"إن بلدكم العظيم وشعبكم الصديق يحظى بمكانة خاصة لدى الشعب المصري بأسره، إذ نتشارك سوياً إرثاً ثقافياً وحضارياً يمتد عبر العصور"، بهذه الكلمات بدأ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كلمته خلال مأدبة عشاء الدولة التي أقامها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء الاثنين، بقصر الإليزيه في باريس.
السيسي لفت أيضاً إلى أن "الولع الكبير للشعب الفرنسي بالحضارة المصرية القديمة، أسهم في مزيد من تعميق علاقة الود والصداقة والتعاون وتلاقي الأهداف والرؤى والمصالح المشتركة بين البلدين، خاصةً منذ أن نجح العالم الفرنسي الكبير (شامبليون) في فك رموز اللغة الهيروغليفية منذ حوالي مائتي عام".
فما سر الحضور الفرنسي اللافت في الحياة الثقافية والمجتمعية المصرية؟ ولماذا تخطّى تأثير الحملة الفرنسية على مصر والتي استمرت 3 سنوات فقط (1798-1801)، تأثير الاحتلال البريطاني الذي دام 74 عاماً (1882-1956)؟
تاريخ ممتد
لعب الحضور الفرنسي، دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والعلمية والمجتمعية المصرية، حتى قبل الحملة الفرنسية على مصر، خاصة مع قدوم المستشرقين والحملات الدينية لمصر، وظهوره اللافت في فترة حكم محمد علي عن طريق إرسال البعثات المختلفة، ما نتج عنه تأثر أجيال من المثقفين المصريين بكتابات وأفكار مفكرين وأدباء فرنسيين أمثال: فولتير، وروسو، وسارتر، وألبير كامو، وأندريه جيد، وأندريه مالرو.
السفير الفرنسي في القاهرة، ستيفان روماتييه، قال في حديثٍ لـ"الشرق"، إن البلدين لديهما حضارتان عظيمتان، مشيراً إلى أن ارتباط فرنسا بمصر يعود لمئات السنين، وأن العلاقات بينهما لم تبدأ فقط بمجيء حملة نابليون بونابرت إلي مصر، إنما بدأت قبل ذلك بسنوات عديدة بمجيء البعثات الفرنسية الدينية، ومنها بعثة سان سيمونيون، والتي ساهمت في نقل الثقافة الفرنسية إلى مصر.
وأشار "روماتييه" إلى دور المستشرقين، والفنانين التشكيليين الفرنسيين، في توثيق شكل الحياة المصرية في القرون الوسطى، وازدهار علم المصريات بعد أن قام العالم الفرنسي الكبير جان فرانسواه شامبليون، بفك رموز حجر رشيد عام 1822، والذي يعتبره مدير مكتبة الإسكندرية، الدكتور مصطفى الفقي، في حديثٍ لـ"الشرق"، من أهم العلماء الفرنسيين الذين جاءوا لمصر، مشيداً بدوره في معرفة أسرار الحضارة المصرية القديمة، ومساهمته في فك ألغاز لغتها الهيروغليفية.
ويعود الحديث للسفير الفرنسي في القاهرة الذي أكد أن فرنسا كانت أول دولة ساهمت في نشر علم المصريات في جميع أنحاء العالم، حيث انغمست الثقافتان في تلك الفترة وأصبح لديهما رابط قوي في جميع المجالات الأخرى مثل الصحة، والتعليم، والعمران وتخطيط المدن، والإخراج والتصوير.
لماذا أثرت فرنسا في مصر أكثر من بريطانيا؟
يعتبر "الفقي"، أن الحملة الفرنسية علي مصر، لم تكن مجرد حملة استعمارية فقط، فقد ضمّت حشداً من العلماء والمفكرين طافوا ربوع مصر، مبدعين موسوعة "وصف مصر" التي تقع في 20 مجلدًا لتوثق تلك الفترة.
وأضاف مدير مكتبة الإسكندرية لـ"الشرق" أن تاثّر المصريين بالحملة الفرنسية على بلادهم والتي استمرت 3 سنوات فقط، تخطّى حدود تاثير الاحتلال البريطاني والذي استمر في مصر أكثر من 70 عاماً، مرجعاً ذلك إلى أن فرنسا حرصت على نقل ثقافتها لمصر مع تركيزها علي جوانب التعليم والفكر، عكس بريطانيا.
ويؤيد وجهة النظر السابقة، أستاذ العلوم السياسية، الدكتور عمرو الشوبكي، مشيراً إلى أن مصر لم تنظر لفرنسا على أنها دولة احتلال مثلما حدث في الجزائر، وأن التأثير التأثير الفرنسي الثقافي أدّى إلى حدوث نهضة حقيقية كبرى في مصر.
