50 عاماً على Chinatown لرومان بولانسكي: "انس الأمر يا جيك"

الملصق الدعائي للفيلم الأميركي Chinatown إخراج رومان بولانسكي - facebook/ChinatownTheMovie
الملصق الدعائي للفيلم الأميركي Chinatown إخراج رومان بولانسكي - facebook/ChinatownTheMovie
القاهرة -رامي عبد الرازق*

عام 2019، حقق المخرج الأميركي كوينتين تارانتينو، انتقامه السينمائي من عصابة الهيبي الشهير تشارلز مانسون، عندما فتك بهم قبل أن يرتكبوا جريمتهم البشعة بقتل الممثلة الشابة شارون تيت، زوجة المخرج الشاب آنذاك رومان بولانسكي، وعدد من أصدقائهم، في منزلهم الفخم في لوس أنجلوس، حيث قرر ترانتينو في فيلم once upon a time in Hollywood، أن يتخلص من عصابة مانسون، قبل أن تفتك بالممثلة الجميلة وجنينها، تاركاً لنا محاولة تخيل تاريخ جديد لهوليوود، لو أن هذه الممثلة بقيت على قيد الحياة.

قبل عام من مذبحة تيت 1969، صدر فيلم بولانسكي الشهير Rosemary's Baby، الذي وضعه على خارطة الجيل الجديد من المخرجين الذين سوف يطلقون موجة هوليوود الجديدة في نهاية الستينيات وطوال السبعينيات، لكن الإشارة هنا سببها هذا التوازي الغريب بين قتل الممثلة الشابة وجنينها غير المكتمل، وبين روزماري التي تكتشف أن الجنين الذي ينمو في بطنها هو ابن للشيطان، تم زرع بذرته من قبل طائفة غامضة ومرعبة تريد استدعائه إلى العالم تنفيذاً لنبوءة مهلكة.

ظاهرة الحي الصيني

بعد حادثة القتل الرهيبة بـ5 سنوات فقط، وتجربة هامة في إعادة إنتاج مسرحية شكسبير Macbeth عام 1971، يقدم بولانسكي بالتعاون مع كاتب السيناريو المتوج بألقاب درامية مبجلة روبرت تاون فيلمهما الأيقوني Chinatown عام 1974، والذي يحتفل عشاقه هذه الأيام بمرور 50 عاماً على إنتاجه.

رُشح الفيلم لـ11 جائزة أوسكار (6 رئيسيين و5 تقنيين)، فاز منها بواحدة فقط للسيناريو، والذي وضع تمثال العم أوسكار في يد تاون لمرة وحيدة، بالإضافة إلى 11 ترشيحاً للبافاتا أوصلت جاك نيكلسون للحصول على اللقب البريطاني الشهير كأفضل ممثل، وبولانسكي كأفضل مخرج، وتاون كأفضل كاتب، ثم 7 ترشيحات أخرى للجولدن جلوب، حصد منها 5 رئيسيين.

تحول Chinatown إلى ظاهرة مجيدة في سينما هوليود خلال السبعينيات، فالفيلم الذي اعتمد بشكلٍ أساسي على عناصر فيلم الإثارة الأسود "النوار"، المكونة من محقق يتورط في قضية شائكة، وأرملة فائرة الأنوثة، والغموض، وجريمة متعددة الأطراف، ومجموعة مجهولة تُمثل مراكز قوى مالية وسياسية، مخلوطة بتركيبة تطرف شعوري جذاب ونهاية مأساوية، ونقد اجتماعي وسياسي وإرهاص مستقبلي، استطاع أن يمثل دراسة حالة متينة الحضور لكيفية تطوير النوع (فيلم الجريمة الأسود)، وإعادة إنتاجه عقب سنوات من خفوت مجده الجماهيري الكبير، حيث شكلت أفلام الجريمة السوداء الظاهرة السينمائية الأشهر خلال سنوات الأربعينيات في هوليود.

مشهد من فيلم Chinatown ب
مشهد من الفيلم الأميركي Chinatown إخراج رومان بولانسكي - facebook/ChinatownTheMovi

لكن بعد 50 عاماً من البريق الذي لم يخفت، وبعد أن اكتملت تجربة بولانسكي بفيلمه الأخير The Palace، افتتح في مهرجان فينيسيا رقم 80، وحقق ردود فعل خافتة، واستهجان نقدي دولي، خاصة مع إعلان المخرج الثمانيني أنه سوف يختم به مسيرته الرهيبة، يمكن أن ننظر إلى Chinatown على اعتباره حجر مؤسس في سينما المخرج البولندي الأًصل، ليس فقط من قبيل السمعة الإبداعية الخارقة التي حققها، ولكن لأنه يمثل مع Rosemary's Baby، مفاتيح قراءة جانب شديد الأهمية في نظره هذا الفنان المستهجن إلى العالم غير العادل وغير الشريف.

يبدأ Chinatown بمجموعة صور لرجل يضاجع امرأة في العراء، تُعرض متتابعة، دون أن ندري من هم المتورطين فيها، ثم نكتشف أن المحقق الخاص "جيك جيتس" جاك نيكلسون، يعرضها على رجل محتقن بالدموع وهرمونات الذكورة الفائرة، لندرك أنها صور لامرأته مع عشيقها، وأن مهمة المحقق كانت كشف علاقة الزنا بينهما.

