أظهرت دراسة سريرية أن الحفاظ على فقدان الوزن من خلال ممارسة الرياضة بانتظام، بدلاً من استخدام عقار "ليراجلوتايد" (liraglutide)، المستخدم لعلاج السكري من النوع الثاني والسمنة، يبدو أنه يقلل من تطور تصلب الشرايين لدى البالغين المصابين بالسمنة، وهو أحد الأسباب الرئيسية لأمراض القلب والأوعية الدموية.
أجرى الدراسة باحثون من جامعة كوبنهاجن في الدنمارك، وشملت بالغين يعانون من السمنة دون إصابة بالسكري، وعُرضت ضمن الدورة الـ61 لمؤتمر الجمعية الأوروبية لدراسة السكري (EASD)، المنعقد في فيينا خلال الفترة من 15 إلى 19 سبتمبر الجاري.
كما وُصفت الدراسة بأنها من أبرز ما تم تقديمه في مجال السمنة وأمراض القلب خلال السنوات الأخيرة، إذ تعيد تشكيل النقاش العالمي حول مستقبل علاج السمنة، وتطرح تساؤلات جوهرية حول ما إذا كان الدواء وحده كافياً، أم أن مفتاح الوقاية القلبية لا يزال يكمن في الحركة والنشاط البدني؟
في السنوات الأخيرة، انشغل العالم بمعركة السمنة وأمراض القلب، إذ يواجه ملايين الأشخاص من أوروبا إلى أميركا مروراً بالشرق الأوسط خطراً متزايداً يتمثل في النوبات القلبية والسكتات الدماغية، وهما السبب الأول للوفاة على مستوى العالم.
وفي صميم النقاشات، يبرز تساؤل يتعلق بالطريقة الأفضل للحفاظ على الوزن بعد فقدانه: هل ينبغي الاعتماد على الأدوية الحديثة، أم أن الرياضة التقليدية لا تزال تُمثّل المفتاح الأساسي للوقاية القلبية؟
وبحسب الدراسة الجديدة، نجح عقار ليراجلوتايد، أحد أدوية الجيل الجديد لمكافحة السمنة من فئة GLP-1، في المساعدة على فقدان الوزن والحفاظ عليه. إلا أن نتائجه لم تُظهر تأثيراً ملموساً في الحد من تطور تصلب الشرايين، وهو المرض الذي يقود مباشرة إلى النوبات القلبية والسكتات الدماغية.
في المقابل، أظهرت نتائج المتابعة أن التمارين الرياضية المنتظمة -حتى دون دواء- أحدثت فرقاً واضحاً في مؤشرات الالتهاب وصحة الأوعية الدموية.
السمنة وأمراض القلب
منذ أن بدأ الأطباء في تسجيل أسباب الوفاة بشكل علمي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، اتضح أن أمراض القلب تتقدم بثبات في قائمة مسببات الوفاة، ومع منتصف القرن العشرين، أصبح جلياً أن النوبات القلبية والسكتات الدماغية لم تعد أمراضاً نادرة، بل تحولت إلى وباء عالمي يهدد حياة ملايين البشر كل عام.
السمنة ليست مجرد زيادة في الوزن أو مظهر خارجي يسبب حرجاً لدى بعض الأشخاص، إذ يصفها الأطباء اليوم بأنها مرض التهابي مزمن، فالخلايا الدهنية الزائدة ليست خاملة كما كان يُعتقد قديماً، بل هي مصانع صغيرة تطلق إشارات التهابية في الجسم. وتُضعف هذه الالتهابات المستمرة، وإن كانت منخفضة الدرجة، بطانة الأوعية الدموية وتجعلها أكثر عُرضة للتصلب.
تشير البيانات إلى أن السمنة تُمثّل عاملاً مباشراً يضاعف خطر الإصابة بأمراض مميتة؛ إذ أن الأشخاص المصابين بها تزيد احتمالية إصابتهم بأمراض القلب التاجية بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بأصحاب الوزن الطبيعي، كما ترتفع لديهم مخاطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم بنحو 70%. في حين يبرز داء السكري من النوع الثاني كأحد أخطر التداعيات المرتبطة بالسمنة، حيث ترتفع معدلات الإصابة به إلى 5 أضعاف، ما يعني تلقائياً تضاعف احتمالات الجلطات القلبية والدماغية وما قد تخلّفه من عواقب مميتة.
