"الوِرَاقة" في بغداد.. حِرفة المثقفين في زمن العباسيين

time reading iconدقائق القراءة - 10
سوق السراي في بغداد. 29 ديسمبر 2023 - الشرق
سوق السراي في بغداد. 29 ديسمبر 2023 - الشرق
بغداد-علي عباس

يصف ابن خلدون مهنة الوِرَاقة، "بأنها حرفة معاناة الكتب بالاستنساخ، والتصحيح والتجليد وسائر الأمور الكتابية والدواوين". ويوضح أبو حامد العربي الفاسي، بأن "النساخة حِرفة، وهي الوِرَاقة، وكلّ من جعل النسخ حرفة يحترفها أو شغلاً يشتغل به لنفسه، فهو نسّاخ وورّاق أيضاً، والجمع ورّاقون". 

يقع سوق الورّاقين في بغداد، بالقرب من شارع الرشيد، نهاية شارع المتنبي، في منطقة تراثية تشمل المدرسة المستنصرية، القصر العباسي، جامع الخلفاء، منطقة القشلة وسواها. يسمّى السوق راهناً سوق السراي، وكان في زمن بغداد العباسية في شطرين، وهما الكرخ والرصافة، وقد اندثر سوق الكرخ وبقي الرصافة. 

أحصى الأديب الجاحظ 100 دكان للوراقة، كل واحد منها، يعّد مطبعة بالمفهوم الحديث، يشتغل في إعداد الكتب من نسخها وتذهيبها وتجليدها. وكان للورّاقين آدابهم  وأخبارهم ونتاجهم الأدبي، وشكّلوا دعامة أساسية للثقافة والعلم والفن، فأصبح السوق ملتقى العلماء والأدباء والفقهاء.

القرآن أوّل كتاب نسخه الورّاقون

يقول الباحث في التراث الدكتور خير الله سعيد، مؤلف "موسوعة الوراقة والورّاقين في الحضارة العربية الإسلامية" في حديثه لـ"الشرق"، "إن الوراقة مهنة إسلامية حصراً، وهكذا، فإن أوّل كتاب نَسَخهُ الورّاقون هو القرآن، وبالتحديد في جامع المنصور". 


من هناك نشأت مجالس "الإملاء"، التي أنتجت الموسوعات الكبرى مثل "أمالي بن حجر العسقلاني"، و"أمالي بن عساكر". هكذا كان المسجد بمثابة أول (مطبعة) عوضاً عن كونه أوّل  مجلس فقهي وفلسفي. والإملاء، هي النهج الوراقي المتّبع يومذاك في تدوين الثقافة على العامّة، إذ يُملي الشيخ على طلابه الموضوع، وهم  يدوّنونه". 

والطريف في مهنة الوراقة، هو وظيفة الشخص "المُنادي" على الكتب، أي، الذي يقوم بدور الدعاية والإشهار صوتياً، كما في الدعاية التلفزية والإذاعية حالياً.

وعن دور الوراقة في نشر العلوم الإسلامية، وكذلك الإسهام الجمالي لهذه المهنة، يشير مؤّلف كتاب "ورّاقو بغداد في العصر العباسي"، لنأخذ دور الخطّاطين في مهنة الوراقة، الذين كانوا يخطّون الكتب، فقد انشقّ هؤلاء لاحقاً عن المهنة، وأسّسوا مدرسة الخط العربي".

أضاف: "هكذا، ساهموا جمالياً بالفنون الإسلامية، التي نراها في المنمنمات والمقامات، وكذلك في الزخرفة في الجوامع والعمارة الإسلامية".

المتنبي والجاحظ 

لم يكن السوق مطبعة فحسب، بل مركزاً لتعليم اللغة العربية والعلوم الدينية، ورافداً لتصدير الكتب إلى أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، يقصده الشعراء والكُتّاب والفلاسفة بوصفه سوقاً للنشر، ومكتبة فريدة في الوقت نفسه، ومُعيناً لا غنى عنه لدار "الحكمة".

من الشائع عن الشاعر المتنبي، اشتغاله عند أحد الورّاقين من أجل دراسة اللغة العربية وقواعدها، وكان مألوفاً حينها، ذهاب الشعراء إلى البوادي، لاكتساب الفصاحة والجزالة اللغوية، فحلّ سوق الوراقين عوض ذلك. 