رفض الثقافة الإنجليزية
فيما أرجع أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية في القاهرة، الدكتور توفيق أكليمندوس، في حديثٍ لـ"الشرق"، سبب تأثر المصريين بالفرنسيين أكثر من الإنجليز، إلى تشابه الدولتين فى المركزية، و"أن فرنسا دولة مركزية قويّة تنشر ثقافتها وتحترم أيضاً ثقافتك، بعكس الإنجليز الذين لا يعنيهم ذلك ولا تعنيهم أيضاً ثقافتك".
من جانبه، يرى الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، نبيل عبد الفتاح، أنه بعد الاحتلال البريطاني لمصر، ظل جزء كبير من البعثات يذهب إلى فرنسا، فيما اختارت قلّة الذهاب إلى بريطانيا أو ألمانيا، ولذلك تم إنتاج مفهوم للهوية يعتمد بالأساس على المقولات الفرنسية فى الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وكذلك فى القانون الفرنسي.
وفي ملمح آخر، يلفت "عبد الفتاح"، إلى أن الحركة القومية المصرية، اعتمدت في مواجهة الاحتلال الإنجليزى الطويل على رفض ثقافته، ليشّكل تعلم اللغة الفرنسية وثقافتها نوعاً من المقاومة.
ويشير "الشوبكي" إلى أن زعماء مصريين مثل مصطفى كامل وسعد زغلول، تأثروا كثيراً بالثقافة الفرنسية، وبعدها بعقود سارت الحركة الطلابية المصرية في السبعينيات، على درب ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968.
بعثات محمد علي
واعتبر "الفقي" أن فترة محمد علي، مثّلت مرحلة ازدهار كبرى في العلاقات مع فرنسا، إذ ساهمت البعثات التي أرسلها إلى هناك، في بناء المؤسسات المصرية ما حقق تقدماً كبيراً في الحياة الثقافية والعلمية في البلاد حينها.
ووفقاً لـ"الشوبكي"، فإن "البعثات" عملت على نشر الفكر المستنير في مصر، حيث تأثر الشيخ رفاعة الطهطاوي ببعثته إلي فرنسا، وكذلك الشيخ محمد عبده، وساهما في نشر الأفكار المعتدلة في المجتمع.
ويرى "أكليمندوس" أن توتر العلاقات بين إنجلترا ومحمد علي في بداية حكمه، كان سبباً لكي يتجه إلى الثقافة الفرنسية، حتى أنه استعان بالقائد الفرنسى الشهير سليمان باشا الفرنساوى، لتأسيس الجيش، وأيضاً ابتعث مئات من المصريين لتلقي العلوم الحديثة، وعادوا ومن بينهم "الطهطاوي" الذي أسس مدرسة للترجمة، كما ترجم الدستور الفرنسي.
فيما اعتبر "عبد الفتاح"، أن حركة البعثات الأجنبية فى عهديّ محمد على والخديوي إسماعيل إلى فرنسا، كان لها دورها فى إنتاج مفهومي المثقف الحديث، ورجل الدولة، اللذين ساهما فى بناء الدولة الحديثة فى مصر.
إسهام علمي
أستاذ التاريخ الحديث، والعميد الأسبق لكلية الآداب جامعة حلوان، الدكتور عاصم الدسوقي، استعرض التأثير العلمي الذي تركته فرنسا في مصر، ملقياً الضوء على المجمع العلمي المصري، الذي تأسس في القاهرة عام 1798، بقرار من نابليون بونابرت، ودوره في الحياة العلمية.
وأشار "الدسوقي" إلى أن "المجمع" قدّم العديد من الدراسات المهمة، منها على سبيل المثال قيام المهندس الفرنسى "لوبيير"، بتشكيل لجنة لدراسة إمكانية حفر قناة تصل بين البحرين الأحمر والمتوسط، وتحققت هذه الدراسة بافتتاح قناة السويس عام 1869، وكانت وسيلة كبرى لربط الشرق بالغرب.
نهضة ثقافية وفنيّة
حركة النشر والترجمة وانتشار الكتب الفرنسية والمطبوعات في مصر، كانت ضمن أبرز الأدوار التي أدتها المطبعة التي جلبها نابليون مع حملته، وفقاً لـ"الشوبكي".
وعن العقود الأخيرة، قال أستاذ العلوم السياسية، إن الحضور الفرنسي امتد ليشمل السينما، حيث تأثر العديد من المخرجين المصريين بالثقافة الفرنسية بينهم المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين، والذي أبدع في فرنسا، وكذلك أدّى الفنان العالمي الراحل عمر الشريف والفنان الراحل جميل راتب أدواراً في أعمال فنيّة فرنسية شهيرة.
ويتذكر "الفقي" لقاءه مع الرئيس الفرنسي الأسبق، فرنسوا ميتران، خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، عندما قال: "إن علاقات بلدينا كبيرة للغاية، فهي لم تبدأ في عهد الحملة الفرنسية، ولن تنتهي في عصر يوسف شاهين وعمر الشريف".
