لا عاقل يحب الحرب، لكنها تقع فتهدم البيوت، وتقتل الصغار قبل الكبار، وتستبقي أسوأ الذكريات في القلوب. وعلى الرغم من المدافع والقسوة ودخان الموت كانت الحرب، وما زالت، مصدر إلهام للشعراء والرسامين والمخرجين والكُتّاب.
وربما لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت الشرارة التي قدحت أعظم النصوص. وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون اليوم في قطاع غزة، وعجز المجتمع الدولي حتى الآن عن إيقاف الحرب.. كيف يقرأ المبدعون تلك العلاقة الشائكة بين النص والحرب، وهل هناك ما يستحق أن يُقال؟
توثيق روائي للحرب
يُقرّ الروائي والأكاديمي المصري زين عبد الهادي، بأهمية العلاقة بين الحرب والسرد، وبحكم أنه أستاذ علم المكتبات والمعلومات، يرى أنه "ربما حان الوقت لبيبليوجرافيا عن روايات الحرب، ولا شك في أن الحرب احتلت جانباً كبيراً من الرواية العربية والعالمية يستحق التوثيق".
من جانبها، تُعيد الروائية العُمانية ليلى عبد الله "جذور أدب الحرب إلى نشأة الحياة على كوكب الأرض، حيث بدأت الصراعات البشرية. وتجسّد التعبير عنها من خلال حكايات شفوية تناقلتها الأجيال".
وتعتبر "أن كل ما يعبّر عن الحرب أصبح مرعباً وجالباً للهلاك. مع ظهور التدوين صارت الحروب تتجسّد عبر مخطوطات وكتب لتكون أرشيفات يتلقّاها البشر، كتجارب وذكريات معبّرة".
البشرية تغتال بعضها
لا تختلف رؤية الكاتب المصري د. أحمد الخميسي كثيراً، وبرأيه "علاقة الأدب بالحرب مثل علاقته بالحب وبأحلامنا بعالم جديد، وبالفروق الطبقية والعرقية. وفي الوقت نفسه هي علاقة خاصة، لأنه بسبب الحرب تُطرح القضايا بحدّة عن تحرير الأوطان.. ولماذا يموت الإنسان، وهل يمكن أن تواصل البشرية اغتيال بعضها البعض. فهي علاقة معقّدة يشتبك فيها ما هو اجتماعي وسياسي ووجودي".
فيما أكدت الروائية الإماراتية ريم الكمالي، "أن الدراما الإنسانية في الأدب كلها آتية من الحرب، فكل الآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والبيئية.. من الحروب، هي موضوعات ذات تأثير كبير على الأدب، لأنها من أخطر أشكال الصراعات على الأرض، منذ بداية الحضارة إلى الآن".
نصوص عظيمة
أي كلام عن أدب الحرب لا يمكنه أن يتجاهل ملحمَتي هوميروس الإلياذة والأوديسة، ولا السرديات الكبرى للشعوب القديمة مثل الشاهنامة الفارسية. من ثم طرحنا السؤال حول أكثر إبداعات الحرب حضوراً في الذاكرة، فأكد أحمد الخميسي على ما أنجزه الأدب الروسي والإيطالي من نصوص مهمّة، مثل أعمال شولوخوف، وبراندللو.
من جانبه قال زين عبد الهادي "بشكل عام تقفز إلى ذهني أعمال غسان كنفاني: "عائد إلى حيفا"، و"رجال في الشمس"، و"عن الرجال والبنادق"، وهي معنية بكل ما يحدث في فلسطين، وأعمال إبراهيم نصر الله مثل "الملهاة الفلسطينية"، وهناك إلياس خوري في "باب الشمس"، و"الطنطورية" لرضوى عاشور.. وعالمياً كل شيء هادئ على الضفة الغربية لإريك ماريا ريمارك الألماني، و"الحرب والسلام" تولستوي، وأعمال همنجواي "لمن تدق الأجراس" و"وداعاً للسلاح".
بعيداً عن تلك الكلاسيكيات، تتوقف ليلى عبد الله إزاء التجربة المعاصرة للكاتبة والصحفية البيلاروسية "سفيتلانا ألكسيفيتش"، الحائزة على جائزة نوبل، وتقول عنها: "لعلها أكثر كاتبة أجادت نقل وتوثيق حقيقة الإنسان في الحرب، حيث كرّست أعمالها لتصوير مآسي الناس في السنوات الأخيرة في الاتحاد السوفييتي وما تلا انهياره".
تضيف: "كتبها شهادات مشبعة بالمعاناة والمشاعر الإنسانية المسحوقة، قضت نصف عمرها تلاحق الحقيقة لتدوّنها من ألسنة الناس، من الأمهات والأطفال والجنود وضحايا الحروب، عبر رواياتها المتعدّدة، كــ"صلاة تشرنوبيل" التي تناولت كارثة عالمية وقع ضحاياها الكثير من الناس، وكانت وراء تفشّي الأمراض السرطانية بفعل الإشعاعات التي نتجت عن مفاعل نووي، وخلّفت بيئة مشعة خطراً على جميع مخلوقات الله.
وفي كتبها الأخرى أيضاً اعترافات واقعية عن أمهات مكلومات، وزوجات حزينات، وأطفال بلا آباء كـــ" فتيان الزنك"، و"آخر الشهود"، و"ليس للحرب وجه أنثوي"، و"زمن مستعمل".
مأساة غزة
إذا عرجنا على الأوضاع المأساوية في غزة اليوم، وكيف تفاعل معها الكُتّاب، تقارن ليلى عبد الله بين "أطفال كتاب "آخر الشهود" الذين وجدوا الفرصة كي يقصّوا علينا حكايتهم، بينما مات أطفال غزة قبل أن يستخدموا أسماءهم، وعاش آخرون لــــ 24 ساعة فحسب، وكفّنت جثثهم الطاهرة بورقة تاريخ الوفاة بعد يوم واحد في الحياة!"
وتقول "عائلات بكاملها أبيدت، أجداد، آباء، شباب، أطفال، ورضّع، كلهم ماتوا دفعة واحدة، ولم ينجُ أحد ليروي فظاعة ما فُقد! قصف بيوت. مستشفيات وكنائس. قتل عدد من الصحفيين. ومن نجا ليس بأوفر حظاً، لأنه مهدّد بالموت في كل الأحوال. سيموت من العطش ونقص الغذاء والدواء".
تضيف "كل هذه الأهوال والمجازر موثّقة بالصوت والصورة على مرأى من العالم المتحضّر، من دون أن تهتزّ شعرة! والأنكى أن البعض يدعم الصهاينة لارتكاب المزيد من الإبادات بحق غزة. ماذا يمكن أن أقول، لا تسامحونا يا أهل غزة! لا تسامحوا هذا العالم الوحشي".
ماتوا قبل العشاء
من جانبه عبّر أحمد الخميسي عن تقييمه للصراع الحالي بالقول: "لفت نظري بكاء أم على أطفالها؛ لأنهم ماتوا جائعين، قبل أن يتناولوا طعام العشاء، وما قاله أب لطفله وهو يبكي عليه ويقول، إنه اشترى له ثلاث علب حليب. كل هذه الأوجاع الإنسانية تحتاج إلى كُتّاب بحجم غسان كنفاني كي يسجّلوها".
وتابع الخميسي: "لا أظن كلمة صراع دقيقة، وإنما هو تجدّد الكفاح الفلسطيني من أجل دولتهم التي أقرّتها مواثيق الأمم المتحدة، وأستعير ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة، بأن هجمة حماس لم تأت من فراغ، وإنما نتيجة احتلال خانق، ومن ثم ضربت المقاومة مثالاً ملهماً في استمرار الكفاح طيلة قرن من الزمان".
وقال "أما المجزرة الحالية فعلينا أن ندرك أنها ثمرة الشعور الإسرائيلي بالحصار، فإما الصمت على الضربة النوعية التي تلقوها، أو الرد بعنف كما نرى الآن. فكل خطوة تخطوها إسرائيل هي ضد وجودها كقاعدة عسكرية استعمارية اخترعوا لها شعباً. ولن ينتهي هذا الصراع اليوم ولا غداً إلا بإقامة دولة للشعب الفلسطيني".
أما زين عبد الهادي، فقال "لن أنسى أبداً مشاهد أطفال تمّ إنقاذ اثنين منهما من تحت الأنقاض، وطفل قتل أهله السبعة بفعل الطائرات، فمشى يبكي خلف الجنازة وحيداً، إنه أمر مرعب ولا إنساني ولا أخلاقي".
خلف الجنازة وحيداً
وحول انطباعها إزاء الصراع الحالي قالت ريم الكمالي: "أرى الهلع والجنون لدولة لن تستمر في إيجاد نفسها بيننا. ولا بد من قول أنه لا مشكلة بيننا وبين اليهود، بل مع دولة لا يعترف فيها حتى كِتاب التلمود، بوصفها دولة دينية، وإن ظهرت بشكل ديمقراطي. وربما الإيجابي في المشهد هو اجتماع أغلبية الشعوب على أحقية الأرض بأنها للفلسطينيين".
إبادة ثقافية
بعد الحرب العالمية الثانية، انتشر مفهوم "الإبادة الجماعية"، وجرّمته الأمم المتحدة، وهو لا يعني بالضرورة "التدمير الكامل". وبحسب تعريف القانوني البولندي رافائيل ليمكين، يدلّ المصطلح على "مخطط منسق من أفعال مختلفة، تستهدف تدمير قواعد الحياة الأساسية لمجموعة قومية، ومن ثم ينعكس المخطط على الأرض في صورة إجراءات عنفية وعقابية جماعية".
ومع فداحة الجرائم، ينشغل المحللون بالكلام عن موازين القوّة وأنواع التسليح، ويتناسون الجانب الثقافي للإبادة، المتعلق بالهوية واللغة والمعنى والذاكرة والآثار والعمارة، أو على حدّ تعبير هاينرش هاينه: "عندما يحرقون الكتب سينتهي بهم المطاف بحرق البشر".
