تأريخ الصوت قبل مئتي سنة عبر رسائل "زبيدة ومينو"

ندوة "تأريخ الصوت" في بيت السناري في القاهرة. 15 يناير 2024 - الشرق
ندوة "تأريخ الصوت" في بيت السناري في القاهرة. 15 يناير 2024 - الشرق
القاهرة -شريف صالح

يُعيد أستاذ التاريخ في جامعتي قطر والقاهرة  د. ناصر إبراهيم، بناء سردية حب مغايرة، ربطت بين امرأة مصرية وجنرال فرنسي في أواخر القرن الـ18، ضمن محاضرة في بيت السناري الأثري، حملت عنواناً لافتاً: "كيف نؤرّخ للصوت .. قراءة في رسائل زبيدة قبل أكثر من مئتي عام"، وقدّمها كريم بدر.

 إنها قصّة زبيدة بنت محمد البواب، والجنرال جاك فرانسوا مينو، التي وقعت أحداثها في مدينة رشيد على البحر المتوسط، وتمحورت حول شابّة مسلمة تزوّجت من جنرال فرنسي عجوز يحتلّ بلدها.

قصّة غامضة جذبت أنظار المؤرّخين المصريين والفرنسيين والشعراء والروائيين، ونسج منها الشاعر علي الجارم، المولود في مدينة رشيد أيضاً، حيث عاشت بطلة القصّة، روايته المعروفة "غادة رشيد"، بالتناص مع "غادة الكاميليا".

تحدث الجارم عن قصّة حبها لابن بلدها "محمود"، واضطرارها للتضيحة بالحب، في سبيل وطنها والزواج من أحد قادة الحملة الفرنسية، كجزء من مقاومة المحتل.

أستاذ التاريخ إبراهيم ناصر خلال الندوة
أستاذ التاريخ إبراهيم ناصر خلال الندوة - الشرق

ولأن القصة تتغنّى بالبطلة القومية، قرّرتها الحكومة على طلاب المدارس منذ خمسينيات القرن الماضي. لكن أستاذ التاريخ ناصر إبراهيم، كان له رأي آخر بعيد عن السردية المعتمدة، التي اعتبرها نوعاً من التخييل الروائي بلا أي دليل.

 إذ نفى أن تكون "زبيدة" أحبّت شخصاً اسمه "محمود"، وأنها ماتت حزناً عليه عند قبره على طريقة روميو وجولييت. بل ماتت في فرنسا. وأكد أنها لم تتزوج الجنرال مينو مكرهة من أجل المقاومة.

قلب الجنرال

عندما سيطرت الحملة الفرنسية على مدينة رشيد، وحكمها مينو، منع السيدات من السير في الشوارع، فذهبت إليه زبيدة، وهي من عائلة ميسورة لديها تجارة وأراض.

كانت شابّة جميلة وغاضبة، وعلم مينو أنها من الأشراف، فتعلق قلبه بها، وسعى بعدما أصبحت مصر مستعمرة فرنسية، أن تكون هناك أخوّة دينية بمصاهرة الأشراف أحفاد النبي (ص)، لخدمة قضية فرنسا الوطنية.

هكذا تزوّجت زبيدة والجنرال عام 1799، بعد أن اشترطت عليه أن يشهر إسلامه، ويصلي الجمعة مع المسلمين، ويرتدي العمامة والجلباب، ويتعلم العربية. 

كما وضعت في وثيقة الزواج أحد عشر بنداً لصالحها، باستثناء بند واحد خاص برعاية الأطفال في حال وفاتها. وهذا يكشف عن وعيها الشديد بحقوقها، قبل أكثر من مئة عام على المطالبة بتحرير المرأة.

هذه الشروط تنفي شبهة الإكراه، وغير صحيح أن أسرتها أُكرهت على تزويجها، كما لا توجد أدلة على موقف والدها، هل كان على قيد الحياة أم هرب إلى الصعيد، كما يُقال بعد "العار" الذي ارتكبته ابنته.

عرض رسائل تاريخية
قراءة في الرسائل التاريخية - الشرق

غضب المصريين

تحدّث مؤرّخون مثل الجبرتي عن غضب المصريين الذين صبّوا على زبيدة اللعنات، لأن الفرنسيين احتلوا بلدهم واستولوا على بنات الأعيان، واتهموا مينو بأنه عجوز ماكر يدّعي الإسلام. واعتبر العثمانيون، السلطة الحاكمة نظرياً، أنها تزوجت "كافراً" وطلبوا رأسها بزعم أن جسدها مدنّس.

على الجانب الفرنسي، وبرغم بعض الدوافع السياسية، أخضع الحب مينو لسحرها، فرفض مغادرة رشيد كي يحكم القاهرة، لأنها أقنعته بأن الزوج يجب أن يظل إلى جانب زوجته، كما تباطأ في اللحاق بالحملة الفرنسية على الشام، وأصبح أضحوكة الجيش تُروى عنه النكات.

 وزاد الأمر سوءاً حين أنجب منها ابناً، فأطلق عليه اسم "سليمان مراد جاك"، وذلك في 27 نوفمبر عام 1800، وهو نفس اسم "سليمان الحلبي" قاتل زميله الجنرال كليبر.

ورداً على سؤال لأحد الجنرالات، وصف مينو زوجته قائلًا: "هي طويلة القامة، مبسوطة الجسم، حسنة الصورة في جميع الوجوه، لها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المألوف، وشعرها طويل فاحم، وهي لطيفة الطبع، تتقبّل العادات الفرنسية بنفور أقل مما تتوقعت".

