في قلب بغداد، حيث يلتقي الإرث المعماري العريق مع أبنية وتصاميم حديثة تفتقر إلى الهوية، يقف المعماري محمد رضا الجلبي كحارس للذاكرة العمرانية في العراق، ومؤرخ بصري يروي قصة العراق الحديث، من خلال صوره ومخططاته التي جمعها على مدار عقود.
رحلة الجلبي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، حين كان طالباً في جامعة بغداد، وتعلّم على يد روّاد العمارة العراقية. وعلى مدى سنوات تحوّل شغف الجلبي إلى مشروع حياة، من خلال موسوعة ضخمة بعنوان "موسوعة العمارة العراقية"، التي تعدّ وثيقة حيّة جمع فيها مئات الصور، والوثائق، والسير الذاتية لمعماريين، تركوا بصمتهم في شوارع بغداد والمحافظات، موثّقاً قصّة لم يرويها أحد بشكل شامل وموثوق.
حول مشروعه التوثيقي وما طرأ على العمارة العراقية من تغيّرات، تحدث الجلبي لـ"الشرق" في هذا الحوار.
كيف بدأت فكرة الموسوعة وكم استغرق العمل على إنجازها؟
بدأت من حبي واطلاعي المستمر على العمارة المعاصرة، وشغفي خلال دراستي للعمارة في فترة السبعينيات، وتعلمي على أيدي روّاد العمارة العراقيين، والعمل مع مكاتب البعض منهم خلال الدراسة وبعيد التخرّج، ثم تطوّر هذا الشغف الى جمع وأرشفة ذاتية احتفظت بها لفترة طويلة.
بدأت العمل الفعلي في تنضيد وترتيب المعلومات وأرشفتها بشكل منظم على هيئة كتب، قبل 10 سنوات وأكثر، وكانت البداية بطباعة الجزء الأول منها وصدورها عام 2016.
خلال سنوات إعداد الأجزاء السبعة واجهتك تحديات كيف تلخصها؟
ما أقوم به هو مهمة شاقة وعمل مؤسساتي ضخم، وقد تبدو شبه مستحيلة أن يتكفّل بها فرد واحد وبتمويل ذاتي. لكن الإصرار وحب العمل، إلى جانب ما أستقبله يومياً من ردود أفعال إيجابية من المعماريين العراقيين، والمجتمع المحلي، ومن طلابي والمهتمين من داخل العراق وخارجه، كان حافزاً للاستمرار في هذا التوثيق وإنجاز المهمة.
الجميع متعاطفون معي ويخشون أن يرهقني هذا العمل ويعيقني عن الاستمرار، ولكن ولله الحمد أستطيع القول، بأني أنجزت جزءاً كبيراً ومهماً من المشروع، وما زلت مستمراً في إتمامه رغم الصعوبات. علماً أني طرقت جميع الأبواب الرسمية، ولم أحصل على أي دعم مؤسسي، وكان عملي بمجهود ذاتي وتمويل شخصي، رغم الكلفة العالية للطباعة، وحرصت على أن تُطبع الموسوعة بجودة عالية تضاهي المراجع العالمية.
ما المعايير التي اتبعتها لاختيار الأسماء أو المشروعات المعمارية للموسوعة؟
جاء الاختيار بناءً على التميّز الذي قدّمه كل معماري، ومدى إسهامه في صياغة بصمة معمارية واضحة، أسهمت في تشكيل ملامح العمارة المعاصرة في العراق. ومن الجانب الإنساني والتوثيقي، تبرز أهمية "موسوعة العمارة العراقية" في أنها تحفظ مرحلة حيوية من تاريخ عمارة العراق الحديث، كادت أن تُنسى هي وروّادها، وسط الإهمال الذي طال العديد من منجزاتهم.
لقد خلّف المعماريون العراقيون، داخل البلاد وخارجها، إرثاً غنياً من الأعمال المعمارية البارزة، يتعرض اليوم لخطر الاندثار نتيجة الإهمال، وسوء الفهم لقيمته التاريخية والجمالية. هذا ما يجعل من الموسوعة جهداً إنسانياً وثقافياً قبل أن يكون توثيقياً، يُعيد الاعتبار إلى تلك المرحلة التي ينبغي أن تُدرج في سجل تاريخ العراق الحضاري والمعماري.
ليست الموسوعة ترويجاً لأسماء أو شخصيات، بل هي فعل وفاء لمنجزات رائدة، واعتراف بحقوق أصحابها، وسعي لتعريف الأجيال الجديدة من المعماريين، وسائر فئات المجتمع، بتلك الأسماء التي كانت مجهولة لدى الكثيرين، رغم أنها أسهمت في تشكيل المشهد الحضري لمدن العراق، وعلى رأسها بغداد، وامتد أثرها إلى دول الخليج العربي. كانت هذه الأسماء وما زالت، جزءاً من ذاكرة المكان والناس، وملامح لا تُمحى من الصورة الحضرية التي نعتز بها.
