موجة كورونا الثانية.. لا خوف من الطفرات

زوجان يرتديان أغطية واقية للوجه يتحدثان في الشارع وسط مدينة ليفربول، شمال غربي إنجلترا - AFP
زوجان يرتديان أغطية واقية للوجه يتحدثان في الشارع وسط مدينة ليفربول، شمال غربي إنجلترا - AFP
الشرق -محمد منصور

عند بداية تفشي فيروس كورونا المستجد في موجته الأولى، حذر عدد من العلماء من موجة ثانية سيشهدها العالم حتى قبل انتهاء الأولى. وبعد مرور 11 شهراً على الموجة الأولى، يبدو أن الثانية على وشك أن تضرب بشكل أكبر، انطلاقاً من أوروبا.

وارتفعت الإصابات بشكل كبير في أوروبا، وتجاوزت الأعداد التي تم الإبلاغ عنها الأسبوع الماضي تلك المسجلة في الذروة الأولى لانتشار الوباء، خلال مارس الماضي.

في الربيع وأوائل الصيف، أتت إجراءات الإغلاق الصارمة بثمارها. ومع بداية يونيو الماضي، وصلت الحالات إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. لكن مع حلول سبتمبر، عاد ناقوس الخطر يدق بأعلى صوت ممكن، فالحالات عادت لتتزايد بشكل كبير، ما يُشير إلى هبوب رياح الموجة الثانية على الأقل في القارة العجوز.

ورغم الأعداد المتزايدة للحالات المصابة النشطة، والوفيات في أوروبا، لا تزال القارة العجوز تُقارن بشكل إيجابي بالولايات المتحدة. سجلت أوروبا 4.4 مليون حالة إصابة، و217 ألفاً و278 حالة وفاة، بين سكان يبلغ عددهم 750 مليون نسمة، بينما بلغت الولايات المتحدة 6.7 مليون حالة إصابة و198 ألف حالة وفاة، في عدد سكان يبلغ 330 مليون نسمة.

الولايات المتحدة والموجة الثانية

أكد البروفيسور خوسيه بولاند، رئيس قسم الأمراض المعدية في "جامعة إدنبرة" في بريطانيا، في تصريح لـ"الشرق" أن الوضع في أوروبا يختلف تماماً عما هو عليه في الولايات المتحدة، قائلاً: "هنا في أوروبا انخفضت الأعداد بشكل كبير، نتيجة إجراءات الإغلاق التي نُفذت على نطاق واسع للغاية، على عكس الولايات المتحدة التي لم تُنفذ إغلاقاً محكماً، بسبب سياسات الرئيس دونالد ترمب".

وأشار بولاند إلى أن "أوروبا في منتصف موجة ثانية، ستستمر حتى نهاية الشتاء أو ظهور لقاح، في الوقت الذي لم تخرج فيه الولايات المتحدة من الموجة الأولى من الأساس.

سبب دخول أوروبا الموجة الثانية 

ويرى بولاند أن هناك عاملين أساسيين سيؤثران على الأعداد المُصابة، أولهما هو المناخ، فكلما قلت درجات الحرارة والرطوبة، يصبح الهواء أكثر جفافاً، وهذا يعني سهولة انتقال الفيروس، وبالتالي زيادة أعداد المصابين. 

وتنشط الفيروسات أكثر في البيئة الباردة، عكس الطقس الحار الذي تقل فيه سرعة انتشارها.

وفي الأوقات الأكثر دفئاً من العام، يكون عدد الإصابات أقل بالفيروسات، كما أنه إذا كان الجو بارداً في الهواء الطلق، يقضي الناس وقتاً أطول داخل منازلهم، وهذا يعني أن الهباء الجوي المحمّل بالفيروسات، وهو عبارة عن قطرات صغيرة محمولة في الهواء، يمكن أن ينتشر بسهولة أكبر، وبالتالي يكون الطقس أحد عوامل الحسم في انتشار الفيروسات.

السلوك الاجتماعي

في عدد من البلدان لم تعد قيود الإغلاق مطبقة بصرامة، وكانت ألمانيا وإسبانيا واليونان من أوائل الدول في أوروبا، التي خففت مثل هذه الإجراءات.

وقال البروفيسور خوسيه بولاند إن "تخفيف إجراءات الإغلاق عبارة عن كارثة حقيقية، خصوصاً مع تزايد الأعداد"، مضيفاً: "يجب أن يفهم الجميع أن العودة لما قبل وضع كورونا، أصبحت في حكم المستحيل، نحن في عالم جديد".

