"حكاية جودر".. بين النوستالجيا وإدمان الخيال الشرقي

الملصق الدعائي لمسلسل  "جودر.. ألف ليلة وليلة" - facebook/MediaHub
الملصق الدعائي لمسلسل "جودر.. ألف ليلة وليلة" - facebook/MediaHub
القاهرة -رامي عبد الرازق*

في عام 2015، كانت ثمة محاولة متواضعة لإعادة تقديم النوع الفانتازي المعروف بألف ليلة وليلة، والذي يمكن اعتباره نوعاً درامياً قائماً بذاته، وليس مجرد عالم من الفانتازيا والأساطير والقصص الخرافية، في ذلك العام قدم شريف منير، ونيكول سابا، أدورا شهريار وشهرزاد، من كتابة محمد ناير وإخراج رؤوف عبد العزيز. 

ولكن التجربة لم تلاقي أي نجاح يذكر، لا داخل الموسم الرمضاني ولا حتى في المشاهدات القليلة التي أعقبته خارج الموسم، بعيداً عن زحام المسلسلات، ورغم ما توافر لها من نجوم، ومستوى إنتاجي معقول بمقاييس العقد الماضي، إلا ان المسلسل افتقد إلى عنصرين أساسيين هما الحنين أو النوستالجيا والأصالة، حيث ظهرت تركيبة العمل مثل كوكتيل باهت من أفلام قراصنة الكاريبي ومملكة الخواتم وهاري بوتر، سواء على مستوى الديكورات والملابس أو إكسسوارات ومكياج الشخصيات وأشكالها، أو حتى على مستوى القصص والحكايات التي جاءت، نتيجة التأثر غير المحمود، بعيداً عن عوالم ألف ليلة وحكايتها غزيرة الخيال المشبعة بروح شرقية خالية من شوائب المخيلة الغربية وفانتازيتها المستوردة.

النظر إلى الوراء

يقول محمود درويش (للحنين أعراض جانبية، منها إدمان الخيال، النظر إلى الوراء)، هكذا يمكن أن نفسر سر تعلق الجمهور بتجربة "ألف ليلة وليلة" الجديدة "حكاية جودر"، من كتابة أنور عبد المغيث وإخراج إسلام خيري، وبطولة ياسر جلال، وياسمين رئيس، ونور اللبنانية، فثمة لعب شبه متقن على الحنين المفرط تجاه ألف ليلة لدى الكثير من شرائح الجمهور، وثمة أصالة نابعة من أن قصة "جودر" هي قصة تنتمي بالفعل لألف ليلة، بدءاً من الليلة 606 وما بعدها.

هذا اللعب على الحنين أو النوستالجيا له مقاييس واضحة في بناء العمل، أبرزها الإطار الخارجي للحكاية بشكلها التقليدي، كما لو أننا نستدعي نسخة الثمانينيات الشهيرة التي قدمتها نجلاء فتحي مع حسين فهمي وإخراج عبد العزيز السكري، وهي النسخة الأولى التي فتحت الباب أمام النسخ الأشهر التي قُدمت طوال سنوات الثمانينيات عبر الثنائي شريهان/فهمي عبد الحميد، والتي اعتمدت في هيئتها الدرامية على نفس منطق النوستالجيا باستحضار صوت زوز نبيل ونصوص طاهر أبو فاشا التي قدمها للإذاعة خلال منتصف القرن الماضي من إخراج محمد محمود شعبان، كل هذا مطعّم بتقنيات تحويل المسمع إلى مشهد، ومحاولة الإمساك بغزال الخيال المنطلق في رحاب التصورات الوصفية، التي بثتها الحلقات الإذاعية لسنوات طويلة.

في تجربة "جودر" نحن أمام نظرة إلى الوراء بتعبير درويش، فشهريار هو نفس شهريار الذي نعرف أصل عقدته الذكورية، وشهرازد هي ذاتها تاج الحكي ولؤلؤة الخرافات الملونة، و"جودر" هو نفسه شهريار كما تعودنا – سواء في نسخة حسين فهمي أو حتى في نسخة يوسف شعبان التي أنُجزت في التسعينيات، واعتبرت الجزء الثاني من ألف ليلة الثمانينيات وحيث ارتدى شهريار بذلة حديثة، وادعت شهرزاد أنها قمر الزمان التي انتهت نسخ الثمانينيات بمحاولة العثور عليها.

لماذا تقبل الجمهور الإطار التقليدي لحكاية شهريار وحكاءته الجميلة في "جودر"، ولم يقبلها قبل سنوات في نسخة شريف منير ونيكول سابا؟ هل لأن شهريار لم يكن يتجسد كبطل للحكاية كما في "جودر"؟ أم لأن حكايات النسخة السابقة كما سبق وأشرنا لم تكن "ألف ليلة وليلة" أصيلة وناصعة السحر؟

يمكن أن نجزم أن كلا السببين، مضاف إليهما المزاج العام للجمهور في موسم معين، هو سبب تعلق شرائح كثيرة بالنسخة الجديدة، ورفضهم للنسخة التي لم يمر عليها سوى 8 سنوات فقط.

في "جودر"، الذي يبدو اسمه غير مناسب تماماً لأن يكون عنوان تجربة، الغرض منها استعادة علاقة الجمهور بالنوع، سوف نجد حكاية جديدة لم تقدم من قبل في أي نسخة، وليست استنساخاً من مصادر غربية، لن يأتي جمهورها ليشاهدوا نصاً محلياً مأخوذاً عن أعمالهم المفضلة كما أشرنا، صحيح أن هناك بعض التأثيرات الواضحة في بناء العوالم البصرية لـ"جودر" خاصة في مشاهد عالم الشمعيين- البهو وقاعة الاجتماعات- أو هيئة الكهين الشمردل الذي يذكرنا بجاندالف في مملكة الخواتم، لكن هذه التأثيرات البصرية يمكن التغاضي عنها وسط محاولة لتأصيل العالم الشرقي الذي تدور فيه الأحداث، وهي إضافة من السيناريو حيث جعل من مصر مسرحاً لأحداث القصة، وأضاف لقب المصري إلى اسم "جودر بن عمر"، وصاغ من البيئات المصرية التراثية شكلاً وجغرافيا القالب المكاني للأحداث.

وسواء كان هذا؛ لأن العمل إنتاج الدولة من خلال "الشركة المتحدة"، أو رغبة من الكاتب في تقريب الأماكن والشخصيات لمخيلة الجمهور، فإن (تمصير) الحكاية جاء في صالح النص الدرامي، وليس ضده – وهو من حسن حظ الصناع فكثيراً من الأعمال المنتجة بنبرة محلية يفسدها الصوت الدعائي العالي في السنوات الأخيرة.

لم يلعب السيناريو ولا الإخراج على الذكرى، ولكنهما قدما بتعبير دوريش أيضاً ما ينتقي من متحف الذاكرة، فحكاية "جودر" ليست استكمالاً لأي حكاية سابقة من تراث ألف ليلة التليفزيوني، وفي نفس الوقت هي ملتزمة بشريعة النوع كما تربت عليها أجيال المشاهدين، مع تنقية النص من اللغة المسجوعة التي طالما كانت ماركة مسجلة للنوع منذ أن كتبها طاهر أبو فاشا للإذاعة، والمبنية على الحالة الموسيقية الموجودة في بعض النسخ العربية القديمة لليالي الألف.

وتنقية النص الجديد من شوائب السجع جعله أكثر جودة بما يتناسب مع ذائقة الجمهور المستهدف، والذي أصبحت الجمل المسجوعة منفرة بالنسبة له، منذ أن تدنت لغة الحوار بالأعمال الشعبية إلى حالات من السجع الشعبوي المبتذل، وهو ما يمكن رصده في أعمال محمد رمضان، ومصطفى شعبان، وأحمد العوضي على سبيل المثال.

يحسب أيضا للنص تغيير هيئة الحبيبة داخل الحكاية، فلم تعد "شهرزاد" هي نفسها قمر الزمان أو أي من الحبيبات أو الفتيات الجميلات اللائي يتمناهن "شهريار" في خياله وهو غائب فوق سحابة القصة المروية بصوت "شهرزاد"، وهو نصف ما أقدمت عليه تجربة 2015 بتغيير هيئة "شهريار" و"شهرزاد" داخل الحكايات، هنا يبدو التغيير في صالح جاذبية الحكاية بالنسبة لـ"شهريار"، فهو يرى نفسه في هيئة "جودر"، لكنه يتخيل "شروق" حبيبته في هيئة فتاة جميلة (جيهان الشماشرجي) برقتها الحانية وضعفها الناعم وخضوعها الشعوري والرومانتيكي لـ"جودر"، وفوق كل هذا إخلاصها المطلق له، حتى أنها تنتظره طوال العشر سنوات التي غابها في مدينة النحاس، وهو استلهام من قصة أخرى من قصص ألف ليلة ودمجه في حكاية "جودر"، وبالتالي تصبح "شروق" نموذج المرأة التي يتمناها "شهريار" كحل لعقدته النفسية؛ وبالتالي كان من المنطقي على مستوى البناء النفسي للشخصية أن يرى نفسه في هيئة "جودر"، ويرى الفتاة الجميلة مكتملة الصفات في هيئة أخرى غير هيئة أي امرأة عرفها، بما فيهن "شهرزاد" التي تخفف وطأة نزيفه الداخلي بحكايتها السحرية.

إدمان الخيال 

رغم تقليديته الكاملة – التي هي في نفس الوقت جزء من أسباب نجاحه لأسباب النوستالجيا والأصالة- إلا أن "جودر" لا يخلو من خيال حلو، وإيقاع جذاب، وانقلابات درامية تخص توطئة الصراع ثم إطلاقه بشكل تصاعدي، كما في علاقة "جودر" بـ"شواهي"، حين يلتقيها في مدينة النحاس ويطعنها – مع الأخذ في الاعتبار التأثر الواضح بحالات مسلسل "صراع العروش"، خاصة في مسألة التنين الذي تركبه "شواهي"، والذي لا ينتمي إلى المخيلة الشرقية كما البغلة السحرية مثلاً، التي يأتي الشيوخ المغاربة أولاد عبد الحق على ظهرها في ساعتين من البلد البعيد.

كذلك لا يتجاهل النص، رغم تطويره للصراع بين جودر وإخوته – وهو اسم الحكاية الأصلية في ألف ليلة- أن يظلا ضده على طول الخط، خاصة "سالم"، مع إضافة ميزة أن أحدهم قوي الشخصية، وحافظ لعهد الشر على طول الخط، بينما الثاني منقاد وخاضع، وتابع لأخيه، وليس كما القصة الأصلية حيث كانا كلاهما باقة شرور واحدة بنفس الميول والأفعال والمؤامرات.

ورغم عدم قدرة المخرج على أن يتخلص من تأثيرات الخيال الخاصة بـ"صراع العروش"، و"مملكة الخواتم" داخل تفاصيل الحكاية، إلا أن مدير التصوير تيمور تيمور، استطاع تجيسد حالة من الرهافة الشعرية خاصة في علاقة" جودر" بالطبيعة  في مشاهد وحدته، حين ألقاه البحر على جزيرة النحاس، أو في مشاهد صيده للسمك على بحيرة قارون، ومن ناحية أخرى في مشاهده الرومانتيكية الخفيفة مع "شروق".

كما لا يمكن إغفال أن تقاطعات النص مع بعض السير الشعبية – كما في حضور شخصية العيار الحاقد وصراعه التقليدي مع "جودر"، هيأت خيال الصنّاع إلى خلق حالة مكانية مميزة تخص الحي الذي يسكنه "جودر"، حارة سعد السعدون، ما خلق نوع من التوازن النسبي في مقابل عالم الشمعيين أو كهف الشمردل. 

يمكن القول أن أمام "حكاية جودر" فرصة طيبة لأن يتم استكمالها في مواسم جديدة، كمشروع طويل الأجل، خاصة أن مسألة الكنوز الأربعة، ولو أن بها لمحات غربية وغريبة نسبياً على الليالي العربية، إلا أنها تصلح لأن يكون كل منها حكاية فرعية لموسم كامل، ولكن الأمر مرهون بما لو استطاع صنّاع العمل الحفاظ على لون الصبغة الأصلية للنص الأم، وممارسة إدمان الخيال الشرقي الذي من دون شك لديه من القوة والتماسك والجذور التراثية الثابتة والمتشعبة، ما يجعله قادراً على أن يجنب "جودر" حضور التنانين والخواتم السحرية. 

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك