طفلة السريالية جويس منصور: أنا شاعرة مصرية رغم العالمية

صدور أول كتاب بالعربية عن سيرتها

time reading iconدقائق القراءة - 11
حفل إطلاق كتاب محسن البلاسي. 20 مارس 2024 (تصوير: فاددي فرنسيس) - الشرق
حفل إطلاق كتاب محسن البلاسي. 20 مارس 2024 (تصوير: فاددي فرنسيس) - الشرق
القاهرة-شريف صالح

سأل الإعلامي الفرنسي الشهير جان بيير إلكاباش الشاعرة جويس منصور، كيف ولد الشعر داخل ذاتك؟ فأجابت "شعرت في البداية بالانجذاب إلى الشعر عندما كنت طفلة مريضة، وصدمني العالم الذي تتخلله الحقن والأدوية باعتباره بغيضاً، لذلك لجأت إلى الشعر".

حقّقت جويس منصور (1928 ـ 1986) الشاعرة المصرية من أصل يهودي، شهرة عالمية وخصوصاً في فرنسا، وأصبحت من الشاعرات الكبار ضمن الحركة السريالية العالمية، ومع ذلك بقيت شبه مجهولة في وطنها الأم مصر. 

التقت وصادقت كبار الفنانين والمبدعين في أوروبا، وتركت إبداعاً غزيراً، لكنها ظلت خارج متن الثقافة المصرية والعربية، وكل ما يُعرف عنها أقرب إلى شذرات، إلى أن قرر محسن البلاسي، شاعر وتشكيلي سريالي، اقتحام القارّة المجهولة للشاعرة، وأصدر كتاباً ضخماً يزيد عن 600 صفحة، حمل عنوان "جويس منصور: طفلة مسك الروم" (دار صفصافة).

 نحن إزاء عمل استقصائي ضخم، لمبدعة رحلت قبل نحو أربعين عاماً، وعلى الرغم أنها قضت جل حياتها في أوروبا، وكتبت ونشرت بالفرنسية، ظلت تُعرّف نفسها بأنها "شاعرة مصرية".

ولعلّ أهم ما يميّز الكتاب، أنه يكشف عن جوانب كثيرة مجهولة في حياة جويس الإنسانية والإبداعية، فهي لم تكن شاعرة وحسب كما يعتقد الكثيرون، بل مفكّرة ومنظّرة، نشرت أعمالاً سردية وقصصية، ونشطت في الحركة السريالية، ووقفت على خشبة المسرح وقدّمت نصّاً لفرجينيا وولف "المياه العذبة"، وشاركها التمثيل يوجين يونيسكو.

 أقيم حفل توقيع الكتاب في "قنصلية" وسط القاهرة، بحضور عدد كبير من المثقفين والمهتمين بالحركة السريالية. 

حزينة مثل صحراء
سعداء أولئك الوحيدون
الذين يبذرون السماء في 
الرمال المتعطّشة أولئك 
الباحثون عن العيش تحت 
تنانير الريح 
الذين يركضون لاهثين 
خلف الحلم المتصاعد مثل 
البخار لأنهم ملح الأرض
سعداء أولئك  الساهرون  
في  الصحراء الشاسعة
يطاردون الثعلب خلف السراب..

جوانب مجهولة

الناشر محمد البعلي أكد في كلمته، اهتمامه بنشر المذكّرات والسير النوعية، مشيداً بدور جويس في مسار الشعر المصري.

كما وصف المؤلف محسن البلاسي الكتاب بأنه "سيرة حياة جويس منصور، بمصاحبة حفر نقدي في مراسلاتها وحكاياتها وفعالياتها، مع مجموعة باريس السريالية، والفنانين والشعراء المحيطين بها".

لذلك وجّه الشكر لأفراد عائلتها، التي تحفّظت في البداية على فتح خزائنها وإتاحة وثائقها للنشر. والكتاب بالفعل يتضمن مجموعة من الصور واللوحات والرسائل والوثائق، موزّعة على فصوله الأربعة.

أهمية مزدوجة

لا يخفى أن للكتاب أهمية مزدوجة، فهو سيرة استقصائية ضخمة ربما لا مثيل له لأية شاعرة في الثقافة العربية، ومن ناحية أخرى، هو توثيق مواز للحركة السريالية المصرية، وعلاقتها بالسريالية العالمية.

وعلى غير العادة، لم يكتف المؤلف بمقدّمته، بل ضمّنه مجموعة مقدّمات لشعراء وسرياليين عالميين؛ فمن الشعراء الأميركيين، كانت هناك مقدّمات لكل من ويل ألكسندر، وريكي ديكورنيه، وجورجيا بافليدو، والفرنسي لوران دوسيه مدير بيت "أندريه بروتون".

في مقدمته قال عنها مارك كوبيغ، الأستاذ في جامعة "السوربون": "عليك أن تحبها لشجاعتها ويأسها الذي تغلّب عليها، وقدرتها على الضحك على النجوم".. 

أضاف: "على كل النساء أن تحبها، وأن تشعل سيجار الثورة بين شفتيها إجلالاً. إنها امرأة لا تخشى الانفجارات أو الديناميت الذي يستخدم لعرقلة القطارات في الصحراء". وتعبير كوبيغ هنا مستوحى من ولعها بتدخين السيجار.

تعميق اللغز

يروي جان شالون، أنها طلبت منه أن يُخرج أسرارها النادرة من دفتر الملاحظات، وقالت له: "امسح. امسح. أتوسّل إليك" لأنها أرادت باستمرار، تعميق اللغز الذي يحيط بها.

ربما يرتبط ذلك بأنها ولدت لأسرة مصرية يهودية، تنتمي إلى طبقة مخملية منعزلة عن عامة الشعب، وقد أفقدها السرطان أمها وهي في سن المراهقة، ثم خسرت زوجها الأوّل بالمرض نفسه بعد شهر واحد من الزواج، وكانت مازالت دون العشرين.

وربما كان مردّ ذلك إلى ما أسمته جورجيا بافليدو "العيش بين اللغات"، لأن جويس ولدت في إنجلترا وعاشت طفولتها وشبابها في مصر، وأتقنت الفرنسية، فأصبح وعيها موزّعاً بين ثلاث لغات.

وفي كل أماكنها، بدت جويس "شابّة غريبة"، وتعزّز ذلك مع اضطرارها للعيش في المنفى، عقب العدوان الثلاثي على مصر، وخروجها إلى باريس رفقة زوجها الثاني سمير منصور، الذي حملت لقبه بدل اسمها الحقيقي "جويس باتريشيا أديس"، وكانت قد أنجبت منه ولدين هما فيليب وسيريل.

لكن الكتاب يعزّز سردية عداء نظام يوليو (في إشارة إلى عهد الرئيس جمال عبد الناصر) لليهود، ومصادرة ممتلكاتهم، ودفعهم للخروج، والدليل تعرّض والدها للسجن بضعة أشهر، على الرغم من أنه كان أحد أكبر رجال الصناعة. 

مع ذلك ثمّة إشارات متناقضة خاصة بتوقيت وملابسات الخروج، مثل الإشارة إلى أنها استقرّت في باريس مع زوجها نهاية عام 1955 (ص120)، أي قبل العدوان الثلاثي. وفي الملحق الخاص بمحطات حياتها، يشير إلى أنها استقرّت في باريس عام 1956(ص580)، بينما تتصدّر فصل "الرحيل من مصر إلى باريس"، صورة لها عند هرم سقارة عام 1956 (ص109).

  يعني ذلك كله، أن قرار الخروج ـ مع الشعور بالتضييق ـ سبق العدوان الثلاثي، وربما كان شخصياً أكثر منه مرتبطاً بموجة العداء، والدليل أنها لم تقطع علاقتها بمصر، والتقطت لها صورة بعد سفرها! ويعزّز تلك الفرضية إشارة أخرى، إلى أنها كانت دائمة السفر إلى باريس منذ عام 1953 حيث ساندها جورج هونيه، وعرّفها على الناشر بيير سيجغيز.

 في تلك المرحلة نشرت مجموعتين شعريتين هما: "صرخات"، و"دموع"، واشتهرت وسط الحركة السريالية قبل الاستقرار في باريس.

اللقاء مع بروتون

يعدّ أندريه بروتون (1896 ـ 1966) شاعر وكاتب فرنسي، وأحد مؤسسي السريالية وقائدها ومنظّرها الأكبر، باعتبارها "حركة عفوية نفسية نقية"، تجعل العقل الباطن هو المؤثّر الأكبر في عملية الإبداع، بعيداً عن سيطرة الوعي.

وبحسب البلاسي، فإن جويس "حقّقت نقلة مهمّة في حياتها قبل اللقاء مع بروتون، الذي اطلع على مقال إيجابي كتبه جان لويس بدوين عن مجموعتها الشعرية الأولى "صرخات"، وأعجب بها قبل أن يراها".

وخصّص الفصل الأوّل من الكتاب بالكامل، لاستقصاء حضورها الإنساني والثقافي في القاهرة، قبل ذهابها إلى المنفى الباريسي.

كانت جويس حينها تتردّد بانتظام على صالون "ماري كافديا" في الزمالك، وهي سيدة من أصل مجري، كان من روّاده طه حسين وأحمد راسم، وهو بحسب البلاسي يختلف عن صالونات "وسط البلد"، لأنه كان ممثلاً أكثر للجاليات الأجنبية والمتمصّرين، وكان أغلب روّاده يتحدثون الفرنسية لا العربية.

 في تلك الفترة تعرّفت الشاعرة أيضاً على جورج حنين، أحد روّاد السريالية في مصر، الذي أعجب بعملها وشجّعها على كتابة الشعر.

مع شهرتها في باريس، تبادلت الرسائل مع بروتون، لكن اللقاء بينهما لم يحدث إلا عام 1956. آنذاك شهدت الحركة السريالية انقسامات، وهجوماً من جهات مختلفة. فالاتحاد السوفييتي اعتبرها "رأسمالية منحطّة"، والبعض الآخر رأى فيها "طوباية تمثّل أطلال الرومانسية".

 وسط تلك الأجواء، نشطت السريالية في مقاهي باريس، وسرعان ما اندمجت فيها جويس وشاركت في إصدارتها، وفي معرض السريالية الدولي الذي حمل عنوان "إيروس" عام 1959.

رأى بروتون فيها إلهاماً شرقياً نقياً، وهو من أطلق عليها ـ في رسالة إليها ـ لقب "الحكاية الشرقية طفلة مسك الروم"، المعنون به الكتاب، كما قال لها "الشعر السريالي هو أنت"، وسرعان ما أصبحت صديقته المقرّبة ورفيقة نزهاته اليومية، وإن كان البلاسي يرى أن ما جمعهما كان حباً أفلاطونياً، ويعرض لهما أكثر من صورة في شوارع باريس.

كتبت جويس للشاعر بروتون إهداء خاصاً على مجموعتها "دموع" جاء فيه: "إلى أندريه بروتون، الساحر الأسود غير القابل للذوبان".

تلك الفترة كانت عصرها الذهبي، إذ اهتمّت بالأساطير المصرية القديمة، واعتنت في نصوصها الشعرية والنثرية بالمواقف العنيفة ضدّ النساء.

سرد خاص جداً

خلال حفل التوقيع، دار نقاش ثري حول تجربة جويس، منها علاقتها بالحركة الصهيونية، إذ أكد البلاسي أن السريالية في أقصى اليسار الفني، وليس القومي أو الاجتماعي، وأنها وقفت ضدّ احتلال الجزائر، كما أن جويس نفسها سافرت عام 1958 لدعم الثورة الكوبية، وتحاشت دائماً الإشارة إلى نظام يوليو في مصر.

 كما دانت في نصّها "عبور البحر الأحمر" طرفي الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لأن الانحياز لديها كان للإنسان. وهو ما أكدته مقدّمة حفل التوقيع الشاعرة غادل كمال، "بأن السريالية حركة فنية وليست سياسية، وتنبذ كل الحروب".

وأعلن البلاسي أنه بصدد نشر أعمالها النثرية الكاملة، وعندما سئل عن الكيفية التي تحافظ بها على تماسك سردها برغم غرائبيته أجاب: "على القارئ أن يغيّر مفهومه المسبق عن السرد القصصي، ويستعد لكولاج من التوترات ذات المنطق الخاص. إن قصص جويس أقرب إلى فسيفساء الصور التي تخلق منطقاً خاصاً بها، ولم أجد نموذجاً سردياً مغايراً مثلها".

وفي ختام حفل التوقيع، ألقت غادل كمال مجموعة مقاطع من شعر جويس منصور، وفيما يلي أبيات لها تظهر سمات الغموض والعنف والقتامة:

"سأنتقم من جذرك بخياشيم أرجوانية

ستغلق الأرملة السوداء شفتيها الحجريتين

على توترك الشديد

في حفرة عفيفة من النوم

لا يمكنك الهروب مني"..

تصنيفات

قصص قد تهمك