كان الجاحظ الذي مات بسبب سقوط مكتبته عليه، يستأجر دكاكين الورّاقين ليبيت فيها، في علاقة فريدة مع الكتب والعِلم والمعرفة. فأي علاقة مصيرية هذه مع الكتب والتأليف والنشر؟

أشهر الورّاقين

اشتغل بمهنة الوراقة، أشهر الكُتّاب والعلماء والقضاة، أو بالأحرى كل أديب أو قاضٍ، لم ينخرط تزلّفاً إلى السلطة العباسية، لكسب قوته اليومي، وتحقيقاً للاستقلالية الأدبية والاجتماعية، وأبرزهم الكاتب أبو حيان التوحيدي، الذي كتب شاكياً "تمكّن مني نكد الزمان إلى الحد الذي لا أسترزق مع صحة نقلي، وتقييد خطي، وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف، بمثل ما يسترزق البليد الذي يمسخ النسخ ويفسخ الأصل والفروع".

 وهناك المؤرّخ وكاتب السيرة وجامع الفهارس الورّاق المؤلّف ابن النديم، صاحب البيبلوغرافيا الشهيرة "الفهرست"، صدرت في 938، فضلا ًعن النحوي الشهير القاضي أبو سعيد السيرافي، الذي يقول عنه ابن خلكان في "وفيات الأعيان"،  "كان زاهداً لا يأكل إلّا من كسب يده، ولا يخرج من بيته إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس في كل يوم، إلّا بعد أن ينسخ عشر ورقات، يأخذ أجرها عشرة دراهم قدر مؤنته، ثم يخرج إلى مجلسه".

 وثمّة قصة طريفة حول الكاتب الورّاق، ياقوت الحموي، صاحب "معجم البلدان" و"ومعجم الأدباء"، الذي اشتغل عند أحد الورّاقين بعد مجيئه إلى بغداد أسيراً، ولمّا رأى علمه وورعه، أعتقه. 

والجدير ذكره، أن مهنة الوراقة ساعدت الكُتّاب والأدباء المشتغلين بها اطلاعاً على الآداب والعلوم والمصنّفات، ما ترك أثراً واضحاً في نتاجاتهم. 

جنّة الكتب

ازدهر التأليف الأدبي في العصر العباسي، شاملاً الشعر وعلوم الكلام والفلسفة، وكان الكاتب باعتباره خزانة كتب، فهذا الجاحظ قد بلغت مؤلفاته المائة كتاب، ورسائل إخوان الصفا 52 رسالة في شتى أنواع المعرفة، باعتبارها إنسوكلوبيديا وقتذاك.

 هنا يجب التحدث عن نوع العلاقة الوثيقة والمصيرية بين الكاتب والتأليف الموسوعي، متفوّقاً بشكل كبير على أقرانه من المؤلفين في الغرب. يشيد فوكو في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" بالمؤلفات والمصنّفات العربية، ليس عن المجانين فحسب، إنّما عن البهاليل والحمّق وسواهم، بموازاة المصادر الشحيحة الغربية عن الجنون.
 قال ابن الجوزي في ترجمة الحافظ أبي العلاء الهمذاني: "وبلغني أنه رُئي في المنام في مدينة جَميع جُدرانها من الكتب، وحوله كتب لا تُحدّ، وهو مشتغل بمطالعتِها، فقيل له: ما هذه الكتُب؟ قال: سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدُّنيا، فأعطاني"، وفي السياق ذاته يقول بورخيس "لطالما تَخَيّلت النعيم مكتبة، بينما يُفكّر الآخرون بحديقة أو قصر".

الكتب تقاوم الغرق والموت

الشغف العربي الإسلامي في الكتاب، لا يضاهيه أي شغف أكان أوروبياً أم سواه، ويشهد على ذلك آلاف الكتب والمصنّفات، "اطلبوا العلم ولو كان في الصين"، مقارنة بالنتاج الأدبي والمعرفي في أوروبا آنذاك، وللكتب حكايات وسرديات في منطقتنا حضارياً وعربياً إسلامياً منذ العصر السومري. 

أحرق أبو حيّان التوحيدي كتبه، ولكنها ظلّت حاضرة في القلوب والعقول، كما قام أبو سعيد المؤذّن بإغراق كتبه، وثمّة حكايات طريفة في "ألف ليلة وليلة" عن الكتاب المسموم والكتاب الغريق. 

يذكر الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو عن ترحيل جثمان الفيلسوف ابن رشد من المغرب إلى الأندلس، حيث "وضع الجثمان على دابة في جهة، ووضعت كتبه على الجهة الأخرى".