لم يكن هذا الارتباط جلياً في البداية؛ ففي خمسينيات القرن الماضي انطلقت أولى الدراسات الواسعة في الولايات المتحدة، مثل "دراسة فرامنجهام للقلب"، التي تابعت آلاف الأفراد المشاركين على مدى عقود. وأثبتت هذه الدراسات بشكل قاطع أن النظام الغذائي غير الصحي، والوزن الزائد، وقلة النشاط البدني، والتدخين، هي العوامل الأساسية المسببة لأمراض القلب.
وفي القرن الحادي والعشرين، تحولت السمنة إلى ما تصفه منظمة الصحة العالمية بـ"الوباء غير المعدي الأسرع انتشاراً في تاريخ البشرية"، وتشير الأرقام إلى أن أكثر من 1.9 مليار بالغ حول العالم يعانون من زيادة في الوزن، بينهم 650 مليوناً مصابون بالسمنة المفرطة.
فيما تشير التوقعات إلى أنه بحلول عام 2030 سيعاني واحد من كل 5 بالغين على مستوى العالم من السمنة، بما يحمله ذلك من أعباء صحية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
أدوية السمنة
شهد العقد الأخير تحولاً ملحوظاً في مجال علاج السمنة، مع بروز أدوية من فئة "ناهضات مستقبلات الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1" (GLP-1RA)، ورغم أن هذه الفئة طورت أساساً لعلاج مرض السكري من النوع الثاني، فإن فاعليتها في إنقاص الوزن دفعت الأوساط الطبية إلى اعتمادها كخيار دوائي رئيسي لإدارة السمنة.
يفرز هرمون GLP-1 طبيعياً في الأمعاء بعد تناول الطعام، ويؤدي عدة وظائف؛ من بينها تحفيز إفراز الإنسولين عند ارتفاع الجلوكوز في الدم، وتقليل إفراز الجلوكاجون، وإبطاء إفراغ المعدة بما يعزز الإحساس بالشبع، والتأثير على مراكز الشهية في الدماغ لتقليل الرغبة في الأكل.
وقد صممت الأدوية الحديثة، مثل "ليراجلوتايد" و"سيماجلوتايد" لمحاكاة هذا الهرمون، وأثبتت أنها تساعد على إنقاص الوزن حتى لدى المصابين بالسمنة غير المصحوبة بالسكري.
جرى اعتماد "ليراجلوتايد" بجرعة يومية تبلغ 3 مليجرامات كعلاج دوائي للسمنة، وأظهرت التجارب السريرية أن المرضى الذين استخدموه فقدوا ما بين 5% إلى 10% من وزنهم خلال عام واحد، ويُعطى الدواء عن طريق الحقن تحت الجلد بشكل يومي، وهو ما جعله من أوائل الأدوية التي فتحت الباب أمام نهج جديد في علاج السمنة.
رغم أن فقدان الوزن بحد ذاته يُمثّل إنجازاً مهماً، إلا أن الأهداف العلاجية الأوسع تتمثل في تقليل المضاعفات القلبية الوعائية المرتبطة بالسمنة، وقد أظهرت بعض الدراسات السابقة أن هذه الأدوية تقلل من خطر حدوث الأزمات القلبية والسكتات الدماغية لدى مرضى السكري، لكن دورها المباشر في إبطاء تطور تصلب الشرايين لم يكن واضحاً قبل الدراسة الدنماركية الأخيرة.
وشهدت أوروبا والولايات المتحدة ارتفاعاً كبيراً في وصْف تلك الأدوية خلال السنوات الخمس الماضية، حتى أصبحت في صميم النقاشات الطبية حول أفضل طرق علاج السمنة، ورغم ما تحققه من نتائج ملموسة تفوق الوسائل التقليدية، فإن تكلفتها المرتفعة وضرورة الحقن المستمر يشكلان عقبتين رئيسيتين أمام انتشارها على نطاق أوسع.
ممارسة الرياضة
منذ عقود، أوصت المنظمات الصحية العالمية بممارسة 150 دقيقة أسبوعياً على الأقل من النشاط البدني المعتدل إلى الشديد للحفاظ على الصحة العامة. لكن الأبحاث الحديثة أثبتت أن تأثير الرياضة يتجاوز بكثير مجرد تحسين اللياقة أو حرق السعرات الحرارية، إذ تعمل على إعادة تنظيم أنظمة الجسم الحيوية بشكل شامل، ما يجعلها أشبه بدواء طبيعي شامل التأثير.