وكانت "منظمة الصحة العالمية" حذرت من أن الفيروس التاجي لن يختفي بشكل كامل؛ وشددت على العواقب المحتملة إذ ما تعامل الناس مع فيروس كورونا باستهانة.

ففي أستراليا، وبعدما خُففت القيود، شددت الحكومة إجراءات الإغلاق مرة أخرى بعد ارتفاع الحالات الجديدة.

ويبقى الأمر داخل نطاق السيطرة حين يكون معدل انتشار العدوى مساوياً للواحد الصحيح أو أقل. ويشير ذلك المعدل إلى عدد الأشخاص الآخرين الذين يصيبهم مريض واحد في المتوسط. فمثلاً؛ إذا ما نقل المريض الواحد الفيروس لخمسة أشخاص، فسيكون معدل التكاثر/الاستنساخ مساوياً للرقم 5. وسجلت بعض الدول الأوروبية أخيراً معدل تكاثر يزيد على الواحد، وأحياناً يصل إلى الرقم 3. 

ورغم أنه لا يوجد معيار دولي موحد لكيفية تعريف الموجة الثانية؛ إلا أن المصطلح يُشير إلى تفشٍّ جديد بعد انخفاض أولي. وهو ما يحدث بالفعل حالياً في بعض الدول الأوروبية.

وبالفعل؛ أعلن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن المملكة المتحدة تشهد الآن موجة ثانية من تفشي الوباء؛ وقال إنه "لا يرغب في فرض إجراءات إغلاق أوسع نطاقاً"، إلا أنه أشار إل أن "هناك ثلاثة مستويات من القيود الهادفة، لتجنب الإغلاق الكامل".

ماذا لو تحوّر الفيروس؟

حين انتشر "كوفيد-19" هذا العام؛ تساءل الباحثون حول العالم عن الكيفية التي يُمكن أن يتغير بها الفيروس القاتل، مع انتقاله من شخص إلى آخر. فالصدفة قد تتسبب في حدوث طفرات تجعل الفيروس أكثر قوة، أو أكثر ضعفاً، فما الذي يحكم تلك العملية؟

قال الباحث الشهير ديفيد مونتيفوري، في مقال نشرته دورية "نايتشر" إن "التسلسل الجيني لفيروس كورونا المستجد، أصبح معروفاً بفضل مئات الأبحاث التي تناولت ذلك الموضوع"، وإن "الباحثين حول العالم، يُفتشون عن الطفرات التي ربما تكون قد غيرت خصائص الفيروس، أثناء إحداث العدوى في البلدان جميعاً".

لكن؛ ولحسن الحظ، فإن مقارنة فيروس "كوفيد-19" بالفيروسات الأخرى، كالفيروس المُسبب لمرض نقص المناعة المكتسبة، بحسب ما أوضح مونتيفوري، تكشف أن كورونا يتغير بشكل بطيء جداً مع انتشاره، لكن هناك "طفرة واحدة كبيرة" رصدها الباحثون لذلك الفيروس.

فالجين المسؤول عن مساعدة الفيروس على اختراق خلايا الجهاز التنفسي، شهد طفرة بانتظام. وظهرت تلك الطفرة مراراً وتكراراً في عينات مأخوذة من الأشخاص المصابين بكوفيد-19، في موضع مُحدد من حمض أميني لبروتين يُدعى "سبايك".

ونشر باحثون في أبريل الماضي؛ نسخة أولية من دراسة يُحذرون فيها من وجود سلالة "أكثر قابلية للانتقال وإحداث العدوى في الولايات المتحدة وكندا"، بسبب طفرة "سبايك".

تلك التحذيرات، أزعجت الكثير من العلماء؛ إلا أن دراسات لاحقة، قالت إن ارتفاع أعداد الإصابات حول العالم "لا يشير من قريب أو من بعيد لاحتمال تطور الفيروس داخل أجسام المصابين". ورغم أن الدراسات العلمية المحايدة أكدت عدم مسؤولية الطفرات في انتشار الفيروس بصورة أسرع، أو أكثر خطورة، إلا أن الإنذار انتشر بسرعة عبر وسائل الإعلام، التي أعلنت أن الفيروس يتحور ليصبح أكثر خطورة.

