"الملحون".. ديوان المغاربة وتراثهم الفني

مطربة الملحون ليلى المريني أثناء حفل فني في المغرب (2024) - الشرق
مطربة الملحون ليلى المريني أثناء حفل فني في المغرب (2024) - الشرق
مراكش -علي عباس

الملحون هو فن شعري تراثي مغربي ذو قافية وإيقاع خاص، يُغنّى بطريقة الإنشاد، ويخضع نَظْمه إلى بحور شعرية خاصة به. أدرجته منظمة اليونسكو عام 2023 على اللائحة العالمية للتراث اللامادي.

يُكتب الملحون بلغة تجمع بين الفصحى والدارجة المغربية، ويُعدّ للغناء والإنشاد وفقاً لقواعد أكاديمية صارمة، تفتقد إليها الأغنية الشعبية في المغرب. هكذا يمكن اعتبار الملحون أدباً، وله أغراض دينية مثل المدائح النبوية والتضرّع والخشوع، واجتماعية كما في الغزل والحكمة.

تقول أستاذة الملحون ومنشدته وملقّنته ليلى المريني لـ"الشرق"، وهي الحاصلة على الجائزة الأولى للملحون، وتتهيّأ للحصول على الجائزة الشرفية لهذا الفن:

"الملحون، هو الدراجة المغربية الفخمة، تتكوّن قصيدته من "فراش وغطاء"، وهو يختلف عن الأغنية المغربية تماماً، لجهة الشعر والأداء الذي يستوجب الرصانة والكلاسيكية، فضلاً عن ارتداء الزي المغربي التقليدي، مقارنة بالأغنية الموسومة بخلاف ذلك".

 يشترط في الملحون، أدواته الموسيقية الإيقاعية والوترية مثل، التعريجة، وهي آلة موسيقية تراثية مغربية، تصنع من الجلد والطين، ذات نقوش تراثية بحسب المنطقة، وتستعمل أيضاً في "الدق المراكشية" وغناء"العيطة"، وهي تختلف عن"الدربوكة". كما يشترط  حضور آلة "السويسن"، وهي تشبه العود، ولكن أصغر منه، وذات أوتار لا تقلّ عن ثلاثة.

وعن ضرورة تدريس وتلقين الملحون تقول المريني: "هناك فرق بين مُنشد الملحون والمُطرب، استناداً إلى القواعد تلك. نقوم راهناً بتدريسه وتلقينه في المدارس الموسيقية التابعة لوزارة الثقافة على الأصول والقواعد الفنية، سواء من ناحية النظم أو الإنشاد. الدراسة تجعل الطالب يعي القصيدة ويتفاعل معها".

مرجعية التسمية "مَلحون"

أثارت التسمية سجالاً لغوياً ومساءلة حول جذر اشتقاق الكلمة، فالمعروف عن "اللحن" في العربية، أي الخطأ اللغوي. ويعتقد الباحث محمد الفاسي "أن الملحون  جاء من التلحين، بمعنى التنغيم، لا من اللحن أي الخطأ في القواعد الإعرابية".

حفل الملحون الفني (2024)
حفل الملحون الفني (2024) - الشرق

ويذهب الباحث عباس الجراري إلى فرضية "اللحن، كخطأ في الإعراب"، وها هو الشيخ أحمد سهوم مؤلف كتاب "الملحون المغربي"، ينفي فرضية" الخطأ" استناداً لدراسته بعض آراء شيوخ الفن "بأنّه "القول البليغ، الواصل المقنع".

هوية مغربية جامعة

لم يقتصر الملحون على الفئات الشعبية، بل مارسه الشعب المغربي في فئات المتصوّفة ورجال السياسة والملوك، والأمراء والسلاطين".

