درس مؤتمر النقد السينمائي بالرياض: لا سينما دون نقاد

الملصق الدعائي لمؤتمر النقد السينمائي بالرياض - twitter/FilmMOC
الملصق الدعائي لمؤتمر النقد السينمائي بالرياض - twitter/FilmMOC
الرياض-عصام زكريا*

النقد هو الضلع الرابع من أي صناعة سينمائية قوية ومستدامة، بعد الإنتاج والتوزيع ودور العرض، لا يمكن تصور المكانة التي وصلت إليها هوليوود دون وجود المجلات الفنية المتخصصة، والمساحات المخصصة للكتابة عن الأفلام ونجومها في معظم الصحف، والأمر نفسه ينطبق على السينما الهندية والمصرية والفرنسية والبريطانية، وكل مكان ظهرت وازدهرت فيه صناعة سينما حقيقية.

مع ذلك، للأسف، يستخف الكثيرون بدور النقد، خاصة في عصر الـ"سوشيال ميديا"، حيث أصبح كل شخص "ناقد نفسه"، وهذا الاستخفاف ناتج عن أسباب كثيرة منها النظرة الشائعة لدى الجمهور وأهل الصناعة وكثير من النقاد أنفسهم، بأن النقد تنظير وتقعير وتقييم من شخص يتولى سلطة لم يكلفه بها أحد، ولا يحتاج إليها أحد.

وهذه النظرة التي ترى أن الناقد صاحب سلطة يقابلها من الناحية الثانية تصور لا يقل شيوعا وخطورة، هو أن على الناقد أن يكون "خادماً" للصناعة وللجمهور، يعمل كمروج وموظف علاقات عامة لدى الفنانين، أو كدليل سياحي ومستشار أفلام لدى الجمهور، ينصحهم بأفضل، ويحذرهم من أسوأ، الأفلام الموجودة بالسوق.

هذه الأفكار، وغيرها الكثير، كانت محور مؤتمر النقد السينمائي الأول الذي عقد في الرياض خلال الفترة من 7 إلى 14 نوفمبر الجاري، وضم عدداً من الفعاليات والأنشطة المتنوعة التي تتعلق بهذه القضية الساخنة.

نسمع دوماً عن عقد المهرجانات والأسابيع والمؤتمرات "السينمائية" التي تهتم بالأفلام وصناعها وقضايا وهموم المنتجين والموزعين، وغالباً ما يدعى إليها النقاد ليديروا ندوة هنا أو هناك، أو ليقوموا بالتغطية الصحفية للفعالية، ولكن نادراً ما تهتم هذه الفعاليات بالنقد نفسه، باعتباره شيئاً يحتاج إلى التعرض للضوء والمناقشة، بل والتقييم أيضاً، ومن ثم فإن مجرد عقد مؤتمر عن النقد السينمائي هو بحد ذاته فكرة جريئة، وتنم على مدى وعي القائمين على هيئة الأفلام في المملكة، الذين يدركون أهمية النقد في دعم وتطوير صناعة السينما الناشئة. 

تتويج لرحلة الملتقيات

ما يؤكد هذا الوعي هو أن المؤتمر ليس مجرد فعالية منفردة عابرة، ولكنه تتويج لعدد من الملتقيات النقدية التي أقيمت على مدار 2023 في عدة مدن سعودية هي جدة (خلال مهرجان البحر الأحمر)، والظهران (خلال مهرجان أفلام السعودية)، وأبها، وتبوك، وبريدة، ليحط رحال هذه الملتقيات أخيراً في العاصمة الرياض، مصحوباً بعروض أفلام ومعارض فنية (بصرية) وبعض العروض المبتكرة الأخرى.

تحتاج صناعة السينما الصاعدة بقوة في المملكة إلى حركة نقدية وتثقيفية مصاحبة، وقد عملت هذه الملتقيات ثم المؤتمر على جمع كثير من النقاد والمنشطين ثقافياً من أجيال مختلفة داخل سياق وحركة منتظمة، ومن خلال دعوة عدد كبير من النقاد وصناع الأفلام العرب والأجانب للحديث عن خبراتهم وتجاربهم. 

حمل كل واحد من هذه الملتقيات والمؤتمر عنواناً مختلفاً يفترض منه أن يغطي جانباً من جوانب صناعة الأفلام والكتابة عنها، الروحانيات، أو التأثير الروحي للأفلام كانت عنوان الملتقى الأول، ثم السينما الوطنية، أي الخصوصية الإقليمية لبعض السينمات العالمية، ثم المشهدية والفضاء الطبيعي في الأفلام، ثم التقنية وتجربة مشاهدة الفيلم، والهجرة والسفر والانتقال في الفيلم، وصولاً إلى عنوان المؤتمر الختامي الذي حمل عنوان "ما وراء الإطار".