ويشير "عبد الفتاح"، إلى أن عدداً كبيراً من الزعماء الفرنسيين مثل ديجول، وميتران أعلنوا محبتهم الشديدة للحضارة المصرية، وهو ما عبّر عنه كثير من المثقفين بمقولة "مصر ولع فرنسي"، والتي كانت عنواناً لرواية مهمة للكاتب الصحفي الفرنسي ذي الجذور المصرية، روبير سوليه.
انتشار الثقافة الفرنسية في المجتمع المصري، تجلى أيضاً حسب "الدسوقي" في دخول بعض المصطلحات الفرنسية إلى قاموس الحياة اليومية، وتأثر المصريين بآخر صيحات الموضة الفرنسية التي امتدت إلى شوارع القاهرة.
مدرسة قانونية واحدة
الموقع الرسمي للسفارة الفرنسية بالقاهرة، استعرض الروابط بين القانونين المصري والفرنسي، مشيراً إلى دور عبد الرزاق السنهوري، رجل القانون المصري البارز، وهو الصانع الأساسي الذي وضع صياغة القانون المدني المصري في الفترة (1946 – 1949)، ومدى تأثره بالقانون الفرنسي.
وقال التقرير إن "السنهوري" أنجز عملاً باهراً من خلال "مزج برّاق بين روح التشريع الإسلامي ووضعية القانون الفرنسي".
فيما اعتبر "الشوبكي" أن القانون المدني المصري، المستوحى من القانون الفرنسي، وحرص العديد من رجال القانون في مصر على الدراسة في فرنسا، يعد دليلاً على قوة العلاقة الثقافية التي تربط البلدين.
مصر حافظت على هويتها
في المقابل، يرفض أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، الدكتور جمال شقرة، القول بأن النهضة الحقيقية لمصر بدأت مع مجيء الحملة الفرنسية، حيث يرى أن المصريين رفضوا فكرة الاستعمار، وقاوموا الاحتلال الفرنسي من خلال ثورتيّ القاهرة الأولى (1798)، والثانية (1800).
ورغم التأثيرات الفرنسية التي ظهرت على الحياة الثقافية والفكرية المصرية، إلّا أن "شقرة" يرى أن الشعب المصري استطاع الحفاظ على ترابطه وهويته، خاصة أنه لم يتحدث اللغة الفرنسية مثلما حدث في دول أخرى احتلتها فرنسا.
وأضاف: "الشعب المصري قاوم الاحتلال الفرنسي، ورفض التجاوزات التي اقترفها نابليون بدخوله الأزهر بالخيول، وثار عليه مرتين حتى انسحبت حملته من مصر".
قضية حساسة
ورغم أن دوائر مصرية كثيرة لا ترى حرجاً في ذكر آثار إيجابية للحملة الفرنسية، إلّا أنها ظلت مسألة حساسة ومثار جدل، وتوازن مناهج التعليم الرسمية بين ذكر تاريخ المقاومة المصرية للحملة وأبرز المعارك التي شهدتها، وبين رصد آثارها الإيجابية في مجالات عدة.
ويذكر منهج التاريخ الذي يدرسه طلاب الصف الثالث الثانوي أن الحملة "لم تكن مجرد حملة عسكرية تقليدية للغزو والاحتلال، ويتضح هذا من مجموعة العلماء الذين صحبوا الحملة، وعمل بونابرت على تنظيم أمور الإدارة والحكم في مصر على نمط ما حدث في فرنسا بعد الثورة من حيث نقل السلطة إلى الطبقة الوسطى وهم الأعيان في مصر، ولكنه كان نقلاً شكلياً دون أن تكون هناك فرصة حقيقية للمارسة الفعلية، إذ كان غرض بونابرت في النهاية التعرف على ما يدور في أذهان صفوة المصريين".
وفي يوليو الماضي، أثارت حملة دعائية أطلقتها الجامعة الفرنسية في مصر، ردود فعل غاضبة وجدلاً واسعاً بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعد استعانتها بشخصية نابليون بونابرت الذي قاد الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن الثامن عشر، كبطلٍ للإعلان.
واستهدف الإعلان الترويج للجامعة عن طريق مشهد تمثيلي تظهر فيه شخصية "بونابرت" فى عام 2020، باعتباره صاحب إنجازات كبيرة خلال حملته على مصر، منها تعليم المصريين اللغة الفرنسية، وتأسيس المجمع العلمي، وإدخال الطباعة إلى مصر، وأنه من قام بـ"فكّ رموز حجر رشيد".
واعتبر معلقون على مواقع التواصل الاجتماعي محتوى الإعلان بمثابة تمجيد من إدارة الجامعة للاحتلال الفرنسي لمصر، وإبراز الحملة في صورة مغايرة للحقائق التاريخية، بتجاهُل سلوكها ضد المصريين وحركة المقاومة الشعبية وقتها، ما دفع الجامعة إلى نشر اعتذار رسمي وحذف الإعلان من صفحتها على موقع فيس بوك.