 وفي سياق صدور ديوان السلطان مولاي عبد الحفيظ لدى أكاديمية المملكة المغربية عام 2014، ضمن موسوعة الملحون، كتب السيد عباس الجراري (أنجز أوّل رسالة دكتوراه في الملحون، وأسهم مع باحثين مغاربة في اعتماد أدب الملحون في الجامعة المغربية) في مقدّمته:

"أوجد الملحون لنفسه موقعاً متميزاً في التأليف والشعر، إبداعه كان وفقاً للمقاييس التي تعارف عليها أشياخ الملحون".

خصائص شعر الملحون 

يصف الباحث عبد الرحيم أخ العرب شعر الملحون "بالتنوّع الأسلوبي والإيقاعي، ويكتنز بالصور التراثية الشعبية المنتمية للشخصية وللواقع".

ويعتبر العرب أن الملحون "هو تراث لا مادي أدبي وشعبي، ورأسمال ثقافي، يكشف القدرة التخييلية للشاعر الشعبي، ويعلن عن مرجعيته الثقافية الغنية، وينمّ عن فلسفة لغوية وموسيقية مغربية - أندلسية ناضجة (زجلية)، وعن كتابة شعرية وجمالية نستطيع تسميتها وتوقيعها باسم "الملحون" أو "الموهوب".

ويرى أن شعر الملحون "أماط اللثام عن ثقافة شاعره الأدبية، والعلمية، والدينية، والشعبية (الملاحم)، والبحرية، والحرفية، والاجتماعية، ومواكبته لروح العصر ولقضاياه الوطنية المحلية، والعالمية، أيضاً مواكبة التطوّر العلمي والمعرفي، وذلك من خلال خصائصه الجمالية وعمقه الثقافي وتنوّع أغراضه وموضوعاته".

يؤكد الأستاذ الباحث أنس الملحوني "أن شاعر الملحون استطاع أن يرسم بدقّة عالية صوره الشعرية وأخيلته الإبداعية، معتمداً على لغة عامية بليغة فاقت في استعمالاتها البلاغية والإيقاعية العروضية، ما قد نقف عليه في الشعر المدرسي، حتى شاع بين المنتسبين لهذا الفن بأن "المَلحُون افْرَاجْتو فَاكّْلاَمُو"، أي في لغته الشاعرة البليغة الواصلة العذبة المقنعة".

الملحون والشعر الزجلي

يستقصي الشاعر الزجّال أحمد لمسيح الحائز على جائزة "كتاب المغرب" عام 2023 تاريخ الملحون لـ"الشرق":

"صُنّف الملحون كفن زجلي  في الشعر العامي  مثل المعلّقات في الشعر المكتوب بالعربية، على المستوى الفني ومعمار الكتابة والإبداع، وفيه أنواع كثيرة، ولا ينحصر في الشعر فحسب، بل هو طقس إنشادي، خرج على هيمنة  الآلات الموسيقية".

وأكد أن "صوت المُنشد أساسي في الملحون، كما لا يشترط فيه الطرب بل الفصاحة في الأداء، علاوة على الاهتمام باللباس وطريقة الجلوس وتصرّف السامعين المقنن تلقائياً". ولا يعدّ الشاعر لمسيح نفسه إلا شاعراً زجّالاً، في مسافة مع الملحون".

 

في الثقافة البدوية 

 يعتقد البعض بوجود الملحون أصلاً في الحضارة العربية الأندلسية، وبعد سقوطها انتقل إلى المغرب؛ حيث أسهمت الثقافة المغربية واللغة الدراجة بمنحه طابعاً مغربياً بامتياز. 

تضاربت الآراء حول بداياته في المغرب، إذ يشير ابن خلدون في مقدّمته، وفي باب تناوله الثقافة البدوية إلى نشوئه في العصر "الموحّدي" بتأثير الأندلس، مارسه بدو جهة "تافيلات" المغربية، فلعب دوراً مهماً في التقاليد الاجتماعية، ثم انتقل إلى المدن العتيقة مثل سلا، مراكش، أزمور، وفاس، ومكناس التي فيها أوّل مدرسة للملحون منذ القرن السادس عشر. وهكذا، اكتسب الملحون الهوية المغربية.

