كشف باحثون من جامعتي "ييل" و"أوهايو ستيت" الأميركيتين، عن نتائج واعدة لاستخدام تطبيق إلكتروني في علاج الميل إلى الانتحار، إذ أكد الباحثون نجاح التطبيق في تقليل محاولات الانتحار المتكررة بنسبة تقارب 60% بين المرضى النفسيين الأكثر عرضة للخطر بعد خروجهم من المستشفى.
التطبيق، المعروف باسم OTX-202، تم تطويره لتقديم علاج نفسي مخصص لمنع الانتحار، ويعد حلاً رقمياً مبتكراً للفجوة الحرجة التي يعاني منها المرضى بعد الخروج من المستشفى، حيث يكونون في أشد حالات الضعف النفسي.
ووفق الدراسة المنشورة في دورية الجمعية الطبية الأميركية، فإن المرضى الذين استخدموا التطبيق أظهروا انخفاضاً بنسبة 58.3% في تكرار محاولات الانتحار بعد الخروج من المستشفى، مقارنةً بمجموعة تلقت نفس العلاج الطبي التقليدي ولكن استخدمت تطبيقاً آخر يحتوي فقط على معلومات توعوية وخطط أمان.
لم يقتصر تأثير OTX-202 على منع المحاولات الانتحارية، بل أظهر المستخدمون أيضاً تحسناً ملحوظاً في تقليل الأفكار الانتحارية، وهو تحسن استمر حتى 24 أسبوعاً بعد الخروج من المستشفى، بينما شهدت مجموعة المقارنة تحسناً مبدئياً سرعان ما تلاشى بحلول الأسبوع 24، بحسب الدراسة.
العلاجات الرقمية
وينتمي ذلك التطبيق إلى فئة جديدة من العلاجات تعرف باسم "العلاجات الرقمية" وهي نوع من التدخلات الطبية المعتمدة على التكنولوجيا، تقدم عادة من خلال تطبيقات أو منصات إلكترونية مصممة علمياً لعلاج أو إدارة أمراض جسدية ونفسية.
بعكس تطبيقات الصحة العامة التي تساعدك على تتبّع عدد الخطوات أو جودة النوم، فإن العلاجات الرقمية تخضع لاختبارات علمية صارمة، وتُقيم مثل الأدوية، وغالباً ما تحتاج إلى موافقة الجهات التنظيمية مثل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA.
تعتمد العلاجات الرقمية على تدخلات سلوكية أو معرفية مدروسة، تeقدم عبر واجهات تفاعلية، مثل تطبيقات الهاتف المحمول أو أجهزة قابلة للارتداء، وتُستخدم عادة بإشراف طبي. على سبيل المثال، يمكن لتطبيق متخصص أن يساعد مرضى السكري على تنظيم جرعات الأنسولين من خلال تحليل بياناتهم اليومية، أو أن يُقدّم جلسات علاج معرفي سلوكي لمرضى الاكتئاب والقلق دون الحاجة لزيارة العيادة.
وعلى الرغم من أن العلاجات الرقمية ليست بديلاً مباشراً للأدوية، إلا أنها قد تستخدم معها أو في بعض الحالات كخيار أولي.
فبعض التجارب السريرية أظهرت فعالية لبعض العلاجات الرقمية تقارب أو تفوق فعالية الأدوية التقليدية، خصوصاً في الاضطرابات النفسية البسيطة إلى المتوسطة، وتعد الميزة الأبرز في هذا النوع من العلاجات هي أنها لا تسبب آثاراً جانبية كيميائية، وتمنح المرضى قدرة أكبر على التحكم في مسار علاجهم.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة الخاصة بتطبيق OTX-202، كريح براين، مدير برنامج الوقاية من الانتحار في جامعة "أوهايو ستيت"، إن "العلاج النفسي المتخصص لمنع محاولات الانتحار، فعّال للغاية، لكن إيجاد معالجين مدرَّبين عليه بعد مغادرة المستشفى يمثل تحدياً كبيراً. تطبيق OTX-202 قد يكون حلاً لهذه المشكلة".
وأوضحت المؤلفة المشاركة في الدراسة، باتريشيا سيمون، الباحثة في كلية الطب بجامعة "ييل" أن الفترة التي تلي الأزمات الانتحارية مباشرة والخروج من المستشفى تُعد من أخطر الفترات التي يمكن أن تشهد تكرار محاولات الانتحار أو الوفاة، مؤكدة أن OTX-202 يسد فجوة خطيرة في الرعاية النفسية.
وتشير البيانات إلى أن الانتحار ما زال من بين الأسباب العشرة الرئيسية للوفاة في الولايات المتحدة، وهو السبب الثاني للوفاة بين الفئة العمرية من 10 إلى 14 عاماً، ومن 25 إلى 34 عاماً، والثالث بين من تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً، والرابع في الفئة من 35 إلى 44 عاماً.
تكلفة باهظة للانتحار ومعدلات كارثية
ومنذ عام 1999، ارتفعت معدلات الانتحار في الولايات المتحدة بأكثر من 33%، ويشارك أكثر من مليون شخص سنوياً في سلوكيات انتحارية غير قاتلة، فيما يُنقل حوالي 500 ألف شخص إلى المستشفيات بعد محاولتهم الانتحار.
