجسدها الممثلون وأجاد توجيهها المخرج تعيش منفصلة كأنها شخصيات حقيقية، ولكنها ستصبح أيضاً جزءاً من صورة نجوم العمل في أذهان المشاهدين وعلامة فارقة في مسيرتهم المهنية.
زعيمة قبيلة
على رأس هؤلاء الرائعة هدى حسين في دور الطبيبة عبلة، الأم لـ6 رجال، والجدة لأكثر من دستة أحفاد، صاحبة ومديرة المستشفى الكبير، حيث يعمل أبناءها كأطباء في تخصصات مختلفة، وصاحبة المنزل الذي يعيش فيه الجميع معاً، كما لو كانت زعيمة قبيلة، أو كما لو كانت هذه القبيلة نسخة مركزة من المجتمع الكويتي، أو العربي، أو الانساني.
تتنقل هدى حسين بسلاسة واقتدار، وبأقل قدر من تعبيرات الوجه ولغة الجسد، بين وجه الأم الحازمة المحبة، والجدة الحنون، والطبيبة الأخصائية الماهرة، ومديرة المستشفى سيدة الأعمال، والحماة التي تفرز وتغربل زوجات أبناءها وتعامل كل منهن كما تستحق (من وجهة نظرها)، ثم في الفصول المتأخرة من المسلسل السيدة الغيور الشريرة التي قتلت زوجها وخدعت عشيقته وشهدت زوراً لتلفق لها التهمة وتدفع بها إلى حبل المشنقة!
تبدو هدى حسين مثل صانع الألعاب في فريق كرة قدم، لكن كل لاعب، أو ممثل، يبدو مثالياً في موقعه، بحيث لا تكاد تتصور وجود لاعب محل الآخر، ولا تستطيع الإشادة بواحد منهم أكثر من الآخر، ولكن ربما يكون أحمد إيراج، في دور زهير طبيب التجميل المتحرر، "الطري" أحيانا لدرجة أن زوجته تشك في لحظة ما في رجولته، هو الأصعب والأشجع، والأكثر إثارة للجدل أيضاً.
مع ذلك يستحق كل ممثل وممثلة من أبناء وزوجات أبناء الدكتورة عبلة مقالاً منفرداً، أما نور الغندور في دور الراقصة كريما، فهي ترسم للشخصية صورة كاريكاتيرية جذابة ومثيرة حيناً، وتدعو للعطف والشفقة حيناً، ومخيفة حيناً، ومضحكة غالباً.
صورة للواقع
من ناحية المضمون والتفسير والصورة التي يقدمها العمل عن المجتمع الخليجي، والكويتي خاصة، والمصريين، والهنود، وغيرهم من الجنسيات والفئات التي يتناولها العمل، فبعد مرور 22 حلقة من المسلسل لم يزل من الصعب التسرع بالحكم، مثل الذين حكموا على العمل من إعلانه التشويقي، حيث لم تزل المفاجآت والتحولات الدرامية تتوالى ولا يمكن إصدار أية أحكام بعد.
يرسم "من شارع الهرم إلى.." صورة للواقع، لكنها ليست واقعية، وليس هذا هو الواقع نفسه، بل صورة درامية، مكثفة، ومبالغ فيها، لتوصيل معنى إنساني واجتماعي وسياسي عام، وليس من أجل غمز جنسية هنا، أو لمز فصيل سياسي هناك.
الشئ الوحيد الذي يمكن الجزم به هو أن "من شارع الهرم إلى.." يضرب بشجاعة على الكثير من مواطن المرض والألم في مجتمعاتنا العربية، ويكسر الكثير من التابوهات المفروضة على الدراما العربية، وعلى رأسها التحسس والخوف من معالجة أي قضية أو تقديم أي شخصية، يمكن أن تثير استياء بعض المشاهدين.
وللأسف ليس هناك أسوأ من اختزال عمل بهذه القوة الفنية والفكرية إلى مجرد صورة مسيئة للمصريات أو للسلفيين أو للرجال الكويتيين.. إلى آخر الآراء الناتجة عن التحسس والتوجس الزائدين.
* ناقد سينمائي