 صناعة الكتاب تشكيلياً 

أصبح الكتاب مركزياً في المجتمعات، وعُني بأمره فنياً وتشكيلياً، "الكتاب الفني أو  Art"،  الذي يمارس طباعته بعض الفنانين التشكيليين. هناك آلاف النسخ المطبوعة بأسلوب الكتاب الفني في التراث العربي الكلاسيكي، نرى مثلاً في المعرض الذي أقيم في أمستردام بعنوان "السلطان والمدينة" بعض الآيات القرآنية وقصائد الشعر بطريقة "الكولاج" عام 1703، وهو أمر مدهش حقاً، قبل أن يظهر هذا الفن في الغرب. 

 يقول الحاج أحمد الكرخي، وهو ذو سردية طويلة مع عالم التجليد وتذهيب الكتب، مقتفياً عصرها الذهبي، "أحببت مهنة تجليد الكتب، وكانت مصدر رزق عائلتي، إذ اشتغلت بها منذ ستينيات القرن المنصرم، ولطالما عملت نسخاً إلى وزراء ومسؤولين في الدولة العراقية، وكان والدي معتمَداً لدى أعيان العهد الملكي، بينما يتغاضى الجيل الجديد عن مهنة الوراقة التقليدية، وعن فنيّة هذه المهنة".

 يتابع: "لدينا ماكينات للكبس اليدوي والجرافيك، وأحبار للتذهيب وهكذا، فنحن بمرتبة الفنانين سواسية".

اكتشاف الورق

تشهد تحوّلات الكتاب على أهميته، وعلى اعتماده على التكنولوجيا مهما كانت "بدائية"، من الكتابة على الرقائم السومرية الطينية (الشواء تحت أشعة الشمس)، مروراً بالحجر والعظام (نحت)، ثم الجلد (التجفيف درءاً للرائحة النتنة)، إلى صناعة الورق (الآلات والماكينات)، وصولاً إلى الكتابة على الهاتف والكمبيوتر(التقنية)، ولكل مرحلة آدابها وإنجازاتها. 

يقول نيتشه: "أصبحت كتابتي دقيقة ومختصرة بفضل الآلة الطابعة".

 يكتب الباحث صالح محمد زكي اللهيبي عن صناعة الورق التي شهدت تطوّراً كبيراً عبر العصور، إذ انتقلت من حالٍ إلى حال، والفضل في اكتشافها يعود إلى الصينيين، إلّا أن المسلمين تمكّنوا من تطويرها والإبداع فيها بشكل كبير.

 تعدّ سمرقند مركز انطلاق صناعة الورق في الحضارة الإسلامية؛ إذ تركّزت فيها، ثم انتقلت إلى بقية أجزاء الدولة الإسلامية، وإلى بغداد في عصر هارون الرشيد. تفنّن الكُتّاب والصُنّاع والورّاقون المسلمون في صناعة الورق، فزيّنوه وحسّنوه وأضافوا إليه الكثير، حتى ظهرت لنا أنواع عدّة من الورق.

سوق الورّاقين عباسياً

لا تمارس راهناً مهنة الوراقة في بغداد إلّا من نفر قليل جداً، وتكاد المهنة مع حِرف أخرى تنقرض، والأنكى، هو عدم وجود اهتمام حكومي بحمايتها مقارنة بالمغرب مثلاً، الذي يعمل على صيانة تراثه المادي والشفاهي. 

يقول السيد صباح علي لـ"الشرق"، "إن سوق الورّاقين سمّي سابقاً "سوق السّراجين"، كناية عن الجلد الذي يصنع منه الورق والحقائب. وتحوّل السوق إلى محلات لبيع القرطاسية والمستلزمات الورقية ". 

ويعبّر عن رأيه كصاحب مطبعة حول النشر المعاصر، فيقول "كانت الطباعة في سبعينيات القرن الماضي، أفضل من الآن اقتصادياً، بسبب الحماية المالية من طرف الدولة، التي دعمت الاستيراد بالعملة الصعبة، وتولى البنك المركزي ذلك.. بينما يؤثّر حالياً سعر الصرف على عملنا كثيراً".

ويؤكد أن "تقنيات الطباعة أصبحت أفضل مع دخول الديجيتال، المنافس لطباعتنا التقليدية".

ويقول السيد محمد عدنان المشرف على مكتبة "عدنان" للطباعة والنشر، "تعرّض شارع المتنبي المؤدّي إلى سوق السراي لتفجير إرهابي عام 2007، ما أدى إلى استشهاد أخي مؤسس المكتبة، ولكن أعيد بناؤها من جديد لاحقاً".

هكذا، تظافرت العوامل كلها للقضاء على أقدم مهنة حضارية عباسية، اشتهرت بها بغداد في ذلك العصر.

تصنيفات

قصص قد تهمك