عمارة عبد الحليم .. "العندليب" عاش هنا

كتب وأسطوانات الفنان الراحل عبد الحليم حافظ في مكتبه في القاهرة. 9 أكتوبر 2018 - الشرق
كتب وأسطوانات الفنان الراحل عبد الحليم حافظ في مكتبه في القاهرة. 9 أكتوبر 2018 - الشرق
القاهرة-شريف صالح

"يا أصحابي يا أهلي يا جيراني، أنا عايز أخدكوا في أحضاني".

يغني عبد الحليم حافظ وهو يسير على دراجته، كان فرحاً لأنه يعيش حالة حب. شوارع وسط البلد في القاهرة كانت فرحة أيضاً، تبادله الحب وهو يمرّ تحت الأشجار، وأمام الأوبرا الخديوية.

ستون عاماً مضت منذ أن تجوّل عبد الحليم على دراجته وغنّى، كانت كافية لأن يتغيّر كل شيء إلى الأسوأ. اختفت الأشجار، والأوبرا الخديوية احترقت، ونهض في موقعها "جراج" قبيح المنظر، زحام  وضجيج وباعة جائلون، لن يسمحوا لعبد الحليم أن يغني هكذا في الهواء الطلق.

عاش حليم حوالي 48 سنة، وغاب منذ 48 سنة، فلماذا يأتي محبوه بالآلاف لتفقد أشيائه، كأنهم  يستعيدون معه لحظات الحب وأجمل الذكريات، وخصوصاً أن شقته صامدة على حالها، لم تهزمها الأيام، على الرغم من مرور نصف قرن على رحيله.

منزل الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. 26 أبريل 2025
منزل الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. 26 أبريل 2025 - الشرق

 

"عاش هنا"

ثمّة لافتة رمادية تشير إلى أن العمارة ملك "صندوق التأمين الخاص لضباط القوات المسلحة"، وأمامها لافتة أخرى نحاسية مكتوب عليها "عاش هنا" واسمه وتاريخ ميلاده ووفاته.

قال لي عامل النظافة: "الناس الآن تقول "شارع عبد الحليم حافظ"، وحتى العمارة برغم الاسم المحفور عليها "زهراء الجزيرة" لكنها مشهورة بـ "عمارة عبد الحليم".

من دون أن نخبره، فهم حارس العمارة أننا نريد الطابق السابع. أمام مدخل الشقّة سجل الزوّار، يحمل عبارات كثيرة تترحم عليه، وتتمنى أن تلتقي به، وتشكو له شعورها بالفقد. 

منزل الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. 26 أبريل 2025
منزل الفنان الراحل عبد الحليم حافظ. 26 أبريل 2025 - الشرق

إحداهن تمنّت أن يلتقي في مكان أفضل مع حبيبته "سعاد حسني"، من أين أتت بهذا اليقين أنها كانت حبيبته، وأنهما سوف يلتقيان في عالم أفضل، لن يكون قاسياً قسوة الحياة عليهما في فصلها الأخير.

تواقيع آلاف المصريين والعرب. كأن كل دولة عربية أرسلت سفيراً يوقّع باسمها في دفتر عزاء مفتوح على جدران المدخل.

لوحة حب عظيمة تتجدّد منذ نصف قرن. أسماء تمحو أسماء وأجيال تعقب أجيال، وكلها تناجي عبد الحليم: "أعز الناس".

معدات صوتية استخدمها الفنان الراحل
معدات صوتية استخدمها الفنان الراحل - الشرق

عبد الحليم الحفيد

استقبلنا "عبد الحليم"، وهو آخر حفيد الحاجة علية شقيقة العندليب، وبدأ حديثه قائلاً: "للأسف لم يستجب أحد لاقتراح إطلاق اسم الفنان الراحل على الشارع الذي عاش فيه".

لكن لماذا تتحاشى الحكومة إطلاق اسم "حليم" على شارع جانبي، وتفضّل أن تُبقي اسم "قراقوش"، الوزير الذي يضرب المصريون المثل به في الظلم والبطش؟

خربشات على سجل الزوّار
خربشات على سجل الزوّار - الشرق

الباب المصفّح

باب الشقّة يبدو مصفّحاً، ويخلو من أي زخرفة، كأنه باب خزانة بنك. ربما كان هذا حلاً عملياً للحفاظ على مقتنيات صاحبها. ينقسم الطابق إلى جزأين، على اليسار يعيش أفراد أسرته، وعلى اليمين الجناح الخاص به.

