إيما ستون.. صلصال بشري ملون

time reading iconدقائق القراءة - 10
إيما ستون تحمل تمثال أوسكار أفضل ممثلة، لوس أنجلوس، 10 مارس 2024 - instagram/emmstone
إيما ستون تحمل تمثال أوسكار أفضل ممثلة، لوس أنجلوس، 10 مارس 2024 - instagram/emmstone
القاهرة-رامي عبد الرازق*

في طفولتها أصيبت إيميليا ستون، التي سوف تصبح إيما فيما بعد، بواحد من أمراض الر ضع الذي جعلها تبكي لمدة 6 شهور متواصلة، مما أدى إلى إعادة تشكل أحبالها الصوتية بهذا الرنين الأجش منخفض النبرة، وفي عمر الرابعة أعلنت إيما لوالديها، اللذان كانا أبعد ما يكونا عن الوسط الفني، أنها تريد أن تصبح ممثلة.

وفي الخامسة عشرة من عمرها صممت عرض مهنى على برنامج الباور بوينت، بعنوان "مشروع هوليوود" من ـجل أن تقنع اهلها بضرورة أن تتوجه إلى لوس أنجلوس كي تصبح ممثلة، وهو ما يعني أن إيما لم تكن تعاني من مرض في طفولتها، ولكن على ما يبدو أن بكائها الطويل وهي لا تزال رضيعة كان نوعاً من اكتساب المهارات الصوتية والنبرة المميزة، سوف تدمغ أدوات التشخيص الحادة التي تحملها في حقيبة موهبتها المتوهجة.

تقول إيما أنها لا تحب صوتها – رغم كونه بصمتها البراقة إلى جانب عينيها المليئتين بالأسئلة- وأنها لا تزال حين تسمع صوتها وهي تتحدث، لا تكاد تتصور أنه يصدر منها.

ورغم قدرتها الكبيرة على التحكم بصورة مذهلة في أدائها الصوتي تمثيلاً أو غناءً – كما في أيقونتها المتوجة بأول أوسكار في مسيرتها  Lala Land 2017- إلا أن لديها مثل كل الفنانين العظام هذه الشكوك الطويلة المربكة، حول ما يمكن أن يكون أصيلا أو جذاباً أو مهماً فيما تملكه من مهارات، أو ما تقدمه من إبداع.

تكريس مبهج

تبدو مسيرة ستون مكرسة بصورة مبهجة للنجومية الفذة، التي تعيشها في هذه المرحلة الذهبية من مشوارها-صفنت مؤخراً كواحدة من أعلى الممثلات أجراً في العشر سنوات الاخيرة- هذه الفتاة المولودة عام 88 في ولاية أريزونا الأميركية، لأبوين من خليط أعراق يعكس مزاج جيني عبقري من قبل الطبيعة، سويدي ألماني بريطاني، استطاعت أن تقنع والدتها بالانتقال معها إلى لوس انجلوس، من أجل أن تشارك في واحدة من برامج تليفزيون الواقع وهي فقط في الخامسة عشرة من عمرها.

ثم قضت وقتاً لا بأس به كطائر طنان يعي شغفه بالرحيق، متنقلة بين تجارب الأداء العديدة، لكي تقفز فوق الحائط العالي المسمى بهوليوود، وهو ما سوف يمنحها فيما بعد كما صرحت عقب فوزها بأوسكارها الأول عن شخصية "ميا" في Lala Land، خبرة بهذا النوع من الإحباطات المريرة والاحتراق الداخلي، الذي تعانيه فتاة موهوبة من أجل أن تمس أطراف حلم التحقق والبزوغ. 

"لا أعرف كيف يمكنك لعب دور إنسان يمر بتجارب إنسانية حقيقية، دون أن يكون قادراً على السير في الشارع، إذا كنت لا تستطيع أن تعيش حياة حقيقية، فكيف تلعب دور شخص حقيقي"

لكن رغم عشرات من تجارب الأداء، التي سوف تمنحها أدواراً صغيرة تليق بنموها كبرعم أشقر الشعر في أفلام المراهقين والمدارس الثانوية، إلا أن جاذبيتها الهائلة وقدرتها على التشكل ما بين الميلودراما والكوميديا، وذلك اللون المموه للأداء الجدي المطعم بهزل ساخر وعميق، سوف تجذب عدسات مخرجين كبار وصانعي نجوم حقيقيين، ممن يُعتبروا أكاديميات فنية عظيمة التنوع والخبرات.

