لم تمض ساعات قليلة على احتلال مدينة القدس، في عام 1967، حتى كانت قوات الجيش الإسرائيلي تنتشر في محيط "متحف الآثار الفلسطينية"، وتحكم السيطرة على عشرات آلاف القطع الأثرية المعروضة والموجودة في المخازن.
بعدها، غيرت السلطات الإسرائيلية اسم المتحف، من "متحف الآثار الفلسطيني" إلى "متحف روكفلر"، وصنفته واحداً من أقدم المتاحف الإسرائيلية، بحسب ما هو منشور على موقعه الإلكتروني، لتبدأ بعد ذلك في استخدام حتويات المتحف على نطاق واسع، فنقلت عدداً كبيراً من القطع الأثرية إلى متاحف أخرى، وشاركت بعدد من القطع في معارض دولية تحت اسم دولة إسرائيل.
استخدام إسرائيل قطعا أثرية فلسطينية في معارض دولية، أثار أزمات سياسية مع السلطة الفلسطينية، التي اعتبرت ذلك مخالفاً للاتفاقات الدولية، التي تنص على ضرورة قيام السلطات المحتلة بالحفاظ على الآثار والممتلكات في الأقاليم التي تحتلها، وعدم نقل سكانها أو أي شيء من محتوياتها، وعدم إجراء أي تغيير عليها.
تاريخ "متحف الآثار الفلسطيني"
تأسس "متحف الآثار الفلسطيني" في القدس في عام 1934، خلال فترة الانتداب البريطاني، وأقيم على تلة تسمى "كرم الشيخ" مشرفة على مدينة القدس العتيقة. وتبرع بتكلفة البناء ثري أميركي يحمل اسم "روكفلر"، كما خُصصت لإدارته لجنة دولية مختصة، حتى عام 1960 حين عيّن الأردن إدارة محلية للمتحف بدلا من الإدارة الدولية.
ويضم المتحف، الذي صادرته إسرائيل، بما فيه من محتويات، مجموعة كبيرة من القطع الأثرية التي اكتشفت في الحفريات الأثرية الواسعة بالأراضي الفلسطينية خلال عهد الانتداب البريطاني، في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.
استباحة التاريخ
يقول خبراء ومسؤولون فلسطينيون إن إسرائيل استباحت الآثار والمواقع الأثرية الفلسطينية الغنية بآثار حقبات تاريخية مختلفة، من كنعانية وبيزنطية وإسلامية وعثمانية وغيرها، ونقلتها إلى متاحفها.
وقال خبير الآثار حمدان طه، لـ"الشرق"، إن السلطات الإسرائيلية سيطرت على غالبية المواقع الأثرية، فور احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة، وأجرت عمليات تنقيب واسعة، صادرت خلالها أعدادا كبيرة من القطع الأثرية، ونقلتها إلى متاحف إسرائيلية.
وأشار طه إلى أن السلطات الإسرائيلية ضمت نحو 900 موقع أثري في نطاق المستوطنات التي أقامتها في مختلف أنحاء الضفة الغربية.
وكانت آخر قطعة أثرية صادرتها إسرائيل من الأراضي الفلسطينية، "حوض المعمدانية" في بلدة "تقوع" قرب مدينة بيت لحم، مهد السيد المسيح، مطلع هذا الأسبوع.
وقال رئيس بلدية "تقوع"، تيسير أبو مفرح، إن قوة من الجيش الإسرائيلي داهمت البلدة عند الخامسة فجراً، ونقلت الحوض في شاحنة.
ولم تخف إسرائيل مصادرة القطعة الأثرية من البلدة الفلسطينية، وأصدر مكتب "الإدارة المدنية" الإسرائيلية في الضفة الغربية، بياناً وصف فيه مصادرة القطعة الأثرية النادرة بأنها "استعادة".
وقال رئيس وحدة الآثار في الإدارة الإسرائيلية، حنانيا حزمي، في تعليق نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية: "هذه لحظة مثيرة، نجحنا في استعادة قطعة أثرية نادرة بعد فترة طويلة من البحث".
جهود فلسطينية
من جانبها قدمت السلطة الفلسطينية شكوى إلى منظمة الـ"يونيسكو" ضد المصادرة الإسرائيلية.
وقال الناطق باسم وزارة السياحة والآثار جريس قمصية، لـ"الشرق"، إن الوزارة وجهت شكوى رسمية إلى منظمة الـ"يونيسكو"، وأخرى إلى مجلس الآثار العالمي، تطالب فيهما الجهات العالمية المختصة بالضغط على إسرائيل من أجل إعادة القطعة الأثرية، واتخاذ إجراءات بحقها على خلفية الاستيلاء غير القانوني على آثار فلسطينية.
ويعمل حاليا مسؤولون فلسطينيون على إعداد ملف عن "السطو الإسرائيلي على الآثار الفلسطينية" وإلحاقه بالملف الخاص بالاستيطان المقدم إلى محكمة الجنايات الدولية.