ويساعد النشاط البدني المنتظم في تثبيت الوزن المفقود بعد الحميات الغذائية، ويزيد من معدل الأيض الأساسي، أي عدد السعرات التي يحرقها الجسم في حالة الراحة، كما يحافظ على الكتلة العضلية، الأمر الذي يحد من سرعة استعادة الوزن المفقود، ويعزز القدرة على التحكم في السمنة على المدى الطويل.
كما تُحسّن الرياضة وظيفة البطانة الوعائية، وهي الطبقة الداخلية المسؤولة عن انقباض وانبساط الشرايين وتقلل من مستويات الجزيئات الالتصاقية التي ترتبط ببدء تصلب الشرايين، وتزيد من إنتاج أكسيد النيتريك الذي يساهم في توسيع الأوعية الدموية وتحسين تدفق الدم وتقلل من إفراز مواد التهابية المرتبطة بالسمنة وتصلب الشرايين، وفي الوقت نفسه تعزز إنتاج السيتوكينات المضادة للالتهاب، ما يخلق توازناً بيولوجياً يحمي الأنسجة من التلف.
وتُحسّن ممارسة النشاط البدني بانتظام اللياقة القلبية التنفسية، التي تُعد مؤشراً أقوى من الوزن نفسه على صحة القلب وطول العمر. كما تعزز حساسية الجسم للإنسولين، مما يقلل من خطر الإصابة بالسكري من النوع الثاني، وتساعد أيضاً على خفْض مستويات الدهون الثلاثية وزيادة الكوليسترول النافع.
وأكدت مراجعة شملت 23 دراسة، أن التمارين الرياضية المنتظمة تقلل معدل الوفيات الكلية بنسبة تقارب 30%، كما أظهرت دراسة أخرى أن الأشخاص الذين يتمتعون بلياقة متوسطة إلى عالية يعيشون ما بين 4 إلى 6 سنوات أطول من غير النشطين بدنياً.
ورغم وضوح هذه الفوائد، يبقى الالتزام بممارسة الرياضة هو العقبة الكبرى، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من ثلث البالغين في العالم لا يحققون الحد الأدنى من النشاط البدني الموصى به، ما يفتح الباب أمام استمرار مضاعفات السمنة، وزيادة معدلات أمراض القلب والأوعية الدموية.
في هذه الدراسة، ركّز فريق بحثي من جامعة كوبنهاجن على سؤال محوري: بعد فقدان الوزن، أيهما أكثر فاعلية في تقليل تطور تصلب الشرايين لدى البالغين المصابين بالسمنة دون الإصابة بمرض السكري، ممارسة التمارين المنتظمة، أم استخدام عقار ليراجلوتايد؟
أُجريت التجربة بصيغة عشوائية مضبوطة بالدواء الوهمي، وشملت 215 مشاركاً تتراوح أعمارهم بين 18 و65 عاماً، وكانت نسبة النساء بينهم 63%، وعانى جميع المشاركين من السمنة بمؤشر كتلة جسم يتراوح بين 32 و43 كيلوجراماً/متر مربع، لكنهم لم يكونوا مصابين بالسكري، أو بأمراض مزمنة خطيرة أخرى عند بداية الدراسة.
تجربة سريرية
في البداية، خضع جميع المشاركين لنظام غذائي منخفض السعرات بمعدل 800 سعرة حرارية يومياً لمدة 8 أسابيع، اعتماداً على "خطة كامبريدج الغذائية"، وفقد 195 شخصاً على الأقل 5% من وزنهم، بمعدل يعادل 12% من وزن الجسم أو نحو 13.1 كيلوجرام، وهؤلاء هم الذين استمروا إلى المرحلة الثانية.
بعد النجاح في إنقاص الوزن خلال المرحلة الأولى من التجربة، انتقل المشاركون إلى المرحلة الثانية التي استمرت لمدة عام كامل، حيث تم تقسيمهم بشكل عشوائي إلى 4 مجموعات مختلفة لتقييم الاستراتيجيات المتبعة في الحفاظ على الوزن المفقود.
المجموعة الأولى التزمت بالتمارين البدنية فقط، بواقع 150 دقيقة أسبوعياً من النشاط البدني المتوسط إلى الشديد، مع تناول دواء وهمي.