كانت الصالة واسعة أقرب إلى طراز الستينيات، على يسار الداخل خزانة بها أوسمة وجوائز، وأعلاها شهادة من الرئيس عبد الناصر.

أحبّ حليم ثورة يوليو وكان صوتها الجامح، ومع ذلك لم ينل رسمياً التكريم الذي ناله عبد الوهاب وأم كلثوم. وقيل إن السبب وشاية متكرّرة من بعض المقرّبين لعبد الناصر. 

منزل الفنان
منزل الفنان - الشرق
غرفة نوم الفنان الراحل
غرفة نوم الفنان الراحل - الشرق

راديو عتيق

كان الراديو العتيق مفتوحاً على تلاوة القرآن الكريم، وكأنها تعزية مستمرة لروحه. لو سألنا العندليب عن تلك الصالة شبه الخالية، سيخبرنا كم كانت تضج بالحياة والموسيقى والطرب.

هنا جمعته جلسات مطوّلة مع رفاق دربه كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، ضربات العود وشجن الكمان، عشرات العازفين مرّوا من هنا، وربما مازالت أنغامهم عالقة في الفراغ.

لو سمحت لي أسرته باختيار أغنية تسبح موسيقاها في الصالة الآن، لاخترت "زيّ الهوا" لأنها أغنية رومانسية تشبه رحلتنا جميعاً. نبدأها بالنشوة والثقة بالوعود، ثم الفراق والشعور بأن كل شيء أصبح في مهب الريح. 

أغنية لفاتن حمامة

في أقصى يمين الصالة، يقودنا باب صغير إلى بلكونة عتيقة الطراز، حيث يوجد الكرسي المفضّل لدى عبد الحليم كي يستمتع بشمس الصباح، ويطل على حديقة الأسماك التي غنّى فيها ذات يوم لفاتن حمامة. 

كان المنظر ساحراً، تغريد الطيور وخضرة الأشجار والنيل على بعد خطوات. جلس عبد الحليم المفترض على مقعده المفضّل. المنظر يستحق أن أطلب منه أن يغني. 

فاجأني وأنشد "ع التوتة والساقية"، ابتهاله يلمس شغاف القلب، لأنه ليس مطرب الصنعة، بل مطرب الإحساس الذي يعبّر عن كل أنواع الحب.

شرفته المطلة التي كان يستخدمها
شرفته المطلة التي كان يستخدمها - الشرق

حياة في صور

غادرنا البلكونة وعدنا إلى الصالة حيث تتوزّع صوره، بعضها مرسوم وبعضها الآخر من مراحل عمرية له، وزاوية توضع فيها بعض التحف والأنتيكات.  

يقودنا الممر الضيّق إلى مكتبه على اليسار، في تلك الغرفة الصغيرة كان يجلس، ويراجع كلمات الأغاني ويعدّل عليها. ثمّة أجهزة صوتية عتيقة ومكتب وكتب.

مقابل مكتبه "حمام" صغير بداخله "برنس" أزرق خاص به، ما يزال معلّقاً على الجدار، مطبوع عليه حرفَي اسمه. كأنه ينتظر صاحبه كي يعود ويرتديه.

ملابس الفنان الراحل
ملابس الفنان الراحل - الشرق

ملوك وأمراء

في نهاية الممرّ، كانت غرفة النوم مفتوحة، أمام الفراش مرآة كبيرة وتسريحة عليها عطوره المفضّلة، اعتاد أن يقف أمامها ويمشّط شعره ويتأكد من هندامه، قبل أن يواجه جمهوره.

شهد هذا الفراش آلامه، هنا التقطت له الصور بجوار أدويته، وهنا جلس أصدقاؤه من الفنانين كي يشجّعوه على الصمود في مواجهة مرض شرس. ملوك وأمراء تسارعوا لإنقاذه وساعدوه للعلاج في فرنسا وبريطانيا، لكن القدر كان له موقف آخر.