بالحديث عن العمارة العراقية الحديثة، ما الذي يميّزها عن نظيراتها في المنطقة؟
يميّزها سعيها المبكر لتأسيس هوية عمرانية خاصة بالعراق، تستلهم من عمقه الحضاري والثقافي، وتدمج بين المعاصرة والروح المحلية. فالمعماريون العراقيون تمكّنوا من إنتاج لغة تصميمية تتجاوز النسخ أو التقليد، وتعكس خصوصية المكان العراقي، سواء في المواد المستخدمة أو الأشكال المعمارية التي تحاور البيئة والسياق الاجتماعي والثقافي.
لكن هذا المشروع المعماري الطموح، تعرّض لانتكاسات حادّة بفعل الحروب المتعاقبة والحصار الاقتصادي، ما أدى إلى توقف عجلة التطوّر المعماري، ودفع بكثير من المعماريين العراقيين إلى الهجرة، حيث واصلوا تميّزهم في بلدان المهجر.
من هنا تأتي أهمية هذا التوثيق، ليس فقط لحفظ ذاكرة عمارة كادت أن تُنسى، بل ليكون مرجعاً للأجيال القادمة، ومصدراً للإلهام، ومنطلقاً نحو بناء عمارة عراقية مستقبلية، تليق بمكانة العراق، وتواكب متغيّرات العصر وتطوّره التقني، دون أن تتخلى عن جذورها وهويتها.
كيف انعكست التحوّلات المعمارية خلال القرن الأخير على الوعي والهوية العمرانية للمدن العراقية؟
تُظهر قراءة التحوّلات المعمارية في العراق، خلال المئة عام الماضية، انتقالاً نوعياً في الوعي العمراني، حيث أسهمت العمارة المعاصرة، لاسيّما في الستينيات والسبعينيات، في إدخال العراق إلى دائرة الحداثة المعمارية، وجعلته في مصاف الدول المتقدّمة عمرانياً آنذاك.
هذه الطفرة لم تكن مجرد تطوير في البنية التحتية، بل رسّختها الذاكرة الجمعية بوصفها جزءاً من الذاكرة المجتمعية.
هل ترى مخاطر فعلية من اندثار أو نسيان هذا الإرث المعماري؟
أعتقد أن ما قدّمته في هذه الموسوعة أسهم، ولو بقدر متواضع، في كبح اندثار العمارة العراقية المعاصرة، من خلال تسليط الضوء على منجزها وإثارة الاهتمام بها من جديد، لاسيما لدى الأجيال الشابة من المعماريين. شكّل هذا التوثيق حافزاً لهم لاكتشاف هذا السفر الخالد من العمارة، والاقتراب من روّاده، والاقتناع بأهمية الحفاظ عليه بوصفه جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة العراق العمرانية الحديثة.
لكن الحفاظ الفعلي على هذا الإرث، لا يكتمل إلا من خلال تشريعات واضحة وصارمة، تضع عمارة العراق المعاصرة، ضمن منظومة القوانين التي تحمي تراثنا الحضاري والمعماري، تماماً كما نحمي الآثار القديمة والموروث التاريخي.
هل توجد نماذج عمارة معاصرة عراقية اليوم يمكن أن ترث هذا المجد؟
هناك وعي متنام لدى جيل المعماريين الشباب للاهتمام بهذا السفر المعماري، ومحاولات جادة لإنتاج عمارة تستكمل ما انتهى إليه الروّاد. وعلى الرغم من محدودية عدد النماذج التي ظهرت حتى الآن، إلا أن هذه المحاولات تعدّ مهمّة، وهي استطاعت أن تفرض حضورها ضمن بيئة عمرانية تخضع لضوابط ومحددات لا تزال قديمة ولم يتم تحديثها بما يواكب التقدم العمراني الحاصل في العالم.
إن الدعم المؤسساتي بات ضرورة، سواء من خلال تحديث هذه الضوابط والمحددات، أو عبر تشريع قوانين جديدة، إلى جانب احتضان هذه الطاقات الشبابية، وتشجيعها وتوجيهها، في سعيها نحو تأسيس هوية عمرانية عراقية متجددة.
هل ستضم الأجزاء المقبلة مزيداً من الأعمال المعمارية الحديثة؟وهل تفكّر بتحويلها إلى مشروع رقمي؟
نعم ستضم مشروعات طاقات شابة تَعِد بعمارة ملتزمة وتلهم الآخرين. وبالتأكيد، رقمنة الموسوعة هي من أولوياتي، لكن الأمر يتطلب وقتاً ومساندة حقيقية لإنشاء موقع رقمي آمن وموثوق، يكون متاحاً للجميع، ويحتوي على قاعدة البيانات التي ضمّتها أجزاء الموسوعة المطبوعة، مع إمكانية تحديث المعلومات والإضافة المستمرة عليها.
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الموسوعة في تشكيل وعي الأجيال الجديدة من المعماريين؟
بقدر ما هي مرجع مهم لعمارة العراق المعاصرة، فإنها تشكّل أيضاً رسالة مهمّة لأصحاب القرار للالتفات إليها والاهتمام بها، وإعطائها المكانة التي تليق بها كمنجز توثيقي.
للموسوعة دور كبير في توعية الأجيال الجديدة، ولكنها لا تكفي وحدها؛ فأنا أقوم بإلقاء المحاضرات لطلبة الجامعات ومن خلال الصالونات الثقافية والتجمعات الرقمية، والنشر اليومي في جميع وسائل التواصل، للالتفات إلى هذه العمارة والاهتمام بها.