"الطفرة" وزيادة معدلات الإصابة

قال عالم الفيروسات التاجية في "جامعة نورث كارولينا" الأميركية تيموثي شيهان إن الفيروسات التي تحمل تلك الطفرة "لا تُصيب الخلايا بسهولة أكبر كما يدعى بعض العلماء.. وقد لا تعني أي شيء على الإطلاق من الأساس.. فلا حاجة للخوف منها".

ولا تزال لدى الباحثين أسئلة أكبر من الإجابات حول طفرات الفيروس التاجي، ولم يجد أحد حتى الآن، أي تغيير من شأنه أن يثير مخاوف الصحة العامة، لكن دراسة الطفرات بالتفصيل، قد تكون مهمة للسيطرة على الوباء. وقد تساعد أيضاً في استباق الطفرات الأكثر إثارة للقلق، والتي يمكن أن تساعد الفيروس على التهرب من أجهزة المناعة، أو اللقاحات، أو العلاجات بالأجسام المضادة.

وبعد فترة وجيزة من اكتشاف الفيروس في الصين، بدأ الباحثون في تحليل العينات الفيروسية، ونشر الرموز الجينية عبر الإنترنت. وسمحت الطفرات، ومعظمها تعديلات أحادية بين الفيروسات المكتشفة عند أشخاص مختلفين، بتتبع الانتشار من طريق ربط فيروسات وثيقة الصلة ببعضها البعض، ما سمح بتقدير متى بدأ الفيروس في إصابة البشر.

وتميل الفيروسات التي تُشفر جينومها (المجموع المورثي) في الحمض النووي الريبي، مثل فيروس "كوفيد-19"، ونقص المناعة المكتسبة والإنفلونزا إلى التقاط الطفرات بسرعة أثناء عملية النسخ داخل المضيف. فالإنزيمات التي تقوم بعملية النسخ معرضة لارتكاب أخطاء كبيرة، يطلق العلماء على تلك الأخطاء اسم الطفرة.

لكن، ليست كل الطفرات خطرة، فالفيروس المُسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، طوّر طفرة تسببت في ضعفه وبطء انتشاره.

وتشير بيانات التسلسل إلى أن فيروسات كورونا، تتغير بشكل أبطأ من معظم فيروسات الحمض النووي الريبي الأخرى، ربما بسبب طبيعة إنزيم "التصحيح" الموجود في تلك الفيروسات، والقادر على تصحيح أخطاء النسخ القاتلة المحتملة.

بمعنى أن الفيروسات التاجية، تمتلك طريقة لتصحيح جيناتها أثناء عملية النسخ داخل الجسم المضيف، وهو أمر يؤدي إلى احتمال أقل لتطفير الفيروس.

ففيروس "كوفيد-19" يراكم طفرتين فقط شهرياً في جينومه، وذلك المعدل يقارب نصف معدل الإنفلونزا، وربع معدل تغير فيروس نقص المناعة البشرية. وهذا يعني أن الفيروس "مستقر" بصورة كبيرة.

وأكدت بيانات الجينوم الأخرى هذا الاستقرار؛ خصوصاً بعدما نجح الباحثون في فك تسلسل أكثر من 90 ألف عزلة ونشرها على الملأ، ولم يرصد العلماء تغيرات تمنح "ميزة تطورية" للفيروس. 

ورغم معدل الطفرات البطيئة للفيروس، قام الباحثون بتصنيف أكثر من 12 ألف طفرة في جينومات "كوفيد-19".  

 لكن العلماء يمكنهم اكتشاف الطفرات بشكل أسرع مما يمكنهم فهمه. والكثير من تلك الطفرات، لن يكون له أي تأثير على قدرة الفيروس على الانتشار أو التسبب في المرض، لأنها لا تغير شكل البروتين، في حين أن تلك الطفرات التي تغير البروتينات، من المرجح أن تضر الفيروس أكثر من تحسينه.

ويعتقد عدد من الباحثين أنه إذا ساعدت الطفرات الفيروس على الانتشار بشكل أسرع، فمن المحتمل "أن ذلك الأمر حدث بالفعل"، عندما قفز الفيروس للمرة الأولى إلى البشر، أو اكتسب القدرة على الانتقال بكفاءة من شخص إلى آخر. 

ففي الوقت الذي يكون فيه كل شخص معرضاً للإصابة به، فمن المحتمل أن يكون هناك ضغط تطوري ضئيل على الفيروس للانتشار بشكل أفضل. لذلك، حتى الطفرات المفيدة المحتملة، قد لا تساهم في ازدهار جينات الفيروس؛ حسبما قال ويليام هاناج، عالم الأوبئة في "كلية هارفارد للصحة العامة" في بوسطن.