الدكتورة حنان عشراوي، رئيسة الدائرة الثقافية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، قالت لـ"الشرق"، إن "إسرائيل تقوم بعمليات سرقة منظمة للموروث الحضاري والتاريخي والديني في فلسطين".
وأضافت أن حجر المعمودية الأثري الذي صادرته سلطات الاحتلال من بيت لحم بالغ الأهمية، مشيرة إلى أنه "يعود للفترة البيزنطية، ويضم رسوماً وكتابات قديمة".
ورأت عشراوي أن مصادرة إسرائيل للآثار الفلسطينية، تأتي ضمن "سياسية مدروسة تهدف إلى محو الوجود الفلسطيني وطمس تاريخ شعبنا وحضارته وهويته".
وكانت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية كشفت في تحقيق صحافي، أن سلطات الاحتلال صادرت 40 ألف قطعة أثرية من الأراضي الفلسطينية، منذ عام 1967، ونقلتها إلى متاحف إسرائيلية.
مفاوضات بلا جدوى
وينص اتفاق "أوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل على التفاوض على الآثار في مفاوضات الوضع النهائي. لكن العملية السياسية انهارت، بعد سنوات طويلة من دون التوصل الى اتفاق.
وتظهر تقارير أعدتها وزارة السياحة الفلسطينية مئات النماذج من السيطرة الإسرائيلية على المواقع الأثرية الفلسطينية، مثل مصادرة لفائف البحر الميت، التي يبلغ عددها 850 وثيقة، وعثر عليها في كهوف قرية قمران قرب البحر الميت، فضلاً عن إغلاق جبل الفرديس، قرب بيت لحم، الذي يحتوي على قلعة أثرية بناها هيرودوس في العهد الروماني، لتكون حصناً آمناً من أي غزو خارجي.
آثار تحت الاحتلال
فرضت السلطات الإسرائيلية سيطرتها على معظم المواقع الأثرية في مدينة القدس، المدينة التي لا تخلو بقعة فيها من الآثار التاريخية، ومنها قلعة القدس الشهيرة التي تضم آثارا من مختلف الحقب التاريخية.
وحولت السلطات قلعة القدس إلى متحف أطلقت عليه اسم "متحف قلعة داوود" تعرض فيها تاريخ القدس من وجهة نظر إسرائيلية، مستخدمة وسائل عرض إلكترونية حديثة.
وسيطرت السلطات الإسرائيلية أيضا على أضرحة ومساجد ومقامات في مناطق الخليل ونابلس وسلفيت وبيت لحم، مثل الحرم الإبراهيمي في الخليل، ومقام يوسف في نابلس، ومسجد بلال بن رباح الذي تطلق عليه اسم "قبة راحيل" في بيت لحم، ومقامات قرية كفل حارس، وغيرها.
وفي عام 2010، أدرجت إسرائيل "قبة راحيل" في بيت لحم والحرم الإبراهيمي في الخليل ضمن قائمة التراث القومي اليهودي، لكن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) أصدرت قرارات في الأعوام 2014 و2016 و2017 اعتبرت فيه المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح جزءا من التراث الإسلامي في فلسطين.
وأظهر القرار الخاص بالمسجد الأقصى الأسماء العربية الإسلامية للمسجد مثل الحرم الشريف، وليس "جبل الهيكل" كما تطلق عليه إسرائيل.
واعتبر القرار الخاص بـ "حائط البراق" الذي صادرته إسرائيل وحولته إلى موقع ديني يهودي باسم "حائط المبكى"، جزءاً من المسجد الأقصى.
وصادقت لجنة التراث العالمي في الـ"يونيسكو" في عام 2014 على مشروع قرار أردني- فلسطيني يطالب إسرائيل بالوقف الفوري لكل حفرياتها غير القانونية، وانتهاكاتها ضد تراث البلدة القديمة في القدس الشرقية المحتلة.
وفي عام 2017، أدرجت الـ"يونيسكو" المدينة القديمة في الخليل والحرم الإبراهيمي ضمن قائمة التراث العالمي، لتصبح البلدة القديمة في الخليل رابع موقع ثقافي فلسطيني على لائحة التراث العالمي بعد القدس وبيت لحم وقرية بتير.
ويرى الفلسطينيون في القرار تعزيزاً لمطالبهم بالسيادة على كامل الأراضي المحتلة في عام 1967، بما فيها الأماكن الأثرية، ودحضاً للادعاءات الإسرائيلية بأن الحرم الإبراهيمي وغيره من المواقع جزءاً من "الموروث اليهودي".
وتعد فلسطين من أكثر بلدان العالم ثراءً بالمواقع الأثرية والتاريخية، إذ تشير إحصاءات وزارة السياحة والآثار إلى أن الأراضي الفلسطينية تضم نحو 10 آلاف معلم أثري، و944 موقعاً أثرياً رئيسياً، منها 350 نواة لمدينة وقرية تاريخية، وما يزيد على 60 ألف مبنى تاريخي.
لكن الغالبية العظمى من هذه المعالم والمواقع تعرضت للسيطرة الإسرائيلية، شأنها في ذلك شأن باقي الأراضي المحتلة بمكوناتها المختلفة من أرض وماء وسماء.