مع وجود السفن الحربية الصينية منذ شهور في قاعدة "ريام" البحرية في كمبوديا، وإجراء مناورات عسكرية ثنائية كبيرة هناك في مايو الماضي، يزداد القلق الأميركي من توسع بكين العسكري خارجياً، لا سيما أن هذه المنشأة الواقعة في الدولة الآسيوية أصبحت جاهزة للعمل بالفعل لخدمة مصالح الصين.
وبحسب تقرير لموقع "Breaking Defense"، ستصبح "ريام" ثاني قاعدة عسكرية للصين في الخارج، ورغم التوقعات بأن تكون الأخيرة، إلا أن هذا لم ينتج عنه تراجع المخاوف الأميركية التي بدأت قبل سنوات وازدادت خطورة عام 2019، إذ رفضت كمبوديا آنذاك بشكل غير متوقع المساعدة الأميركية في الإصلاحات.
وذكرت تقارير أميركية أن الجيش الصيني أبرم صفقة سرية حصل بموجبها على حق الوصول الحصري إلى القاعدة، وتعززت هذه التقارير بصور أقمار صناعية أظهرت عمليات بناء سريعة وواسعة النطاق، بما في ذلك هدم مبنى ممول من الولايات المتحدة أواخر عام 2020.
ومع بدء كمبوديا رسمياً تحديث قاعدة "ريام" في يونيو 2022، قال المسؤولون هناك إن الترقيات ستشمل إنشاء حوضاً جافاً، ورصيفاً ممتداً، وإجراء تعميق للميناء حتى تتمكن السفن التي يصل إزاحتها إلى 5 آلاف طن من استخدام الميناء، وجرى بناء الرصيف الممتد، بطول 1000 قدم تقريباً، في النصف الأول من عام 2023، وتم ربط فرقاطتين صينيتين بجانبه في ديسمبر الماضي.
كمبوديا تنفي وجود قاعدة دائمة
وأعرب المسؤولون في الولايات المتحدة عن مخاوفهم بشأن أهداف وطبيعة ونطاق العمل في قاعدة "ريام"، ودور الجيش الصيني هناك، وأبدى الجيش الأميركي قلقه من أن يستخدم الجيش الصيني هذه القاعدة لتخطيط ودعم العمليات عبر الطرف الجنوبي من بحر الصين الجنوبي، وخليج تايلاند، وفي شرق المحيط الهندي، بما في ذلك القوة الجوية؛ إذا تم تحويل مطار قريب للاستخدام العسكري، وتوسيع نطاق جمع المعلومات الاستخباراتية في تلك المناطق.
ويوجد للصين بالفعل قواعد على جزر في بحر الصين الجنوبي، ولكن "ريام" أقرب إلى مضيق ملقا، وهو ممر حيوي للسلع والسفن بين المحيطين الهندي والهادئ، وفي المقابل، لطالما نفى المسؤولون الكمبوديون أن يكون للصين قاعدة دائمة في "ريام"، مستشهدين بالحظر الدستوري على القواعد الأجنبية، مع تقديم تفسيرات متغيرة لوجود قوات صينية هناك.
وقال مسؤول دفاعي كمبودي مطلع الشهر الجاري، إن السفن الحربية الصينية في قاعدة "ريام" لم تصل إلا مؤخراً، وهي علامة على أن السفن الصينية سيكون لها "وجود دوري هناك على الأقل".
وأشار محللون في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية إلى أن هذه السفن استخدمت الرصيف لعدة أشهر حتى أبريل الماضي، قبل أن تنضم إليها 3 سفن بحرية صينية أخرى في مايو، عندما أجرت الصين، وكمبوديا مناورات "التنين الذهبي" الثنائية السنوية.
وأكد توماس شوجارت، وهو زميل مساعد في مركز الأمن الأميركي الجديد، أن الجيش الصيني يستفيد بالفعل من المنشأة بشكل واضح، حتى وإن لم تكتمل عملية البناء بعد، موضحاً أنه عندما يتم بناء المرافق اللوجستية الإضافية، مثل خزانات الوقود والأرصفة، سيصبح وجود الصين أكثر قوة.
وأضاف أنه استناداً إلى ما تم بناؤه، فإن القاعدة الصينية، تبدو وكأنها قاعدة بحرية متوسطة الحجم مع مرافق للتدريب والصيانة، ودعم الأفراد والإمدادات وغيرها من الوظائف.
وتوقع شوجارت، وهو أيضاً عسكري متقاعد في البحرية الأميركية، أن تسهل هذه المرافق مهام مثل تدريب الوحدات، والدوريات في البحار القريبة والبعيدة، وعمليات السيطرة على البحار في زمن الحرب لدعم الدفاع عن خطوط الاتصالات البحرية الجنوبية للصين.
توسع خارجي
وفق تقرير الموقع المتخصص بالشؤون العسكرية، يعكس العمل في "ريام" التوسع الخارجي لقوات الأمن الصينية، فهي تدير محطات تتبع الأقمار الصناعية ومرافق جمع المعلومات الاستخباراتية في العديد من البلدان، بما في ذلك في نصف الكرة الغربي، ولديها موقع شبه عسكري في طاجيكستان.
واستثمرت الشركات الصينية بكثافة في مرافق الموانئ في جميع أنحاء العالم، ما أثار المخاوف بشأن وصول بكين إلى المنشآت ذات الاستخدام المزدوج المصممة للأنشطة التجارية، ولكنها قادرة على دعم العمليات العسكرية.
وتُوفر القواعد العسكرية الرسمية، والتي يصفها المسؤولون الصينيون غالباً بأنها مرافق دعم لوجستي، وصولاً أكبر لمزيد من الوحدات، لإجراء عمليات أكثر تعقيداً.
وأعلنت بكين عن خطط لبناء أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي أواخر عام 2015، وجرى افتتاحها رسمياً في 2017، واستضافت قوات تقوم بدوريات مكافحة القرصنة، وعمليات مماثلة.
وفي حين أن القاعدتين الصينيتن متواضعتان في الحجم، وبعيدتان عن شبكة القواعد الأميركية الممتدة عبر العالم، إلا أن السرعة التي أنشأت بها بكين القاعدتين أزعجت واشنطن، إذ أمضى المسؤولون الأميركيون والخبراء السنوات الأخيرة في مراقبة النشاط الدبلوماسي والاقتصادي للصين، لمعرفة أين قد تكون قواعدها التالية.
وذكر التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأميركية عن الجيش الصيني، في عام 2020، دولاً متعددة من المرجح أن تفكر الصين أو تسعى إلى إنشاء مرافق عسكرية بها.
وأشار التقرير الأخير، الذي نُشر في أكتوبر الماضي، إلى ميانمار، وتايلاند، وإندونيسيا، وباكستان، وسريلانكا، وكينيا، وغينيا الاستوائية، وسيشيل، وتنزانيا، وأنجولا، ونيجيريا، وناميبيا، وموزامبيق، وبنجلاديش، وبابوا غينيا الجديدة، وطاجيكستان كدول، يحتمل أن تنشأ الصين بها قواعد عسكرية، فيما حاول الخبراء تضييق هذه القائمة من خلال تحليل الاستثمارات الأجنبية الصينية، والتصريحات الرسمية.
وفي أواخر 2022، صنّف تقرير صادر عن مؤسسة "RAND"، أن هناك 108 دول لديها رغبة في العمليات العسكرية للصين، وإمكانية حصول بكين على قاعدة أو وصول، مع التركيز على الإطار الزمني بين عامي 2030-2040.
واحتلت 4 دول المرتبة الأولى في كلا البعدين، وهي: باكستان، وبنجلاديش، وميانمار، وكمبوديا، وكلها لديها موانئ وبنية أساسية أخرى تساعد الصين في تطويرها.
وجاء من بين الدول التي احتلت المراكز الخمسين الأولى في التقرير، نحو 10 دول في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأميركية، و7 دول في كل من منطقة القيادة الأميركية في إفريقيا ومنطقة القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ.
وذكر التقرير أن دول الشرق الأوسط سجلت عموماً درجات أعلى نظراً لقربها من الممرات البحرية المهمة، ومخاوف "الإرهاب"، وصادرات الطاقة، والاستعداد المحتمل لزيادة الاستثمار، والعلاقات الأمنية مع الصين.
وتعكس التقارير ما يقوله الخبراء عن تركيز الصين على تأمين الوصول إلى الممرات البحرية الدولية، التي تربطها بأسواق التصدير ومصادر واردات الطاقة، وتمر العديد من هذه الطرق عبر المحيط الهندي، إذ تركزت مشاريع الموانئ الصينية على مدى العقد الماضي.
كما ذكر تقرير البنتاجون الأخير، أن الصين "مهتمة بشكل خاص بالوصول العسكري على طول الممرات البحرية الدولية" إلى مضيق هرمز وإفريقيا، وكذلك إلى جزر المحيط الهادئ، حيث سعت بكين لسنوات إلى وجود عسكري يمكن أن يُساعدها في الحفاظ على العمليات خارج حدود سلسلة الجزر الأولى.
الأمن القومي للصين
يعتبر تحديد الأماكن التي قد تظهر فيها القواعد الصينية أمراً معقداً، بسبب المعلومات القليلة المتوفرة عن تفكير الحكومة في بكين، وقد تتزايد أو تتقلص قائمة الدول المضيفة المحتملة مع تشكيل الأحداث المحلية لعلاقات تلك الدول مع الصين.
وتُشير الخريطة المسربة إلى "المشروع 141" الذي يسعى بموجبه الجيش الصيني لإنشاء ما لا يقل عن 5 قواعد خارجية و10 مواقع دعم لوجستي بحلول عام 2030، لتحقيق أهداف الأمن القومي لبكين، بما في ذلك حماية مصالحها الاقتصادية.
وأكد Breaking Defense أنه حتى لو حققت بكين هذا الهدف، فقد تظل هذه القواعد محدودة في ما يمكنها دعمه.
وبحسب تقرير صادر عن مؤسسة "RAND" في يونيو الماضي، أقر الباحثون في الجيش الصيني بوجود أوجه قصور، مثل عدم كفاية القيادة والسيطرة، ونقص الخبرة بين القوات في قدرتهم على استخدام القواعد الخارجية.
وفي حين يبني الجيش الصيني قوة استكشافية من شأنها أن تستخدم مثل هذه القواعد، قال تقرير "RAND" إن قدرة وإمكانات بكين على دعم العمليات الخارجية من المرجح أن تكون محدودة حتى عام 2030 على الأقل.
وأوضح التقرير أن تصريحات الجيش الصيني تُشير إلى أنه "ليس لديه النية ولا القدرة" على استخدام قواعده الخارجية لشن هجمات استباقية أو عمليات هجومية أخرى ضد الولايات المتحدة في صراع حتى عام 2030 على الأقل.
وقد يكون سعي الصين إلى إقامة قواعد رسمية مخففاً أيضاً بسبب الاعتبارات السياسية، ويُمكن أن يؤدي دفع الدول المضيفة إلى السماح لها بذلك، إلى تشويه رواية بكين بشأن صعودها السلمي كقوة عظمى، وفقاً لـ"Breaking Defense".
وقال مايكل دام، وهو زميل بارز في معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي، إنه ما لم يتم حل تايوان والنزاعات الإقليمية الأخرى، سيكون من الصعب على الجيش الصيني التركيز على تطوير الكفاءات الأساسية اللازمة لقوة استكشافية.
وفي مقابلة خلال ديسمبر الماضي، أكد دام، وهو أيضاً ضابط متقاعد من استخبارات البحرية الأميركية وعمل مساعداً للملحق البحري في بكين، أن الصين قادرة وربما ستطور قدرات استكشافية محدودة في المستقبل القريب، لكن الجيش الصيني ما زال بعيداً كل البعد عن أن يكون على قدم المساواة مع الجيش الأميركي.
وأثارت استثمارات الصين في الموانئ مخاوف بشأن استخدام هذه المرافق لدعم العمليات العسكرية الصينية، ومراقبة العمليات الأميركية والتدخل فيها.
ويرى القادة الصينيون أن هذه الموانئ وسيلة لدعم احتياجات الجيش الصيني اللوجستية والصيانة الأقل تكلفة، لكن القيود الفنية لهذه المرافق ومخاوف الدولة المضيفة من المرجح أن تستبعد استخدامها في العمليات أو القتال الأكثر تكلفة.
ورغم عدم اليقين بشأن شكل القواعد الصينية ومكانها، يُشكك قِلة في واشنطن بوجود المزيد منها، وقال مسؤول دفاعي أميركي كبير في أكتوبر 2023 إن بناء بكين لقواعد عسكرية "أمر قيد التنفيذ".