وعندما رأى العلماء طفرة "سبايك" منتشرة بشكل كبير، قام الباحثون بدراسة موقع الطفرة ليجدوا أن هدفها هو "تحييد" الأجسام المضادة، التي ترتبط بالفيروس، وتجعله غير معدٍ.  

هل نجحت الطفرة؟ 

لم يختبر الباحثون ما إذا كانت أي من الطفرات تسمح للفيروس بإحباط عمل الأجسام المضادة، لكن نتائج الأبحاث العلمية تشير إلى أن مثل هذه التغييرات ممكن. إذ يظل ذلك الأمر احتمالاً، لكن ليس مؤكداً بأي حال من الأحوال، بأن يكتسب الفيروس طفرات تغير قابليته للتأثر بالأجسام المضادة والمناعة.

بناءً على الخبرة في فيروسات كورونا الأخرى، قد تستغرق دراسة أثر الطفرات سنوات عدة. وحددت الدراسات التي أجريت على فيروسات كورونا المسببة للبرد الشائع، والتي تم أخذ عينات منها عبر مواسم متعددة، بعض علامات التطور استجابة للمناعة. لكن وتيرة التغيير بطيئة، كما أكد فولكر ثيل، عالم الفيروسات والحمض النووي الريبي في "معهد علم الفيروسات والمناعة" في مدينة برن السويسرية، قائلاً إن "هذه السلالات تظل ثابتة، إلى حد ما".

وأضاف ثيل "من الضروري التعامل مع كورونا المستجد بحرص شديد، وترقب حدوث التغييرات والطفرات، واستنباط طرق للتعامل معها".

ونظراً إلى أن معظم العالم لا يزال عرضة للإصابة بكورونا، فمن غير المرجح أن تكون المناعة حالياً عاملاً رئيساً في تطور الفيروس. لكن مع ارتفاع المناعة على مستوى السكان في كل العالم؛ سواء كانت المناعة مكتسبة من خلال العدوى أو بسبب التطعيمات، فيمكن أن يسبب ذلك الأمر ضغطاً على الفيروس كي "يُغير من استراتيجيات هجومه، للهروب من المناعة والاستمرار في إحداث العدوى".

ويمكن أن تصبح الطفرات المقلقة أكثر شيوعاً أيضاً، إذا لم يتم استخدام علاجات الأجسام المضادة بحكمة، لكن الباحثين يقولون إن استخدام اللقاحات "أمر آمن، ولن يتسبب في حدوث طفرات قاتلة".

الدول العربية

وتزايدت أعداد الإصابة في بعض الدول العربية، إذ شهد الأردن ارتفاعاً كبيراً في أعداد الحالات، ما اضطر الحكومة إلى وضع قيود جديدة، لوقف انتشار الفيروس. وكذلك الحال في لبنان، حيث تعدى عدد الإصابات عتبة ألف حالة.

كما زادت الأعداد بشكل مطرد في المملكة المغربية، ما دعى الحكومة لإغلاق منافذ العاصمة، وإخضاع التنقلات منها وإليها لرخص استثنائية، وإغلاق المؤسسات التعليمية جميعاً.

فيما بدأت الأعداد بالارتفاع في كل من تونس ومصر، ولم تتخذ السلطات بعد أيّ إجراءات.

تجنب الموجة الثانية

قال الدكتور جريج بولاند أستاذ الطب والأمراض المعدية في تصريحات خاصة لـ"الشرق" إن "قدوم الموجة الثانية أصبح في حكم الحقيقة، إلا أن هناك عدداً من الأمور التي تجعل الإصابة بالفيروس رهن السلوك الشخصي".

وينصح بولاند بالحفاظ على التباعد الاجتماعي؛ ويوصي بعدم الاقتراب من الأشخاص الغرباء لمسافة تقل عن مترين. كما ينصح بضرورة غسل الأيدي باستمرار بالماء والصابون لمدة 20 ثانية على الأقل. وارتداء أقنعة الوجه خارج المنزل؛ وتجنب الأماكن المزدحمة قدر المستطاع؛ والبقاء في المنزل إذا ما شعر الشخص بالإعياء.

ويرى بولاند أن العودة إلى الإغلاق "خير وسيلة للسيطرة على الفيروس"، مشيراً إلى أنه "الخطوة المنطقية الوحيدة حتى ظهور الأمل الأخير، وهو اللقاح".