وتُقدَّر تكلفة الانتحار ومحاولات الانتحار على النظام الصحي والاقتصاد الأميركي بنحو 500 مليار دولار سنوياً. وبالرغم من هذا العبء، يظل الانتحار من بين الأسباب القاتلة القليلة التي لا يوجد لها أي دواء مُرخّص لمعظم المرضى المعرضين للخطر.
اختُبر التطبيق الجديد في تجربة سريرية عشوائية مزدوجة التعمية، شملت 339 مريضاً نفسياً من 6 مستشفيات متنوعة داخل الولايات المتحدة.
وقُسم المشاركون بشكل عشوائي إلى مجموعتين؛ مجموعة استخدمت تطبيق OTX-202، وأخرى استخدمت تطبيقاً تحكمياً يحتوي على خطة أمان وتثقيف نفسي فقط، وكلا المجموعتين تلقتا نفس العلاج الطبي المعتاد.
وتم تقييم النتائج باستخدام مقياس "الانطباع السريري لتغير شدة الانتحار" وهو مقياس معتمد يستخدمه الأطباء لقياس التغيرات في أعراض المريض وتقييم مدى التحسن بشكل موحد.
حقائق وأرقام حول الانتحار وفق منظمة الصحة العالمية
- 720 ألف شخص ينتحر سنوياً حول العالم.
- الانتحار هو ثالث سبب رئيسي للوفاة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً حول العالم.
- 73% من حالات الانتحار تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
- محاولات الانتحار أكثر عدداً من الحالات المكتملة، وتعد محاولة سابقة عامل خطر كبير لتكرار الفعل.
- الانتحار مشكلة صحية عامة تؤثر على الأفراد والأسر والمجتمعات وتخلف آثاراً طويلة الأمد.
من هم الأكثر عرضة للانتحار؟
- من يعانون من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو الإدمان، خاصة في البلدان ذات الدخل المرتفع.
- من يواجهون أزمات مفاجئة مثل: مشكلات مالية أو خلافات أسرية أو آلام مزمنة.
- الفئات الضعيفة مثل اللاجئون والمهاجرون والشعوب الأصلية والمثليون ومزدوجو الميل الجنسي والمتحولون جنسياً والسجناء.
- الأشخاص المتأثرون بالنزاعات والعنف والكوارث أو فقدان الأحباء.
كيف يمكن الوقاية من الانتحار؟
وفق مبادرة "عش الحياة LIVE LIFE" التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية
- تقييد الوصول إلى وسائل الانتحار مثل المبيدات، والأسلحة النارية، وبعض أنواع الأدوية.
- تعزيز التغطية الإعلامية المسؤولة حول قضية الانتحار.
- تقوية مهارات الحياة الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين.
- الكشف المبكر والتقييم والمتابعة للأفراد المعرّضين لخطر الانتحار.
- ويجب أن تصاحب هذه التدخلات ركائز داعمة مثل تحليل الوضع، والتوعية، والتمويل، والتدريب، والرصد والتقييم، والتعاون بين مختلف القطاعات.
تحديات تواجه جهود مكافحة الانتحار
- وصمة العار والمحرمات تمنع كثيرين من طلب المساعدة أو التحدث عن أفكارهم الانتحارية.
- قلة البيانات الدقيقة والمحدثة عن حالات ومحاولات الانتحار في كثير من الدول.
- غياب السياسات الوطنية: فقط 38 بلداً حول العالم لديها استراتيجية واضحة للوقاية من الانتحار.
المؤلف الرئيس للدراسة الخاصة بتطبيق OTX-202، سيث فويرشتاين، الباحث جامعة "ييل"، يرى أن "المرضى والأشخاص الذين يعتنون بهم يفتقرون إلى أدوات فعالة وموثوقة للحد من مخاطر الانتحار مستقبلاً ويواجهون واحدة من أكبر فجوات الوصول إلى العلاج مقارنة بأي سبب رئيسي آخر للوفاة".
ويؤكد سيث، أن التأثير المحتمل لهذا التطبيق على الصحة العامة "ضخم"، مشيراً إلى أن الدراسة العلمية التي شارك فيها بشأن التطبيق وتجاربه، تسلط الضوء على تحول جوهري في كيفية تعاملنا مع الانتحار كأزمة صحية عامة، فبدلاً من الاعتماد فقط على الجلسات التقليدية بعد الخروج من المستشفى، يقدّم تطبيق OTX-202 نموذجاً مبتكراً لعلاج مستمر، شخصي، وقابل للتوسع، وأضاف "وفي وقت تتزايد فيه معدلات الانتحار ويظل العلاج محدوداً أو غير متاح لكثير من المرضى، يفتح هذا الابتكار الرقمي باب أمل جديد، ويؤكد أن التكنولوجيا، حين تُسخّر بشكل علمي وإنساني، يمكن أن تنقذ أرواحًا وتمنح الأمل في أحلك اللحظات".