"مياومة".. كتاب مصري عن أوجاع "عامل ذهني معاصر"

غلاف كتاب "مياومة" للكاتب المصري محمد فرج - الشرق
غلاف كتاب "مياومة" للكاتب المصري محمد فرج - الشرق
القاهرة-علا الساكت

من السهل أن تنطلق في قراءة نص أدبي حافل بالتفاصيل شديدة الألفة، تربطها حبكة تضعك مباشرة في قلب الحدث أو تهديك بداية سهلة وتشويقاً يدفعك للمتابعة، أما أن تجد نفسك ملقى في قلب صالة عمل مصمتة تتشابه فيها الوجوه والمصائر إلى حد الكابوس، لا أسماء لأبطالها ولا سمة مميزة، لا حدث تدور حوله، تتشابه خارطة الألم في أجسادهم، كما تتشابه مصائرهم، بملل يتعمد كتاب "مياومة.. هايكو عامل معاصر" التأكيد عليه، ليبدأ معك مؤلفه محمد فرج رحلة تفكيك لمفاهيم سوق العمل وأوضاع العمال المعاصرين.

"عامل ذهني"

"مياومة ..هايكو عامل معاصر" هو الكتاب الثاني للكاتب المصري محمد فرج (1981) بعد مجموعته القصصية "خطط طويلة الأجل"، التي رشحت أخيراً ضمن القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية، وهو عبارة عن نصوص حرة في كتيب من القطع الصغير مصحوبة بمجموعة صور بالأبيض والأسود، تتناول مشاهد من حياة من يسميهم فرج في حواره مع الشرق "العمال الذهنيين".

الكاتب المصري محمد فرج - الشرق
الكاتب المصري محمد فرج - الشرق

 يوضح فرج: "لا يصنف أبناء الطبقة المتوسطة أنفسهم كعمال، فهم يؤدون وظائف ذهنية، معتمدة على الجلوس الطويل أمام شاشة كمبيوتر، في حين أن تعريف العمل الكلاسيكى الموجود منذ القرن التاسع عشر، هو بالضبط ما يعيشونه باختلاف وظائفهم، فهم مجموعة من البشر يبيعون جهدهم لمؤسسات أكبر".

بدأ فرج كتابة "مياومة" وهو مشغول بالبحث عن "لقمة العيش": "حين بدأت الشخبطة في نص له علاقة بالعمل، لم أفكر في تصنيف ما أكتبه، إنما حالة المياومة (وتعني العمل لقاء أجر يومي) التي نعيشها، سواء كان العامل طبيباً أو مهندساً أو باحثاً أو صحفياً، دفعتني لكتابة نظرية لها علاقة بظروف العمل الآن، لكن شعرت بأن هذا ليس ما أريد أن أفعله، فلست أفضل من يكتب ويدعم ذلك بنظريات، إنما ما أعنيه هو هذه التفاصيل الصغيرة بالضبط، حالة الملل في مكان العمل، اليأس من النجاة من المصير ذاته، تلك الحالة المشتركة بيننا جميعاً".

غياب الأمان الوظيفي

وارتكز فرج في طرحه على المقارنة بين أوضاع عمال اليوم، وسوق العمل في ستينات القرن الماضى، في الوقت الذي بدأت بعده فكرة الرفاه والأمان الوظيفي تتبخر، موضحاً: "كانت الدولة - في كل أنحاء الدنيا - مهمتها تقديم كل شيء بالمجان، التعليم والصحة والخدمات وحتى العمل، لكل واحد دور معروف سيؤديه حتى المعاش أو الممات، كان هناك ما يسمى الأمان الوظيفى، حتى من كان يمتهن حرفة أو صنعة حرة، يتحرك على هامش هذا الأمان الذى توفره الدولة، وقد اختفى هذا كله الآن، وحلت محله سوق العمل الحرة، بكل مفرداتها، بداية من السيرة الذاتية التى يجب أن تكون عامرة بالدورات التدريبية، واللغات، والمؤهلات الوظيفية، وأن تكون مكتوبة بشكل يغري جهات العمل بشراء قوة العمل التى يملكها صاحب السيرة الذاتية".

غلاف المجموعة القصصية
غلاف المجموعة القصصية "خطط طويلة الأجل" أول أعمال الكاتب المصري محمد فرج - الشرق

 رحلة خوف

يتابع فرج: "صحيح أن سوق العمل تبدو واسعة ومفتوحة مع التطور التكنولوجي، لكن ذلك أيضاً يأتي مصحوباً بترويج فكرة أنه كلما زادت مهاراتك صارت أمامك فرص أكثر، وتحذير من فكرة الراحة والتراخي، وهذا يجعلنا نصل إلى سن الأربعين من دون أن نعرف ماذا نريد أن نصير حين نكبر، وأن علينا أن نظل في هذه الرحلة المرهقة من الخوف الذي يأكل الروح إلى الأبد، نحن نعيش في امتحان مستمر، ليس هناك مكان يقدم لك عملاً بعقد ثابت".

يتبنى كتاب "مياومة" وجهة نظر يسارية صريحة، ويرصد بمهارة أوجاع العمال الذهنيين، آلام الرقبة والظهر، والأمراض الشائعة بينهم، لكنه في الوقت ذاته لا يقدم حلاً أو رسالة تحريضية كما هي الحال مع أغلب كتابات اليسار، وهو ما يردّ عليه فرج: "لم أكتب لأقول هذا صوت اليسار، فلم يكن الهاجس السياسي في خلفية تفكيري، لكن كل كتابة هي بنت خبرات صاحبها، وتجاربه، حين أكتب عن العمل، لا يمكن أن أفكر فيه بمنطق التنمية البشرية، ولكني أيضاً لم أرغب في تقديم كتابة تحريضية، إنما كتاب كئيب، يشبه الدومينو المغلقة حول العامل، لا أريد أن أقدم حلاً، أو أن تكون المقاطع الأخيرة هي النهاية السعيدة، أو دليل الثورة بل فقط طبيعة العمل، أتأملها وأدعو القارئ أن يتأملها معي، أن يشعر بالقلق حيالها".

دعوة "مياومة" للتأمل لا تتوقف عند الحالة المحيطة بالعامل فقط، بل تمتد إلى ترتيب وتراكم الصور التي تصاحب النص في صمت، وتفتح الباب أمام عدد لا نهائي من التأويلات.

الهايكو الياباني

الصور يفسرها فرج: "أردت أن أختبر إلى أي مدى يستطيع القارئ أن يصنع علاقة بين النصين، النص المكتوب، والصور غائمة التفاصيل لمشاهد من الشارع تخلو من الحركة، شعرت بأن هذه الصور ستخلق مستوى آخر للتعاطي مع النص، وبالفعل صادفت عدداً لا نهائياً من التأويلات والقراءات".

تأمُّل هذه الحالة التى يقدمها الكتاب من الشتات، تجعله بدرجة ما مرتبطاً بشعر الهايكو الياباني، الذي يحمل العنوان اسمه دون التزام واضح بتقاليد هذا الفن، وشعر الهايكو هو فن ازدهر في القرن السابع عشر، يقوم على نظم أبيات من الشعر المكثف من التأملات في الطبيعة، وإقامة علاقات بين أشياء تبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة تربط بعضها ببعض، لكن مع شيء من التأمل تشعر بأن هناك علاقة وثيقة بين التفاصيل.