هذا كلام عاشق أنساه الحب الكثير من واجباته العسكرية والإدارية، واختار أن يبقى في مدينة حبيبته حتى بعد أن عزله كليبر عن حكمها. فماذا عن زبيدة؟

عرض الرسائل خلال الندوة
عرض الرسائل خلال الندوة - الشرق

رسائل يومية

تزوّجت زبيدة في السابق من جندي عثماني، لكنه هجرها وسافر، فخلعت نفسها وعاشت في بيت أبيها، ويُقال إنه مازال قائماً ضمن البيوت الأثرية في رشيد، إلى أن التقت مينو وتزوجته بشروطها.

وينسف المحاضر ناصر إبراهيم السردية شبه الرسمية، بأنها انفصلت عنه وماتت ودُفنت في مصر، معتمداً على منهجية مغايرة في تاريخ الأصوات، من خلال تفحّص 4 خطابات كتبتها لزوجها خلال 6 أيام، مع إشارة مهمة إلى أنها كانت تكتب إليه يومياً، ما يعني إمكانية اكتشاف خطابات أخرى.

أملت زبيدة الجوابات الأربع على وكيلها وكاتم أسرارها سيد حسين الميقاتي، ما يرجّح فرضية أنها لم تحظ بقدر من التعليم، فنحن إزاء نصّ صوتي تحوّل إلى نص مكتوب، وكان الكاتب أميناً في شطب وتغيير كل ما تقول. وأحياناً كانت تختمها بالقول: "من عند الست الشريفة زبيدة".

تاريخ الأصوات

وأشار إبراهيم إلى أن تاريخ الأصوات منهج جديد، من روّاده المؤرخة الفرنسية آرليت فارج Arleet Farge، التي نشرت كتباً مهمة مثل "تاريخ الأصوات في باريس في القرن الثامن عشر"، و"طعم الأرشيف".

لا يهتمّ هذا المنهج بالأصوات لتحليل القيم الجمالية كما في اللسانيات، وإنما بقراءة التاريخ، ليس كمعطى موضوعي جامد، وإنما بالتركيز على الانفعالات والأحاسيس والدوافع، والعثور على أصوات المهمّشين، عبر الرسائل والمكاتبات وعقود البيع والشراء والزواج والمرويات الشفاهية والأناشيد والأغاني.

 ذلك ما يمكن تسميته "التاريخ الكامن"، أو "تاريخ الوجدان"، الذي قد يغيّر الكثير من المسلمات في نظرتنا إلى التاريخ. وعلى حد تعبير المُحاضر: "نحن ندفع بالفاعل التاريخي المجهول أو المنسي كي يتكلم ونسمع صوته الداخلي، بعيداً عن المصادر التقليدية". 

مينو الزوج

في خطاباتها، كانت زبيدة هي الفاعل التاريخي، حيث تسجّل أفكارها ومشاعرها، وتخاطب مينو كزوج لا كقائد وحاكم، وتعاتبه لأنه تأخّر عليها. ما يظهر أن وصف علي الجارم له في روايته بـ "الشيطان العجوز"، لا يمثّل إطلاقًا مشاعر زبيدة. 

كما تكشف الرسائل ضيقها من مجتمع النميمة والشائعات حولها، وعدم تقبّل زواجها. أي أننا أمام اكتشاف لشخصية زبيدة، يغيّر جذرياً الصورة التي رسمها لها معاصروها، وتكرّرت في السرد الروائي، وتأريخ مباشر لصوتها من خلال رسائلها. 

هذا الأمر يفتح الباب لإثراء مناهج التأريخ، واستكمال محاولات روّاد مثل رؤوف عباس، وسيد عويس، في التأريخ الاجتماعي، وإعادة الاعتبار لتاريخ الأصوات في ثقافتنا العربية.

مصير زبيدة وأولادها

بعد المحاضرة، كانت هناك مداخلات وأسئلة كثيرة حول مصير زبيدة وأولادها، وهل صحيح أنها ماتت في مصر، أم هربت ولحق بها مينو وعاشت معه في إيطاليا، إلى أن تنكّر لها وانغمس في لهوه مع النساء.

أوضح المحاضر أن مينو بعدما تولى قيادة الحملة، أخفق في مواجهة الإنجليز والأتراك، فساعد بعض جنوده زبيدة وطفلها على الهروب إلى فرنسا، ثم لحق بهما مينو.

 وبعد أن تولى منصب حاكم البندقية، عاشت معه زبيدة ونالت لقب "كونتيسة" وأنجبت طفلاً آخر، ثم توفي عام 1810، فعادت إلى فرنسا، وخُصّص لها معاش 6 آلاف فرنك، حتى توفيت عام 1816 قبيل أن تبلغ الثامنة والثلاثين، ودفنت مسلمة في مدافن "بيير لاشيز" المخصّصة للعظماء والمشاهير.

ويرجّح إبراهيم، أن ابنها "سليمان" سافر معها إلى باريس في عمر شهور، ثم تعمّد فرنسياً مسيحياً بعدما أقنعها مينو الإيمان بجميع الأديان السماوية، ومات الابن شاباً في إحدى المعارك بعد سنوات قليلة من وفاة والدته "الكونتسة زبيدة"، بينما الابن الآخر لا تتوفّر أي معلومات عنه. 

تصنيفات

قصص قد تهمك