يظهر هذا كثيراً في تهميش السردية الفلسطينية والتعتيم عليها وتشويهها، كما حرصت الحركة الصهيونية على "امتلاك" التاريخ في فلسطين، بدءًا من تغيير أسماء المدن، والمبالغة في إظهار وجود متصل لها في المنطقة، كأن الاحتلال ليس للجغرافيا فقط، وإنما للتاريخ أيضاً.
وفي الصراع الحالي، لم يتردّد الاحتلال في قصف المستشفى المعمداني الذي يعود عمره إلى مئة عام خلت، وكذلك كنيسة الروم ثالث، أقدم كنيسة في العالم.. فتدمير التراث والعمارة، بمثابة محو لهوية المكان ولذاكرة سكانه، ضمن خطة مقصودة تقول للعالم: ليس ثمّة أثر يدل على أن شعباً آخر عاش هنا!
لذلك يرى زين عبد الهادي، "أن الصراع معقّد تشتبك فيه السياسة وقوّة المال والإعلام والثقافة وآلة الحرب الجهنمية". ويسأل: "هل يمكننا تخيّل مليونَي إنسان يعيشون في معتقل أمام أعين العالم كله، ومع ذلك يضربون كل ليلة بالقنابل المحرّمة دولياً، وهل يمكننا تخيّل غياب وموت الضمير الإنساني، ربما بدأ العالم يسمع ويفهم ويرى، ولكن مازال للدولار واليورو سطوتهما على الرأي العام، وأملي أن يتغير ذلك".
إذا كان للمأساة من مكتسبات، فهي تتمثّل في الأصوات العالمية العاقلة، ومنها أسماء يهودية بارزة تصرّ على تفنيد السردية الصهيونية، مثل المؤرّخ راز سيغال، الذي استهجن "كيف لا يستمع أحد أن ما يجري في غزة إبادة جماعية. وفصل آخر من النكبة، التي طُرد فيها ما يقدّر بنحو 750 ألف فلسطيني من منازلهم".
أيضًا المؤرّخ إيلان بابي قال: "لا يمكن عزل ما يجري في غزّة اليوم عن سياسة إسرائيل الإلغائية للسكان المحليين. مشيراً إلى ملاحظة مهمة وهي أن عدداً من "الكيبوتز" التي تعرّضت لهجوم السابع من تشرين، أنشئت عام 1958 على أنقاض بيوت وقرى السكّان الأصليين".
فيما وصف المفكر غابور ماتي قصف غزّة بالقول: "إنه أسوأ شيء رأيته طوال حياتي"، وأشار إلى أن المختلف في تلك المجازر هو أنها تحصل اليوم علانية، وتعرض على التلفاز، ويتمّ تقديم الضحيّة على أنها الجلّاد!
إمكانية السلام
كل حرب تنتهي إلى تفاوض عاجلاً أم آجلًا، فهل ثمة إمكانية للسلام يوقف آلة الدمار المجنون؟
يقيّم الروائي اليمني علي المقري المشهد الحالي ثقافياً ويقول، "إن بشاعة الحرب على غزّة أعادت الكثير من المفاهيم حول العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية، وعلاقات الدول العربية بالقضية الفلسطينية، إلى جانب تلك المفاهيم التي كرّست في التاريخ الحديث، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية وحق الشعوب بالاستقلال والتحرّر واحترام القانون الدولي.
وحول إمكانية السلام أجاب المقري: "لا يمكن أن يكون هناك أي سلام أو استقرار في المنطقة العربية دون إعادة الاعتبار للفلسطينيين، وإعطائهم الحق في إعلان دولتهم المستقلّة، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية التي أنشئت بعد هذه القرارات. ما عدا ذلك سيبقى المستقبل عبارة عن وهم يتّكئ على أساطير وتنبؤات قديمة، وإن تسلّحت بقوّة تظن أنها لا تُهزم".
دولة مدمنة على الاحتلال
ويتفق معه أحمد الخميسي قائلًا: "السلام يتوقف بحسب فهمنا لمعناه الحقيقي، وهذا لن يكون إلا بإقرار حقوق الشعب الفلسطيني على أرضه وإقامة دولته".
ويكمل زين عبد الهادي في السياق نفسه: "ربما هناك إمكانية الآن قبل أي وقت مضى لبناء سلام حقيقي. إذا خلصت النوايا، وإذا آمنت أميركا أن ذلك الحل الوحيد".
بينما اكتفت ريم الكمالي بالقول: "إن كنت تقصد سلاماً معها كدولة قائمة، فبرأيي، لا تُصالح كما قال المهلهل، وأمل دنقل".
على الجانب الآخر، لا يبدو الكاتب الصحفي جدعون ليفي متفائلاً في تحليله للصراع؛ لأن إسرائيل "دولة مدمنة على الاحتلال" على حد تعبيره، لذلك فالأمل في التغيير محدود.