برامج بلا حدود

على مدار أيامه الثمانية تنوعت فعاليات المؤتمر تحت البرامج التالية:

بصحبة النقاد، وهو برنامج يتكون من عرض فيلم (أو أكثر) لأحد المبدعين، ثم إجراء حوار مفتوح بين صانعه وأحد النقاد والجمهور، وضمن هذا البرنامج عرضت أفلام "صبيان وبنات" ليسري نصر الله، "ميكروفون" لأحمد عبد الله، وبعض الأفلام القصيرة للبرازيلي كليبر ميندونسا.

برنامج "ماستر كلاس" الذي ضم محاضرتين لكل من الناقدين المغربي حمادي كيروم، والهندية شبرا جوبتا، وبرنامج "حديث الفنان" الذي ضم بعض لقاءات مع فنانين وأحد أساتذة السينما.

برنامج "بعيداً عن النقد"، وضم محاضرات ولقاءات حول موضوعات بعيدة قليلاً عن النقد السينمائي المباشر، ولكنها مكملة له مثل الحديث عن الرواية والسينما وقضايا البيئة في الأفلام، وتاريخ الرؤية العربية الإسلامية.

برنامج "عروض تقديمية"، الذي ضم حوارات مع الجمهور حول موضوعات متفرقة من هنا وهناك.

برنامج "ركن النقاد"، وكان من أكثر البرامج شعبية وقدرة على الاستساغة من قبل الجمهور، والذي يتكون من عرض فيلم أو مقاطع من فيلم ثم قيام ناقدين بتحليل ونقد الفيلم، وقد شهد هذا البرنامج عرض أفلام مثل Barbie لجريتا جيرويج وThe Birds لألفريد هيتشكوك و EO لجيرزي سكوليموفسكي.

برنامج عروض أفلام الذي ركز على بعض الأفلام السعودية الحديثة مثل "مدينة الملاهي" لوائل أبو منصور، و"من يحرقن الليل" لسارة مسفر، وعدد من الأفلام الوثائقية والقصيرة، كما ضم أيضاً عروض لأفلام عربية وأجنبية مختلفة مثل "ميكروفون" لأحمد عبد الله، و"تيتينا" لكايسا نايس.. وغيرها.

برنامج آخر تحت عنوان "أفلام السفر: مشاهد من غرب آسيا وشمال إفريقيا" يضم عرض بعض الشرائط القديمة التي صورت في هذه المناطق، يصحبها عرض موسيقي ارتجالي. وبرنامج عروض الفيديو آرت والتركيب والواقع الافتراضي، التي تتراوح من أعمال فنانين شباب غير سينمائيين وحتى فيلم The Image Book لجان لوك جودار، بجانب عدد من الورش التدريبية والعروض المخصصة للأطفال.

عمر السينما.. في كبسولة!

برنامج ضخم وطموح، ربما أكبر من اللازم، من الصعب أن تغطية أيام المؤتمر المعدودة، وحين نضيف إليه عناوين وبرامج الملتقيات السابقة، ندرك أن القائمين على تنظيم هذه الفكرة كأنما أرادوا أن يختصروا تاريخ السينما والنقد السينمائي في كبسولة، أو عدة كبسولات صغيرة.

من الواضح أيضاً أن هناك عدة رؤوس تفكر وتعد البرامج، ولذلك هناك تنوع جميل، ولكن ربما بعض الانفصال والتنافر أحياناً بين أنواع ومضمون البرامج، وكذلك تراوح بين مستويات الخطاب المقدم من خلالها، فبعضها يخاطب الهواة والمبتدئين، بينما يصعب استساغة وفهم بعضها الآخر حتى من قبل المتخصصين.

مؤتمر النقد، وملتقياته السابقة، هو بمثابة بوتقة كبيرة ضمت أنواعاً وأشكالاً وأفكاراً من ماضي وحاضر السينما العالمية، ومن المؤكد أن هذه البوتقة ستصهر كل هذه الأشياء داخل سياق، وتصور أكثر تماسكاً وتوافقاً.

المهم أن تستمر هذه الفكرة غير المسبوقة والرائعة، وأن تتجلى في مؤتمرات وملتقيات أخرى خلال الأعوام المقبلة، فالنقد كما ذكرنا هو الضلع الرابع للسينما، والثقافة السينمائية والقدرة على التذوق الفني لا غنى عنهما لأي مجتمع يستهلك الفنون.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك