جداريات وتماثيل العراق.. تراث وأساطير وبطولات

time reading iconدقائق القراءة - 13
تمثال بغداد - الشرق
تمثال بغداد - الشرق
بغداد-علي عباس

تزخر مدينة بغداد  بالجداريات والنُصب والتماثيل، الموجودة في أنحاء العاصمة العراقية كافة، والمشغولة بمواد مختلفة، مثل البرونز، والخشب، والمرمر، والحديد. ورافق هذا الفن القوي والمتميّز، الحقب السياسية المتعددة في العراق، منذ الاحتلال البريطاني، مروراً بالحكم الملكي، حتى يومنا هذا!

اللافت، هو لماذا التجأ الفنان العراقي عبر أجيال فنية مختلفة إلى فن الجداريات والنُصب وسواها؟ 

للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي العودة إلى التراث الرافديني العراقي، منذ الحضارة السومرية والآشورية والبابلية، الذي لم يقتصر على التأليف الأدبي والأساطير والقوانين فحسب، بل شمل الفن أيضاً، بمعنى التاريخ معبراً عنه تشكيلياً.

 اشتهرت الحضارة السومرية بالأختام الأسطوانية والرقائم، وشملت عقود البيع والشراء، ورقائم (نحت بارز) تُصوّر قتال كلكامش وأنكيدو مع خمبابا حارس غابات الأرز، وفوقهما نجمة عشتار الثمانية، فضلاً عن تماثيل لا حصر لها، ومنها تمثال الملك كوديا وعشتار وسواها. 

قدّمت الحضارة البابلية فناً جدارياً متميّزاً، تجلّى بمسلّة حمورابي، وبوابة عشتار المدهشة، وشارع المواكب وهو عبارة عن جدار كبير فيه نقش بارز للأسُود (يوجد هذا النصب في متحف بيركمون في برلين). وازدهر الفن الجداري تحديداً مع الحضارة الآشورية، شاملاً نواحي الحياة المدنية والعسكرية والسياسية.

يبدو شغف الفنان الرافديني الأشوري بالفن الجداري واضحاً، وكذلك الملوك والقادة العسكريين، فهناك مثلاً، نحت بارز من المرمر، يصوّر موسيقيين آشوريين يعزفون على القيثارات، ونصب للثور المجنّح، وجداريات تعرض مشاهد الحملات العسكرية، ويشهد على ذلك المتحف البريطاني، وكذلك الفرنسي والألماني، ومتحف بغداد، والناصرية ونينوى.

جذور آشورية لفن الجداريات 

يقول زهير صالح، أستاذ مادّة الفن القديم في جامعة بغداد، "تشتهر رسوم الآشوريين الجدارية بانسجام وتجانس ألوانها، وذلك لأن الرسّام الآشوري قد أتقن أسلوب تدرّج الألوان في الرسم من الدرجة الشفّافة إلى الدرجة النصف معتمة وصولاً إلى الألوان الداكنة، فقد أظهر جمالاً أخّاذاً في استعمال اللون الواحد بدرجات مختلفة من الحِدّة.

بشكل عام، تصوّر رسوم الآشوريين ثلاثة موضوعات رئيسة هي: المشاهد الدينية التي يظهر فيها الملك بوقفات تعبّدية أمام الآلهة، وأشكال بشرية مجنّحة تقتاد حيوانات لتضحيتها في حضرة الآلهة، أو تصوّر أشكالاً بشرية تمسك بأدوات التطهير الديني، وقد أوكلت إليها مهمّة تطهير زوّار القصر برفقة الثيران المجنّحة".

 هناك مصادر كثيرة تؤكد الجذور التاريخية للفن الجداري العراقي، ومنها كتاب "المنابع التاريخية للفن الجداري في العراق"، للفنان الفذّ شمس الدين فارس، الحائز على دكتوراه الفن الجداري من موسكو، وله ست جداريات في الاتحاد السوفياتي، وأخرى تزيّن واجهة سينما بابل في بغداد، وهو مؤسّس قسم الفن الجداري في أكاديمية الفنون الجميلة. وقد أعدمه نظام البعث في الثمانينيات.

الفن الجداري: الدولة وتحوّلاتها

 العراق بلد مُسيّس منذ نشوئه، وكذلك المواطن العراقي القابل للتعبئة العسكرية والسياسية، فلا يتخلّى عن السياسة في يومياته. كان العراق تاريخياً بلد الثورات والانتفاضات، وتحضر السياسة في الثقافة، وفي المجتمع العراقي بامتياز "أرض جُبلت بالدم والشمس". 

يبدو أن قدر العراق محكوم بالهدم والإزالة والسرقة، بمعنى كل نظام يهدم ما بناه قبله، فمثلاً تشكلّت لجنة "صيانة صور صدام" إبان الحرب العراقية الإيرانية، ثم جاءت لجنة "إزالة مُخلّفات البعث"، وهكذا.

 تقول المعمارية العراقية ميسون الدملوجي لـ "الشرق:" تناولت في كتابي "منحوتات بغداد بين الفن والسياسة "، ودور العمارة والفن في إعادة إحياء الهوية الوطنية، من خلال تحليل النُصب والتماثيل في شوارع بغداد بشكل متوازٍ، مع الأوضاع السياسية العاصفة التي مرّ بها العراق في مراحل مختلفة، وذلك عبر استلهام رموز تاريخية عربية أو إسلامية حيناً وعراقية حيناً آخر".

تطرح الدملوجي مسألة الاهتمام بالفن في الفضاء العام كوسيلة لإعادة بناء الهوية. وتشير إلى أن "فترة الستينيات والسبعينيات تميّزت بوفرة إنتاج الأعمال الفنية في الشوارع والتقاطعات، ثم مرحلة الحرب العراقية الإيرانية والنصب التي اقترنت بها".

"نصب الحرية"

تعبّر جدارية "نصب الحرية" للفنان جواد سليم، الأب الروحي للنحت العراقي المعاصر، عن سردية نضالية عراقية، تصوّر الشعب العراقي في حالة النزوع إلى الحرية والانعتاق، بعد ثورة 14 تموز، من خلال مشاركة العامل والطفل والأم، وفيها تأثيرات واضحة من الفن الرافديني.

 تضمّ الجدارية 14 قطعة من البرونز منفصلة بعضها عن البعض ومثبّتة على نحو أفقي. ولا تزال الطبيعة الرمزية لساحة التحرير ونصب الحرية الموجود فيها، محور اهتمام واستقطاب الحركة الاحتجاجية الإصلاحية، والمظاهرات التي ترافقها حتى اليوم، لما لها من قوّة رمزية سياسية ونضالية، كما حصل في انتفاضة أكتوبر 2019.

 وليس بعيداً عنها في حديقة (الأمّة)، هناك تمثال "الأمومة" للفنان خالد الرحّال، بالقرب من جدارية فائق حسن، الفنان المُزيّن (المُلوّن) الأشهر في العراق في ساحة الطيران، وهي عمل معاصر من الموزاييك، ذو تأثيرات تكعيبية بألوان زاهية جداً، ما يشكّل منطقة فنية ونضالية في بغداد، أسوة بساحة المعارِض في كل من برلين وأمستردام. 

يختلف تنفيذ جدارية فائق حسن عن نصب الحرية تماماً، تحتشد فئات الشعب ابتهاجاً بثورة تموز، وفي أعلى الجدارية تطير الحمامات، وكان شائعاً وقتذاك استخدام الحمامة كرمز للسلام (بوستر الفنان بيكاسو لمنظمة السلم والتضامن)، ما جعل ميليشيا الحرس البعثي تُطلي الحَمام بالأسود عام 1963.

وذكر الشاعر العراقي سعدي يوسف تلك الواقعة في ديوانه "تحت جدارية فائق حسن"، "تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها، وتطير الحمامات تسقط فوق أذرع من جلسوا في الرصيف يبيعون أذرعهم. يا بلاد البنادق، إن الحمامات مذبوحة".

تجدر الإشارة إلى وجود أكبر مسطّر (تجمّع) في ساحة الطيران للعمال في بغداد، ينتقي منه المقاولون الشغيلة، ولذلك، قال الشاعر "يبيعون أذرعهم".

نصب الجندي الأوّل

 أما نصب الجندي المجهول الأوّل، في ساحة الفردوس، فقد صمّمه الفنان والمعماري رفعت الجادرجي في بداية الستينيات، وهو عبارة عن قوس كبير، وكان واضحاً تأثير العمارة الإسلامية عليه. 

قام نظام البعث بإزالته، وبنى مكانه تمثالاً لصدام حسين، تمّ إسقاطه من قِبل الجيش الأميركي أمام عدسات الكاميرات، لحظة احتلال بغداد في 9 أبريل 2003، هذا هو "انتقام الصورة" بتعبير الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو. 

هكذا، استلهمت جداريات مدينة بغداد المعاصرة، ثورة تموز 1958 (يُقال نفّذت الجداريات بتوجيه مباشر من الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق يومذاك). وعندما تسلّم نظام البعث السلطة، تنبّه إلى ضرورة الفن والأدب لشحن نظامه، فعمل على استقطاب الشعراء والمُلحّنين والمطربين، الذين شاركوا لاحقاً، بما يسمّى "أدب قادسية صدام" وأغاني المعركة، إشاعة لثقافة بعثية بامتياز، تشكيلياً وأدبياً.

اليسار والفن الجداري 

أسهم الاتحاد السوفياتي السابق، بإشاعة التعبئة الجماهيرية والفنية في الفن والأدب بشكل خاص، وفي الفن الجداري بشكل عام؛ جداريات الثورة الاشتراكية، ثم جداريات ونُصب الفن الستاليني تخليداً لمأساة الحرب العالمية الثانية، ولا تخلو ساحات موسكو كما أنفاق المترو فيها من هذا الفن.

اقتدى العراق بذلك تعبيراً عن اليسار والثورة والاشتراكية، فضلاً عن الجذور التاريخية كما أسلفنا، وتدخّل الدولة المركزية في الفن الجداري منذ الحضارة السومرية. 

يقول الفنان عبد الحميد الزبيدي لـ "الشرق"، "اشتغلت في عملي "نصب جدارية إعمار الجسر المعلّق"، على فكرة العمل الشعبي، إذ اشترك العمّال العراقيون في إعادة إعمار الجسر المُعلّق، الذي دُمِّر نتيجة القصف الأميركي، وفاز مشروعي من بين أعمال كثيرة، ولا تزال لديّ سبعة أعمال تنتظر التنفيذ".

 ما بين التراث والحكايات

يشير تعريف النُصب إلى مجموعة التماثيل التي تشترك في موضوع معيّن، تقف على قاعدة بخلاف الجدارية، إذ تثبّت منحوتاتها على جدارٍ خاص بها، أو تحفر مباشرة على الجدران، ومن هنا جاءت التسمية.

 هناك نصب كثيرة في بغداد، استوحت التراث وتحديداً قصص "ألف ليلة وليلة"، من تصميم الفنان محمد غني حكمت، مثل "كهرمانة" و"الفانوس السحري" و"شهرزاد وشهريار" و"علاء الدين والبساط السحري". والسؤال هو لماذا ارتبطت الجداريات بالتعبئة السياسية والعسكرية كما أسلفنا سابقاً، بينما، تشذّ النصب عن ذلك نوعاً ما؟ 

نصب "الشهيد"

كما هو الشائع عن النُصب وتحرّرها من تأثيرات الدولة المركزية وتوجّهاتها المباشرة، يخلو نصب "الشهيد"، تخليداً لضحايا الحرب العراقية الإيرانية للفنان إسماعيل فتاح الترك، من مظاهر التعبئة الجماهيرية، مستلهماً القباب الإسلامية.

 القبّة مشطورة إلى نصفين متقابلين باللون اللازوردي، له دلالة رمزية إسلامية روحية، وكأن الفنان فتّاح الترك، أراد لعمله أن يكون بصمة عراقية بامتياز، وعوضاً عن نصب الجندي المجهول المتعارف عليه في الدول كلها. وعليه، يذهب الرؤساء الأجانب والمسؤولون عند زيارة بغداد إلى نصب "الشهيد". 

النصب صمّم تخليداً لذكرى الجنود العراقيين الذين قتلوا في الحرب العراقية الإيرانية. ومع ذلك، يعتبره العراقيون عموماً أنه يمثّل إحياءً لذكرى جميع شهداء العراق.

زها حديد

عندما سُئلت المعمارية زها حديد عن أي نصب تذكاري بغدادي تفضّل أن يكون رمزاً إعلامياً لبغداد، رأت في نصب "كهرمانة" تمثيل رمزي لعصر الرشيد الذهبي لبغداد وقصص ألف ليلة وليلة، وهذا يرتبط بالخيال الجمعي العالمي لبغداد، كما اختارت "نصب الشهيد" لأنه برأيها "الأكثر تعبيراً عن شموخ وتضحيات العراقيين في التاريخ المعاصر".

 نجد التأثيرات التعبوية ذاتها في نصب "الجندي المجهول" في ساحة الاحتفالات للفنان خالد الرحّال (أريد له أن يكون عوضاً عن نصب الجادرجي الأوّل): يُظهِر النصب قبضتين تُمسكان بسيفين كبيرين يتقاطعان في الهواء (يقال إن القبضتين هما لطبعة جبسية من كفيّ صدام حسين)، وأسفل النصب توجد 5 آلاف خوذة، "مثقوبة بالرصاص" لجنود إيرانيين أزيلت بعد 2003، أخذت خصيصاً من جبهات القتال. 

هناك أيضاً نصب "اللقاء" للفنان الطبيب علاء بشير، وهو عبارة عن عناق حميمي بين جسدين؛ رجل وامرأة، يستنطق عاطفياً مادّة الحجر المصنوع منها، إشارة إلى الوئام والسلام، وقد أزيل النصب ظلماً وتعسّفاً بدعوى انتمائه إلى حقبة البعث.

قدر العراق

يبدو أن قدر العراق كوطن محكوم عليه بالهدم والإزالة والسرقة، بمعنى كل نظام يهدم ما بناه قبله، فيمنع تراكم الخبرات وأساسات الدولة من النواحي كافة، أي القضاء على الدولة كمفهوم. تشكلّت مثلاً لجنة "صيانة صور صدام" إبان الحرب العراقية الإيرانية، ثم جاءت بعد 2003 لجنة "إزالة مُخلّفات البعث"، وهكذا.

 قامت أمانة بغداد بإزالة عدد من النُصب والتماثيل من ساحات وشوارع المدينة، ومنها نصب "الأسرى الشهداء "في ساحة المستنصرية، و"المسيرة" في ساحة المتحف (استُبدل بنصب جديد)، ونُصب "المقاتل العراقي" في الباب المُعظّم، كما تعرّضت بعض التماثيل وقواعد النُصب إلى التدمير والسرقة كتمثال "السعدون" الذي جرى صّبه من جديد.

في المقابل، أقيمت تماثيل ونُصب جديدة بعد العام 2003، منها نصب "علاء الدين والفانوس السحري"  و"بغداد"، و"إنقاذ العراق" لمحمد غني حكمت، وتمثال "عبد الكريم قاسم" و"عمامة الشيخ الوائلي"، وتمثال "الونداوي" لطه وهيب وسواه.

 اللافت، هو عدم قيام أمانة العاصمة بحماية النُصب والتماثيل، باعتبارها إرثاً وطنياً وجمالياً ينبغي الحفاظ عليه. كما لم تمنع تعليق الإعلانات الانتخابية على واجهات النُصب والتماثيل، ولم تقم بأعمال الإدامة والتنظيف، أو تسييج الأعمال الفنية لغرض حمايتها من حوادث اصطدام السيارات، كما حدث أخيراً لنصب "كهرمانة". 

غدر التاريخ بتعبير هيغل

الجدير ذكره، أن شرارة الانتفاضة الشعبانية عام 1991، انطلقت نتيجة إطلاق جندي عراقي النار على جدارية كبيرة لصورة صدام في ساحة سعد بمدينة البصرة، وذلك بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت. 

وهكذا، الصورة تعاقب وتنتقم. 

تصنيفات

قصص قد تهمك