يمكن اعتبار عام 2014 هو مفتتح التحول البراق في مسيرة ستون، حين خطت بأقدامها الصغيرة متجاوزة أفلام مثل Spider Man 2، الذي حقق نجاح كبير في شباك التذاكر، إلى عتبات العوالم المفتوحة لصناع سينما مهمين على رأسهم وودي آلان، الذي اختارها لبطولة  Magic in the Moonlight أمام كولن فيرس، والمكسيكي الساحر اليخاوندرو أنرييتو، الذي رشحها تعاونها معه في رائعته Bird Man 2014 للحصول على أوسكار أفضل ممثلة مساعدة لأول مرة.

كان إيما في السادسة والعشرين من عمرها آنذاك، وكانت منذ قيامها ببطولة فيلم Easy A عام 2010 قد تم تعميدها كواحدة من وجوه أفلام المراهقين الأمريكية المحببة، وهو ما توجها بعدة جوائز جماهيرية عن بطولة افلام مرحلة ما بعد 2010، وصولاً إلى Spider Man 2.

ولم تكن مشاركتها في كلا الفيلمين المهمين – خاصة Bird Man- إعلانا عن مخاصمة اللون الذي نسج لها هالة الجاذبية التي يتمتع بها حضورها الأسر، ولكنها تدريجياً بدأت تصبح اسماً مطروحاً في قائمة البحث عن ممثلات بإمكانيات تتجاوز التقليدي، خاصة بالنسبة لصانعي الأفلام أصحاب العوالم الخاصة، وبالتالي لم يكن مستغرباً أن يقع اختيار داميان شازيل لها في دور ميا عام 2016، في ثالث تعاون بينها وبين رايان جوسلينج، ليتم تكريسها نقدياً وجماهيرية كواحدة من أيقونات التمثيل النسائي في العشرية الثانية من القرن الجديد.

"ميا" و"أبيجال"

ما بين عام 2016 و 2018 قدمت ستون 3 أفلام فقط هي Lala Land، وBattle of the Sexes، و The Favourite – الأخير يحمل توقيع اليوناني الخارق يوجوس لانثيموس، الذي سوف يمنحها أوسكارها الثاني عن دورها في Poor Things 2024.

في Lala Land قدمت ستون شخصية "ميا"، الفتاة الطموحة التي ترغب في تحقق حلمها بالتمثيل والغناء، لكن أشواك الواقع تمزق أطراف حرير روحها الشفاف، فتقع في فخ الإحباط والخسوف، والترجل عن صهوة براق الأمل، كل هذا في إطار من الرومانيتيكة الاستعراضية، التي حاول شازيل أن يؤصل فيها محبته الكبيرة لعوالم الفيلم الاستعراضي الهوليوودي، بنسخة حديثة شديدة التأثير وصعبة التجاهل.

ثم في عام 2018 التقط لانثيموس وجه ستون، الذي يجمل جينات بريطانية أيرلندية وقدرات أدائية مؤهلة للكوميديا الجسدية العنيفة، وعرض عليها المشاركة كبطلة ثالثة في فيلمه التاريخي الهزلي الغريب  The Favourite، بجانب أوليفا كولمنا، وريتشل وايز، وهو ما منحها الترشيح الثاني للأوسكار كأفضل ممثلة مساعدة، رغم التفاوت النقدي الكبير الذي استقبلت به التجربة ككل، ووسط مراجعات صحفية تؤكد على أن ستون بعد ما حققته في Lala Land لم يكن لها أن تشارك كبطلة ثالثة في فيلم يحمل أجواء القرن الثامن عشر بصبغة كوميديا مسرحية، تتأرجح ما بين الجروتيسك والديلارتي والفودوفيل.

لكن لم يكن أي من هؤلاء الذين اهدروا حق ايما في التنقل بين مدارس ادائية مختلفة وبين رؤى مخرجين يعيدون تشكليها بناء على هوياتهم الذهنية المغايرة يدركون أن إيما تحتاج إلى ان تمتلئ حقيبة ادواتها الأبداعية بالمزيد من الخبرات التي تزيد من حدة وبريق موهبتها.