فيما اعتمدت المجموعة الثانية على العلاج الدوائي فقط عبر تناول عقار ليراجلوتايد بجرعة 3.0 ملج يومياً.
أما المجموعة الثالثة فجمعت بين التمارين المنتظمة والعلاج بتناول عقار ليراجلوتايد.
بينما شكلت المجموعة الرابعة "المجموعة الضابطة"، حيث تلقّت دواءً وهمياً فقط دون ممارسة برنامج رياضي أو علاج دوائي فعلي.
ولم يقتصر الباحثون على متابعة الوزن وحده، بل ركزوا على مؤشرات بيولوجية دقيقة مرتبطة مباشرة بتطور تصلب الشرايين، تضمنت مستويات الالتهاب مثل الإنترلوكين-6 والإنترفيرون-جاما، إضافة إلى تقييم وظيفة البطانة الوعائية عبر قياس مستويات جزيئات الالتصاق.
كما تم إجراء فحص بالموجات فوق الصوتية لقياس سماكة البطانة-الوسطى للشريان السباتي، وهو مؤشر عالمي معتمد للكشف المبكر عن التغيرات المرتبطة بتصلب الشرايين.
واستمرت المتابعة لمدة عام كامل بعد فقدان الوزن الأولي، وخلال هذه الفترة، أجريت القياسات في ثلاث نقاط زمنية أساسية، مع بداية الحمية منخفضة السعرات، وبداية مرحلة الحفاظ على الوزن، ونهاية فترة العام المخصصة للتجربة، وقد سمح هذا التصميم للباحثين بتتبع التغيرات بدقة وتحديد تأثير كل استراتيجية على الوزن وصحة الأوعية الدموية والالتهاب على المدى الطويل.
بعد عام كامل من المتابعة، تمكنت المجموعات الثلاث؛ الرياضة فقط، والدواء فقط، والدواء مع الرياضة، جميعها من الحفاظ على الوزن المفقود بعد الحمية منخفضة السعرات، وهذا يؤكد أن كلاً من التمارين المنتظمة وعقار ليراجلوتايد يساهمان بفاعلية في منع استعادة الوزن.
وعند تحليل المؤشرات الالتهابية، ظهر أن المشاركين الذين مارسوا الرياضة -سواء مع تناول الدواء أو بدونه- سجلوا انخفاضاً ملحوظاً في مستويات الالتهاب، فقد انخفض متوسط مستوى الإنترلوكين-6 بنسبة 21%، كما تراجع متوسط مستوى الإنترفيرون-جاما بنسبة 27%. في المقابل، لم تظهر مجموعة الدواء فقط أي تغيّر يُذكر مقارنة بالمجموعة الضابطة.
وأظهرت التمارين الرياضية أثراً إيجابياً واضحاً على مؤشرات صحة البطانة الوعائية، فقد انخفض مستوى جزيء الالتصاق الوعائي بنسبة 6%، وجزيء الالتصاق بين الخلايا بنسبة 8%، بينما انخفض مستوى منشط البلاسمين النسيجي بنسبة 12%. أما مجموعة الدواء فقط، فلم تسجّل لديها فروق إحصائية ذات دلالة مقارنة بالدواء الوهمي.
وأثبتت نتائج الفحص بالموجات فوق الصوتية أن التمارين البدنية ساهمت في تقليل سماكة جدار الشريان السباتي بمعدل -0.024 ملم، وهو ما يعكس تباطؤاً في تطور تصلب الشرايين. في المقابل، لم تظهر مجموعة الدواء فقط أي تغيّر ملحوظ في هذا المؤشر.
وحققت المجموعة التي جمعت بين ليراجلوتايد والتمارين الرياضية نتائج مشابهة تماماً لمجموعة الرياضة فقط، ولم تقدم أي تفوق إضافي يمكن نسبه إلى الدواء، ويشير هذا إلى أن العامل الأكثر تأثيراً في هذه الدراسة كان ممارسة الرياضة.
وأكدت البيانات أن الرياضة وعقار ليراجلوتايد ينجحان في الحفاظ على الوزن بعد إنقاصه، لكن الرياضة تميزت بقدرتها على خفض مؤشرات الالتهاب، وتحسين وظيفة البطانة الوعائية، وتقليل سماكة الشرايين، بينما لم يظهر ليراجلوتايد أي تأثير إضافي يُذكر على المؤشرات الحيوية المرتبطة بتصلب الشرايين.