التلفون

بجوار الفراش "التلفون" الخاص به، يشبه ما نراه في أفلام الأبيض والأسود. اعتاد حليم أن يتحدث من خلاله مع ملحّنين وشعراء وصحافيين وحكّام، كانوا يطمئنون عليه.

تبخّرت كل هذه المكالمات باستثناء القليل منها جرى تسجيله، منها مكالمة مع أستاذه وشريكه محمد عبد الوهاب، الذي أنتج له نصف أفلامه وأسس معه شركة "صوت الفن"، وقال حينها عبد الحليم مجاملاً، " لو جمعنا بليغ والموجي وكمال الطويل، سيكون حاصل الجمع: محمد عبد الوهاب".

لم يستوعب عبد الوهاب وفاة حليم، فظل يروح ويجيئ في شقّته وهو يستمع إلى أغانيه لساعات طويلة.

ونحن نغادر غرفة النوم سألنا عبد الحليم الحفيد، عن إمكانية فتح الشقة للجمهور يومياً، فأجاب: صعب جداً لأننا نعيش في البيت نفسه، وكل يوم نتلقى أكثر من 300 اتصال وطلبات زيارة بالآلاف من مصر والعراق والخليج، فضلاً عن أجانب من فرنسا وأميركا وإنجلترا. ونحاول الاستجابة وفتحها للجميع خصوصاً في ذكرى ميلاده ووفاته.

تابع: "بيت عبد الحليم مفتوح لجمهوره، وهذه كانت وصيّته، ونحن لا نتقاضى أي أجر مقابل ذلك".

ملابس وربطات عنق

داخل غرفة النوم، ثمّة باب خاص يُفتح على خزانة فيها مجموعة من الأعواد في أغطيتها السوداء، والدولاب الخاص بملابسه وربطات عنقه الملوّنة، والأزياء التي ظهر بها في حفلاته وأفلامه. هل تبقى الرائحة في الملابس بعد غياب الجسد؟

لكن لماذا لا يتم جمع كل هذه الأشياء في متحف، يجيب عبد الحليم الحفيد: "للأسف لا أعرف لماذا تتجاهل الدولة إقامة متحف لعبد الحليم يليق به، علماً أنه سيحقق مكاسب مادية لأن جمهوره بالملايين". 

ميداليات تقديرية للفنان
ميداليات تقديرية للفنان - الشرق

أضاف: "نتمنى أن يصل صوتنا للرئيس السيسي، من أجل تكريم فنان كبير أعطى لبلده الكثير، سواء بإطلاق اسمه على الشارع الذي عاش فيه، أو إقامة متحف باسمه".

وأشار إلى أن والدته كانت حريصة على جمع كل مقتنياته، وبعضها موجود أيضاً لدى ابن شقيقه محمد شبانة، ومنها سياراته.

وقال: "نحن نحتفظ بالأفلام والسيناريوهات والملابس والساعات والأحذية وربطات العنق والطواقي والأسطوانات وكلمات الأغاني بخط يده، فضلاً عن الكتب مهداة إليه من كبار الكُتّاب، وأكثر من ألفَي صور، والنياشين وسيوف حصل عليها هدايا من المغرب ودول الخليج".

وأوضح "أن العائلة تبذل جهداً كبيراً للحفاظ على هذا التراث، حتى لو كان ورقة بسيطة بخط يده، وحتى السوار الذي كان يرتديه لحظة وفاته في لندن، احتفظت به جدتي "عليّة"، وكذلك أشرطة الفيديو بكل لقاءاته وكل أشرطة الكاسيت الخاصة به".

الزيارة انتهت

بدأ حليم قصته بجراح اليتم، وختمها بمأساة المرض، وما بينهما انطبعت كل أغانيه بالشجن، وظلت ابتسامته مكسورة حتى وهو يحاول الفرح، على الرغم من أن رحلته القصيرة في الحياة، كانت رحلة هشاشة وشجن. 

تكمن عظمة أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز في القوّة ومواجهة الزمن، فهم غنّوا للعذاب الذي يبدو منفصلاً عنهم، كأنه موضوع يخص الآخرين. كانوا أقوياء بما يكفي للصمود، بينما عبد الحليم كان هشاً بما يكفي للاستسلام وتلقي الضربات. لا أم ولا أب ولا حبيبة ولا ولد ولا صحة أيضاً.

تصنيفات

قصص قد تهمك