من بين الأراء التي تناولت وجوه ستون المتعددة صنفها أحدهم على اعتبار أنها النموذج الأنثوي من الأسطورة الراحل هيث ليدجر، ورغم شعبوية التشبية إلا أنه يختصر ويكثف هذه القدرة الصلصالة على التشكل، بصورة تدعو للتأمل في قدرتها على التشخيص والدمج بين الأساليب والمدارس الأدائية المختلفة.

"بيلا"

في عام 2023، وبعد أن اصبحت ستون ضيفة غالية على مهرجان فينسيا السينمائي، الذي توج لها اثنين من أفلامها الهامة (Bird Man وLala Land)، أضاءات شاشات المسابقة الرسمية بالتجربة الأحدث والأكثر جرأة وعنفاً للمخرج يروجوس لانثموس Poor Things، وهو ما يمكن اعتبار فيلمه المفضلة تدريباً مكثفاً كان في حاجة إليه، قبل أن يخوض في غمار هذه الغرائبية الصادمة، مستغلاً كل إمكانيات إيما ستون الملامحية والجسدية والأدائية، كأنه يعتصرها اعتصاراً من أجل أن يقطر منها هذا المزيج المذهل من الأساليب والقدرات.

يمكن القول أن ستون تعتمد على دمج البريخيتة، أي ان تظل شخصية الممثل حاضرة بجانب الشخصية الدرامية التي يقدمها، مع مدرسة الاستغراق الكامل حد التوحد الصوفي والجسدي في الأداء.

لا تملك إيما ستون جسداً باذخ الأنوثة، لكنه في نفس الوقت ناضج بحسية غامضة، تجعله جذاباً ومريباً في نفس الوقت، لا صدر ممتلئ ولا اقدام منحوتة، بل ثمة بروزات عظمية هنا وهناك، لكن كأن لديها القدرة على أن تكسب جسدها ردود أفعال قريبة لقدرتها على التحكم في ملامح وجهها.

"بيلا" في Poor Things هي امراة بجسد ناضج وعقل جنين، هو جنينها الذي زرعه تحت قشرتها الصلبة جراح مهووس بالقدرة الإلهية على ضرب الأمثلة بالبشر، من أجل استخلاص معنى للحياة والوجود.

تقدم ستون دور رضيع يحرك جسد ناضح بالحسية والرهافة، تتعثر وتتلوى وتمتزج بالطفولة التي تحركها بعشوائية التعرف على أولى الخطوات نحو اكتشاف العالم.

إن اكتافها المعلقة بعظامها الناتئة إلى أعلى، تٌشعرنا أنها أقرب إلى الماريونيت التي يتحكم بها الجراح المهووس بفكرة الألوهية، ثم تدريجياً يستقيم ظهرها وتهبط أكتافها حين تبدأ في التمرد على سلطته، وإعادة تشكيل العالم عبر نظرتها هي وليس عبر أوامره.

هذه النوع من الأدوار يحتاج إلى ميزان من ذهب، لضبط إيقاع الممثل وحركته، بعيداً عن الارتجال أو التخبط غير المدروس أو المقنع، بالطبع هناك مخرج يتحكم بقدرة تقنية وتوجيهية عالية في كل تفصيلة تخص ملاءة الجسد، ونظرة العين، ونبرة الصوت، وماء الملامح، لكن دون الموهبة والقدرة على استحضار النبض الداخلي، وليس فقط القشرة العضوية التي تتحرك وتتعرى وتكسر وتمزق وتمارس الجنس، لم يكن لـ"بيلا" أن تتجسد، ولم يكن لإيما ستون أن تحوذ أوسكارها الثاني، وهي في الخامسة والثلاثين من عمرها، وبعد أقل من عشر سنوات من أوسكارها الأول، وهو ما يجعلها ليست فقط واحدة من الأيقونات الحية لهوليود في هذه المرحلة، ولكنها تحولت إلى سؤال نقدي حول ما يمكن أن تقدمه فيما بعد متجاوزة ما حققته؟، وهو ليس بالقمة الهادئة ولا الرصيد العادي، بل هو تحدي يحتاج إلى طاقة سحرية وغير اعتيادية.   

* ناقد فني

تصنيفات

قصص قد تهمك