وينتهي الفيلم باكتشاف أن أرملة مهندس المياه المغدور في جريمة ملفقة لتبدو مجرد حادث، قد أنجبت من أباها رجل الأعمال وشريك الزوج المقتول -وقاتله- وأن الفتاة التي ظهرت في صور المحقق الخاص أثناء تتبع الزوج قبل مقتله، هي أخت الأرملة وابنتها في نفس الوقت من علاقة سفاح مع الأب (قدمه جون هيوستون في أداء مثالي خشن)، أي أن الفيلم يبدأ بصورة لعلاقة فاحشة، وينتهي بسر فاحش سوف يدمر كل الأطراف تقريباً، لكنه لن يقضي على المؤامرة الكبرى.

وفي الحقيقة، فإن الفيلم بأكمله يمكن إرجاعه في أي مشهد إلى صور العلاقة الفاحشة التي بدأ بها، وهي واحدة من أكثر عناصر البناء الجمالي للسيناريو –أي سيناريو- قوة ومتانة، حيث إن قدرة البناء على أن ينطلق من لقطة تحمل جينات الفيلم كله! ويمكن بسهولة وبشكل واعٍ أو غير مباشر أن تتصل مع كامل تفاصيل الفيلم؛ هي علامة جودة تحفظ لأي شريط سينمائي مكانته العطرة في ذاكرة الإبداع.

Chinatown، فيلم عن علاقات غير شرعية كثيرة -جسدية وغير جسدية- وعن فواحش اجتماعية وسياسية، ترتكب في المجتمع الأميركي دون أن تكون هناك ثمة قدرة على تحقيق كامل العدالة أو العقاب، نحن نتحدث عن أميركا في الثلاثينيات، ولكن بروح السبعينيات المشبعة بفساد إدارة الرئيس نيكسون وانبعاث غازات ووترجيت، حيث يتواطئ الكل على أن تظل الأمور في خانة السر، بدلاً من خروجها إلى العلن، فلن يتحقق الحساب المرجو أو المكسب المنتظر لأي طرف.

بالمناسبة، حتى علاقة الزنا التي اكتشفها المحقق جيتس في بداية الفيلم، نعود لنرى الزوجة وحول عينيها كدمة سوداء، دلالة على أن زوجها الباكي قد ضربها، لكنه لم يطلقها أو يقتلها كما كان يبدو أنه سيفعل عندما شاهد الصور في المشهد الأول من الفيلم، وهي من أكثر الإرهاصات التي قدمها السيناريو حساسية وخباثة لتحقيق فرضيته السياسية الأعمق والأشهر "انس الأمر يا جيك.. إنه الحي الصيني".

هؤلاء والحي الصيني  

يمكن القول إن جزء كبير من عالم رومان بولانسكي، قائم على عنصرين أساسيين في سياق نظرته إلى الوجود أو العالم أو حتى إلى أميركا التي اتهمته فيما بعد بالاغتصاب، وأصدرت عليه حكماً لا يزال يطارده.

العنصر الأول، وجود قوى ما ضخمة التأثير، عالية النفوذ، متشعبة العلاقات، قاهرة، متغلغلة، لديها إمكانيات مؤسساتية سواء مادية أو غيبية فوق طبيعية، هذه القوى هي خصم مفرط البطش، متين العداء، لا يتوانى ولا يكل، متطرف ووحشي، كل هذا في مواجهة بطل وحيد، حاد الذكاء لكنه مشوش، ومغدور، وغير مستعد للمعركة دوماً، يمتلك أدوات بسيطة، وأسئلة كثيرة، ودهشة مسيطرة.

م
مشهد من الفيلم الأميركي Chinatown إخراج رومان بولانسكي - facebook/ChinatownTheMovi

هذه القوى أو الهؤلاء يمكن أن نرصدها في غالبية أعمال بولانسكي، هي الطائفة الشيطانية في Rosemary's Baby في مواجهة الفتاة الوحيدة المسجونة في بناية ملعونة بالدم، وهي العرافات اللاتي يطاردن Macbeth قاتل الملك، وهو اختيار بولانسكي الوحيد من عالم شكسبير، وهي الجيران غريبي الأطوار الذي يستكمل معهم رحلة الألم والرعب في The Tenant، وهي رجل الأعمال نوح كروس وجماعته من المنتفعين بنقل الماء إلى منطقة الوادي خارج لوس أنجلوس من أجل رفع أسعار الأراضي عبر حرب المياه كما في Chinatown، وهي المجتمع الفيكتوري القابض على زمام نفعيته وتقاليده في مواجهة العشيقة تيس، كما في آخر أفلامه بولانسكي السبعينيات، وهي مجموعة العلامات الغامضة التي يمكن أن تفتح بوابة العالم الماورائي رقم 9 في الفيلم الذي يحمل اسمها The Ninth Gate، وهي الجيش النازي بكل عنصريته الوحشية في The Pianist، وهي طاقة السادية وحلاوة الخضوع للإلهام الفني في Venus in Fur، وهي أجهزة المخابرات المتواطئة على سر العلاقة بين الوزير البريطاني والمخابرات الأميركية في The Ghost Writer.