حفل إنشاد الملحون 19 يونيو 2022 - بيت الفن المغربي
حفل إنشاد الملحون 19 يونيو 2022 - بيت الفن المغربي - الشرق

شيوخ الملحون 

 يعدّ الحاج محمد بن علي الشريف، والحاج محمد الدمسيري، من شيوخ الملحون المؤسّسين. وفي العصر الحديث، يشتهر الشيخ الريسوني، سي محمد الوالي، والحاج الحسني التلالي، وبنونة بهذا النوع من الفن. 

وتعبيراً عن مكانة هذا الفن في الثقافة المغربية، انتشرت جمعيات عدّة للملحون في ربوع المملكة كل بحسب الأصول التي يقترحها. 

 ديوان المغاربة 

اعتبر محمد الفاسي، مؤلف "معلمة الملحون"، وهو خريج جامعة القرويين التقليدية، وجامعة السوربون، في أثناء المهرجان الأول للملحون في الستينيات، "أن الملحون، هو ديوان المغاربة "، وكتب أبحاثاً ودراسات متنوّعة في هذا الفن، الذي له قواعد وأصول تأليفية وإنشاديه، كما جاء في كتاب المؤرخ المغربي عبد العزيز ابن عبد الجليل "معجم المصطلحات لطرب الملحون".

من الشعر إلى الفرجة 

"الشرق" التقت الفنان المسرحي المغربي عبد المجيد فنيش، الذي اعتبره النقّاد المسرحيون، بأنه "الجسر الذي ربط التجارب المسرحية الأخرى بالمشهد المسرحي إلى الآن، وأنه الأكثر مسرحة للملحون، منذ أول عمل له سنة 1985". 

 شرع فنيش منذ عام 2020 بإنجاز مسرحيات حول تاريخ  بعض المدن، انطلاقاً من الملحون، وتمّ إلى الآن إنجاز عملين، الأوّل حول سلا، والثاني حول الرباط.

يقول فنيش: "عرفت السنوات العشر الأولى من المرحلة، تحوّلاً كبيراً في التعامل مع ماهية الملحون، ما أكد أن فُرجة الملحون لا يمكن أن نحصرها مطلقاً في كلامه أي الشعر والإنشاد، بل في كونه قابل للتوظيف في مقاربات إبداعية، في مقدّمها المسرح الإذاعي والتلفزيوني ثم الفرجة المسرحية".

وعلّق على تلك التجارب معتبراً أن مسرحية "ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب"، تبقى مرجعاً قوياً لحضور الزجل في المسرح المغربي، ويمكن اعتبار مسرحية "النور والديجور" للتهامي المدغري، ومسرحية "الحراز"، قمّتين إبداعيتين مؤسستين لما أسميه (ملحون المسرح… مسرح الملحون).

يتابع: "كما يمكن اعتبار "الحراز" لعبد السلام الشرايبي، هو الرحم الذي خرجت منه أهم ظاهرة موسيقية مغربية منذ نصف قرن، وهي المعروفة باسم "المجموعات"،  مثل "ناس الغيوان" وجيل "جيلالة".

 هكذا، نرى حضور الملحون في الثقافة المغربية متنوّعاً وغير محصور بالشعر أو الإنشاد، عبر إصدارات ودراسات متنوّعة، منها:

 كتاب الفنانة التشكيلية والكاتبة المغربية لبابة لعلج "ملحون وتشكيل  كتابات ولوحات"، بنسختيه الفرنسية والعربية"، حيث الملحون بلغة التشكيل والتشكيل بلغة الملحون، فضلاً عن إصدارات متنوّعة وكثيرة من قِبل جمعيات الملحون ومؤسسات ثقافية.

تصنيفات

قصص قد تهمك