وافق الرئيس الأميركي جو بايدن، في مارس الماضي، على خطة نووية استراتيجية سرية للولايات المتحدة للمرة الأولى، تعيد توجيه استراتيجية الردع الأميركي لتركز على "التوسع المطرد للترسانة النووية الصينية"، حسبما أفادت صحيفة "نيويورك تايمز".
وذكرت الصحيفة أن التغير في التوجه الأميركي يأتي وسط اعتقاد وزارة الدفاع "البنتاجون" بأن مخزون الصين من الأسلحة النووية سيضاهي نظيره الأميركي والروسي في الحجم والتنوع خلال العقد المقبل.
ولم يعلن البيت الأبيض، موافقة بايدن على استراتيجية منقحة تحمل اسم "توجيه التوظيف النووي"، والتي تسعى للمرة الأولى إلى تحضير الولايات المتحدة لـ"تحديات نووية منسقة محتملة" من الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
كانت وزارة الدفاع الأميركية، أعلنت في أواخر العام الماضي، عزمها تحديث الترسانة النووية في البلاد، من خلال بناء نوع جديد من قنبلة الجاذبية النووية B61، ستحمل اسم B61-13.
وتأتي تلك الخطوة ضمن مبادرات التحديث الأميركية لرفع مستوى تسلحها النووي، لمواجهة التهديدات الأمنية العالمية المتطورة، وخاصة تلك التي تشكلها روسيا والصين.
استراتيجية "سرية للغاية"
ويتم تحديث الوثيقة كل أربع سنوات عادة، وهي سرية للغاية، لدرجة أنه لا توجد نسخة إلكترونية منها، ويوزع عدد محدود من النسخ على عدد صغير من مسؤولي الأمن القومي وقادة البنتاجون.
ومنذ نهاية الحرب الباردة، عدّلت الولايات المتحدة سياستها النووية عدة مرات، لكنها لم تعلن أبداً أنها ستستخدمها أو حتى أنها لن تكون المبادر في استخدامها.
ولكن مسؤولين اثنين بالإدارة الأميركية سُمح لهما مؤخراً بالتلميح إلى هذا التغيير في خطاباتهما بشكل "مقيد بعناية" شديدة، قبل إرسال إخطار أكثر تفصيلاً إلى الكونجرس، يتوقع أن يقوم به بايدن قبل خروجه من السلطة في يناير المقبل.
وقال فابين نارانج وهو خبير استراتيجي نووي خدم في البنتاجون، في وقت سابق هذا الشهر قبل عودته للتدريس في جامعة MIT، إن "الرئيس أصدر مؤخراً توجيهاً محدثاً من التوظيف النووي، لمواجهة عدد من الخصوم المسلحين نووياً".
وأضاف: "وهذا بالتحديد، يخص زيادة كبيرة في الحجم والتنوع لترسانة الصين النووية".
العقيدة النووية الأميركية
وتُعد الولايات المتحدة، الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي لأغراض عسكرية، إذ ضربت في عام 1945، خلال رئاسة هاري ترومان، مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين بقنبلتين نوويتين، ما أسفر عن خسائر هائلة وضحايا بالآلاف.
وتضم الترسانة الأميركية اليوم نحو 5500 سلاح نووي، نصفها في حالة تأهب قصوى.
وخلال حملته الانتخابية في عام 2020، قال بايدن إن الولايات المتحدة "لا تحتاج إلى أسلحة نووية جديدة"، متعهداً بـ"الحفاظ على رادع قوي وموثوق" وتقليل الاعتماد والإنفاق المفرط على الأسلحة النووية.
وأضاف بايدن، أن إدارته ستجعل "ردع هجوم نووي والرد عليه" هو الغرض الوحيد للترسانة النووية الأميركية.
وتعمل القوات النووية الأميركية تحت رقابة مدنية صارمة، بحيث يكون فقط رئيس الولايات المتحدة هو من يملك سلطة إصدار الأمر باستخدام الأسلحة، بعد التشاور مع كبار مستشاريه.
ووفقاً للبروتوكول الأميركي، إذا تعرضت الولايات المتحدة للهجوم، سيتعين على الرئيس النظر في خياراته بغضون 6 دقائق تقريباً، أما في الحالات الأخرى، يمكنه التفكير لفترة أطول، ثم يتخذ القرار، على أن تكون خطة الهجوم معدة مسبقاً.
وتَعتبر العقيدة النووية الأميركية، أن القدرات العسكرية المتنامية لروسيا، فضلاً عن إمكانيات الصين وكوريا الشمالية وإيران، تُشكل التهديد الخارجي الرئيسي لأمن الولايات المتحدة.
تحضير الولايات المتحدة لأزمة نووية
وفي يونيو الماضي، أشار مدير برنامج الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي الأميركي، باراناي فاداي إلى الوثيقة، وقال إنها أول فحص مفصل لما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة للرد على أزمة نووية تندلع بالتزامن أو بالتعاقب، مع تركيبة من الأسلحة النووية وغير النووية.
وقال فاداي، لـ"نيويورك تايمز"، إن الاستراتيجية الجديدة تؤكد الحاجة إلى "ردع روسيا وجمهورية الصين الشعبية، وكوريا الشمالية في الوقت نفسه".
وفي الماضي، كانت فكرة أن خصوم الولايات المتحدة يمكن أن ينسقوا تهديداً نووياً يتغلب على الترسانة النووية الأميركية، أمراً يبدو مستبعداً.
وجاء بايدن إلى السلطة برغبة في تقليص دور الأسلحة النووية في السياسة الأميركية، كما بحث عن إلغاء ضلع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، إلا أن هذا الخيار تم إلغاؤه العام الماضي، بمجرد تحذير الوكالات الاستخباراتية من "توسع الصين في مخزونها من السلاح النووي بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً في السابق".
كما أن "الشراكة الجديدة الناشئة بين روسيا والصين والأسلحة التقليدية التي توفرها إيران وكوريا الشمالية إلى روسيا في حربها ضد أوكرانيا"، غيرا تفكير واشنطن.
وتجري روسيا والصين بالفعل تدريبات عسكرية مشتركة، وتحاول وكالات الاستخبارت الأميركية، تحديد ما إذا كانت روسيا تساعد في تسليح برامج الصواريخ الكورية الشمالية والإيرانية، في المقابل.
مشهد نووي متقلب
من جهة أخرى، اعتبرت "نيويورك تايمز" أن الوثيقة الجديدة هي "تذكير شديد بأن الشخص المقبل الذي سيؤدي قسم منصب رئيس الولايات المتحدة في 20 يناير المقبل، سيواجه مشهداً نووياً متقلباً بأكثر مما كان موجوداً قبل 3 سنوات".
وهدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، بما في ذلك خلال أزمة في أكتوبر 2022، وفق ما أظهر اعتراض لمراسلات بين كبار القادة الروس، وبين أن خطر استخدام السلاح النووي ارتفع إلى 50% أو أكثر.
وتُعد روسيا الدولة الأكبر من حيث القوة النووية، إذ تضم ترسانتها نحو 6300 رأس حربي، ما يُمثل أكثر من 90% من الأسلحة النووية في العالم.
وتقول سياسة الردع النووي الروسي: "على الخصم أن يعي حتمية الانتقام في حالة وقوع اعتداء على روسيا و/أو على حلفائها"، وتؤكد أن "الردع النووي مكفول سواء في وقت السلم أو فترات التهديد المباشر بالعدوان، وخلال الحرب أيضاً، وصولاً إلى الاستخدام الفعلي للأسلحة النووية".
ونجح بايدن في حض زعماء ألمانيا وبريطانيا والصين والهند على الإدلاء بتصريحات علنية تنص على أنه لا يوجد مجال لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، وهو ما أنهي الأزمة في حينها ولو مؤقتاً، وفق "نيويورك تايمز".
قدرات الصين النووية
وخلال حقبة الحرب الباردة، طورت الصين ترسانة نووية متواضعة نسبياً، مقارنة بنظيرتيها الأميركية والروسية، تضم نحو 350 رأساً حربياً، أكثر من 100 منها مخصصة للصواريخ بعيدة المدى.
ومنذ أول تجربة نووية في عام 1964، حافظت الصين باستمرار على سياسة عامة ومعلنة بعدم البدء باستخدام السلاح النووي، والتزمت بما تصفه بأنه "استراتيجية للدفاع عن النفس"، لكن المجتمع الأمني العالمي يرى أن التزام الصين قد "لا يكون ذا مصداقية كاملة"، لا سيما إذا ما خرج الصراع العسكري أو التهديد عن السيطرة.
وتشير تقديرات وزارة الدفاع الأميركية، إلى أن الترسانة الصينية ستصل إلى أكثر من 1000 رأس حربية نووية جاهزة للاستخدام بحلول عام 2030، وهو ضعف العدد المقدر حالياً، و4 أضعاف ما قدره البنتاجون قبل بدء التعزيزات منذ نحو 6 سنوات.
وتبني الصين أيضاً في السنوات الأخيرة صوامع للصواريخ، كما تنشر المزيد من الغواصات التي يمكنها حمل رؤوس حربية نووية، ما يمنحها قدرة أكبر على إطلاق أسلحة نووية في فترة وجيزة، وليس مجرد ضربة انتقامية بعد تعرضها للضرب.
كما تمتلك الهند نحو 150 رأساً نووياً، يتركز الهدف الاستراتيجي الرئيسي منها، على تحقيق التوازن العسكري مع الخصم الباكستاني (شمال غرب)، إلا أن التوترات مع الصين "النووية" والتي تصاعدت في السنوات الأخيرة، أضافت إلى هذا السلاح بعداً استراتيجياً آخر.
وتُشير التقديرات إلى امتلاك كوريا الشمالية بين 30 و40 رأساً نووياً، بينما تواصل تطوير قدراتها الصاروخية بعيدة المدى.
وعلى الرغم من عدم إفصاح القيادة الكورية عن عقيدتها النووية، فإن مندوبها في الأمم المتحدة قال خلال مؤتمر نزع السلاح في عام 2016، إن بلاده لن تستخدم الأسلحة النووية إلا إذا تعرضت سيادتها للتهديد.
ويعتقد خبراء أميركيون أن استمرار بيونج يانج في تطوير البرامج النووية والصاروخية بما يتجاوز المتطلبات الضرورية للردع، يُشير إلى أن النظام يسعى جاهداً لبناء استراتيجية قتالية حقيقية، معتبرين أن الخطر لا يزال قائماً في ظل احتمال سوء تقدير أو مغامرة غير محسوبة، بالنظر إلى علاقة كوريا الشمالية المتوترة مع عدد من جيرانها.