أما العنصر الثاني في سينما بولانسكي، غياب العدالة، أو بالعودة إلى الجملة الأخيرة في Chinatown (انس الأمر.. إنه الحي الصيني)! فالحي الصيني في الفيلم كما يأتي تفكيكه في السيناريو، هو مكان مكدس بالفساد والأسلحة والأسرار والصمت، حيث يدور المشهد الأخير بالمناسبة حين تقتل الأرملة الجميلة، وهي تحاول الفرار بأختها/ ابنتها من بطش الأب وفساد جماعته.

Chinatown هو مسقط الرأس المهني لجاك جيتس، الذي استقال من الشرطة عقب فشله في حماية امرأة لجأت إليه وهو ضابط رسمي، تماماً كما فشل في حماية الأرملة الطروب، حين لجأت له وهو محقق، دلالة على أن العدالة والحماية غائبين في الحالتين، وخلال سياقات الفيلم يتحول مصطلح "الحي الصيني" إلى مجاز واضح لغياب القدرة على تحقيق العدالة سواء بشكل جزئي أو كلي، وعلى التواطؤ ضد الحقيقة، وعلى أحقية الفساد أن تكون له اليد العليا طالما ارتبط بالمصالح والأسرار والكثير من الصمت والفواحش الكامنة.

يمكن أن ندرك تجلي Chinatown في مستواه المجازي في العديد من التأويلات الخاصة بأفلام بولانسكي، والتي يغيب فيها أيضاً مبدأ تحقق العدالة المطلوبة كجزء من السلام الاجتماعي أو الأهداف الإنسانية التي تجعل الحياة تستحق أن تعاش في أي مكان فوق هذا الكوكب.

تغيب العدالة في Rosemary's Baby، حين يولد ابن الشيطان لتحقيق النبوءة الدموية، وتغيب في The Tenant الذي ينتحر دون أن ندري هل مدفوعاً مرضه النفسي أم بغرائبية جيرانه، وتغيب في Chinatown نفسه بالطبع، حين يسمع جيتس الجملة الشهيرة، ثم يمضي غائباً في ظلمات الشارع الرئيسي بالحي، وتغيب في The Ghost Writer الذي يختفي في النهاية، دون أن ندري مصيره! بعد أن اكتشف سر مقتل الكاتب الذي سبقه في العمل على مذكرات الوزير الفاسد، أو على حد قول الكاتب أحمد خالد توفيق في مراجعاته النقدية المعنونة "أفلام الحافظة الزرقاء"، فإن بولانسكي يكره النهايات السعيدة، والنهايات السعيدة هنا ربما كان المقصود بها Chinatown كمصلح مجازي يعكس سطوة الظلم والقهر والهزيمة وثمن الدم غير المدفوع.

خ
الملصق الدعائي للفيلم الأميركي Chinatown إخراج رومان بولانسكي - facebook/ChinatownTheMovi

عود على بدء

ألا يمكن إذن، إذا سلمنا بحضور عنصري (الهؤلاء والحي الصيني) في أعمال بولانسكي أن نربطهم بما سبق، وأن عاشه هو نفسه حين عاد إلى منزله الهوليوودي، فوجد كلمة خنزير مطبوعة بدم زوجته الجميلة، وابنه غير المكتمل على باب الفيلا التي حولتها جماعة مانسون إلى مسلخ بشري.

صحيح أن السلطات قبضت على المجموعة الهيبية، وتم تنفيذ القانون بصورة أو بأخرى، لكن ألم تتمكن تلك الجماعة الغامضة الملوثة بالشذوذ الانفعالي والذهني والباطشة حد التمثيل بجثث الأجنة أن تجعل من أي عقاب تتلقاه أقل بكثير من الخسارة التي تعرض لها بولانسكي الشاب بفقدانه لزوجته الموهوبة الجميلة وجنينهم الذهبي الممزق؟، هل يوجد أي عدالة أرضية يمكن أن تعوض هذا؟.

إجابة بولانسكي في Chinatown بـ(لا)، تذكرنا حسرة جيتس التي تفور من عيناه غير المصدقتين أن الأرملة الجميلة تلقت رصاصة في رأسها الأشقر، لمجرد أنها حاولت الفرار من صراع دموي لم تكن تريد أن تكون طرفاً فيه، بنفس الحسرة التي ربما اشتعلت في عينا بولانسكي عندما عاد وشهد شارون الماسية الجميلة وهي معلقة في سقف المنزل.

إن الاحتفاء بمرور 50 عاماً على مولد Chinatown، هو في حد ذاته احتفاء بإعادة اكتشاف رومان بولانسكي ليس فقط كصانع أفلام جدلي وبلا شبيه، بل كلمحة درامية مكتملة مدموغة بالأسرار، ومسكونة بالفواحش والشياطين، ومدموغة بالرعب ومختومة بالدم.

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك