الحليب غير المبستر يزيد خطر انتقال البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية

فتاة تمشي مع بقرة تملكها عائلتها في إسلام آباد بباكستان. 13 مايو 2023 - Reuters
فتاة تمشي مع بقرة تملكها عائلتها في إسلام آباد بباكستان. 13 مايو 2023 - Reuters
القاهرة -محمد منصور

ذكرت دراسة علمية أن حليب الأبقار والأغنام الخام يحتوي على نسب مرتفعة من البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، ما يشكّل خطراً على صحة الإنسان والحيوان على حد سواء.

وأوضحت الدراسة، التي نُشرت في دورية Plos One العلمية، أن نحو نصف السلالات المعزولة من بكتيريا "ستافيلوكوكوس إيبيدرميديس" (Staphylococcus Aureus) - وهي بكتيريا شائعة في حليب الأبقار - أظهرت مقاومة لعدة أنواع من المضادات الحيوية، فيما كانت الغالبية العظمى منها مقاومة للبنسلين والإريثرومايسين، وهما من أكثر الأدوية استخداماً في علاج العدوى الحيوانية والبشرية.

وكشفت الدراسة، التي قادها الباحث طاهر عثمان من جامعة "عبد الولي خان" في مدينة مردان الباكستانية، أن أكثر من 95% من الحليب في باكستان يُستهلك في صورته الخام دون بسترة، أي دون تعريضه لحرارة كافية للقضاء على البكتيريا الضارة.

وأكد الباحثون أن هذا النمط من الاستهلاك يجعل الحليب عُرضة للتلوث أثناء الحلب أو النقل، أو من خلال إصابة ضرع الحيوان بما يُعرف بـ"التهاب الضرع تحت السريري"، وهو نوع من الالتهاب لا تظهر له أعراض واضحة، لكنه يضعف جودة الحليب، ويجعله ناقلاً للبكتيريا.

خطر الانتقال

وأوضح الفريق العلمي أن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية لعلاج هذا النوع من الالتهابات أدى إلى ظهور سلالات مقاومة للعلاج التقليدي، يمكن أن تنتقل بسهولة إلى البشر عبر استهلاك الحليب الخام.

وأكد الباحثون أن هذه الظاهرة تمثّل تحدياً خطيراً، لأنها تربط مباشرة بين ممارسات الاستخدام المفرط للأدوية في المزارع وخطر انتقال مقاومة المضادات الحيوية إلى السلسلة الغذائية.

ونفّذ الباحثون الدراسة على 310 عينة من الحليب الخام، نصفها تقريباً من الأبقار والنصف الآخر من الأغنام، في أنظمة تربية مختلفة شملت القطعان الرحل والمزارع المستقرة.

وأظهرت التحاليل أن نحو 26% من العينات كانت مصابة بالتهاب الضرع تحت السريري، وكانت النسبة أعلى في الأغنام (31.3%) مقارنة بالأبقار (21.8%)، وداخل سلالات الأبقار نفسها، كانت الإصابة أكثر انتشاراً بين أبقار "تشوليستاني" المحلية بنسبة 40%، مقارنة بسلالة "هولستين فريزيان" المستوردة التي بلغت إصابتها 17.6%.

كما أظهرت الفحوص أن بكتيريا "ستافيلوكوكوس إيبيدرميديس" وُجدت في نحو 12.9% من العينات، أي في أكثر من عينة من كل ثماني عينات. وبيّنت النتائج أن 72.5% من هذه البكتيريا جاءت من حالات الضرع الملتهب، ما يوضح ارتباطها المباشر بانخفاض جودة الحليب وتلوثه.

وأكد الباحثون أن هذا النوع من البكتيريا، رغم كونه طبيعياً في جلد الإنسان والحيوان، يمكن أن يتحول إلى مسبب للأمراض عندما يدخل الجسم، أو يختلط بالأنسجة الداخلية.

جينات مسؤولة

وأظهرت الاختبارات المخبرية لمقاومة المضادات الحيوية أن 95% من السلالات المعزولة كانت مقاومة للبنسلين والإريثرومايسين، فيما أبدت مقاومة متوسطة لأدوية أخرى مثل الكوتريموكسازول، والدوكسيسيكلين، والكليندامايسين، والكلورامفينيكول، بينما كانت معدلات المقاومة منخفضة لأدوية الليفوفلوكساسين والسيبروفلوكساسين بنسبة 5% فقط. وكشف التحليل أن نصف السلالات المعزولة تقريباً كانت متعددة المقاومة، أي غير قابلة للعلاج بثلاثة أنواع أو أكثر من المضادات الحيوية الشائعة.

وحلل الباحثون أيضاً الجينات المسؤولة عن المقاومة داخل هذه البكتيريا، ووجدوا أن جين ermC كان الأكثر انتشاراً بنسبة 87.5%، يليه جين tetK بنسبة 80%، ثم جين mecA بنسبة 45%.

وأوضح الفريق البحثي أن وجود هذه الجينات يعزز قدرة البكتيريا على البقاء في بيئات مليئة بالمضادات الحيوية، ويجعلها أكثر قدرة على نقل صفات المقاومة إلى بكتيريا أخرى، بما في ذلك الأنواع الأكثر خطورة مثل "ستافيلوكوكوس أوريوس" المقاومة للميثيسيلين والمعروفة اختصاراً بـ MRSA.

وأشار الباحثون إلى أن هذه النتائج تكشف حجم الخطر الكامن في استهلاك الحليب الخام دون معالجة حرارية، إذ يمكن أن يشكل وسيلة لنقل البكتيريا المقاومة إلى جسم الإنسان، بما في ذلك الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي المناعة الضعيفة. وشددوا على أن استمرار هذه الممارسات قد يسهم في تعزيز انتشار مقاومة المضادات الحيوية على نطاق أوسع، وهي واحدة من أكبر التحديات الصحية العالمية في الوقت الراهن.

وأكدت الدراسة أن الحليب، رغم كونه غذاء أساسياً غنياً بالبروتينات والدهون والمعادن، يمكن أن يتحول إلى ناقل للأمراض إذا لم ينتج ويعالج بطريقة آمنة.، موضحة أن التلوث الميكروبي يمثّل أخطر أشكال التلوث في منتجات الألبان، إذ ينتج عن ممارسات الحلب غير النظيفة أو عن استخدام الأدوية بشكل مفرط لعلاج الالتهابات الحيوانية.

وأضاف الباحثون أن التهاب الضرع تحت السريري يمثّل أكثر العوامل البيولوجية شيوعاً في تدهور جودة الحليب، إذ يسبب زيادة في أعداد الخلايا الجسدية داخل الحليب ويغير مكوناته الكيميائية.

قضية ملحة

ونبّهت النتائج إلى أن بكتيريا "ستافيلوكوكوس إيبيدرميديس"، وهي من البكتيريا موجبة الجرام وغير المنتجة لإنزيم التخثر، تُعد واحدة من 135 عاملاً معروفاً يسبب التهاب الضرع في الأبقار والأغنام، لكنها اكتسبت أهمية متزايدة بسبب مقاومتها المتنامية للأدوية. وبيّنت الدراسة أن الإفراط في استخدام المضادات الحيوية دون وصفات دقيقة أو مراقبة بيطرية صارمة ساهم في ظهور سلالات شديدة المقاومة، ما يهدد فاعلية العلاجات المستقبلية، ويقوّض الأمن الغذائي.

وشدد الفريق البحثي على أن إدارة المضادات الحيوية في قطاع الألبان تمثّل قضية ملحّة، إذ أن الإفراط في استخدامها في المزارع لا يؤثر فقط على الحيوانات، بل ينعكس مباشرة على صحة المستهلكين.

وقال الباحثون إن نتائجهم تثبت أن الاستخدام غير المسؤول للمضادات الحيوية في المزارع يخلق بيئة مثالية لنشوء البكتيريا المقاومة، وأن هذه البكتيريا يمكن أن تنتقل عبر الغذاء، وتصبح جزءاً من سلسلة مقاومة عالمية تهدد فاعلية الطب الحديث.

وحذّر الباحث طاهر عثمان من أن مقاومة المضادات الحيوية لم تعد مشكلة معزولة في المستشفيات فقط، بل أصبحت جزءاً من النظام الزراعي والغذائي، مؤكداً أن الممارسات الزراعية غير المنضبطة يمكن أن تحوّل المزارع إلى خزانات لنشر العدوى المقاومة.

وأوضح أن الدراسة تسلط الضوء على الصلة الوثيقة بين صحة الحيوان والإنسان والبيئة، وهي ما يُعرف بمفهوم "صحة واحدة" الذي يدعو إلى تكامل الجهود في مكافحة الأمراض المشتركة بين الأنواع.

ودعا الفريق البحثي إلى تطبيق معايير أكثر صرامة في مراقبة إنتاج الألبان، وتشجيع البسترة الإلزامية للحليب الموجّه للاستهلاك البشري، وتحسين مستوى النظافة في عمليات الحلب والنقل والتخزين.

كما شدد على ضرورة وضع سياسات واضحة لتنظيم استخدام المضادات الحيوية في المزارع، وتبنّي برامج توعية للمزارعين حول مخاطر الإفراط في العلاج العشوائي للحيوانات.

وأكد الباحثون أيضاً أن نتائجهم لا تقتصر على باكستان وحدها، بل يمكن أن تكون مؤشراً لمشكلة أوسع في الدول التي تعتمد على استهلاك الحليب الخام.، موضحين أن مقاومة المضادات الحيوية في المنتجات الحيوانية تمثّل تهديداً عالمياً قد يؤدي إلى ظهور أمراض يصعب علاجها في البشر، إذا لم تتخذ إجراءات عاجلة لتقليل الاستخدام غير المبرر للأدوية في الزراعة.

وبيّنت الدراسة كذلك أن مواجهة هذا التحدي تتطلب تعاوناً متعدد المستويات، يجمع بين الأطباء البيطريين والمزارعين والسلطات الصحية وصناع السياسات، لضمان إنتاج غذاء آمن ومستدام.

ولفت الفريق البحثي إلى أن تحسين ممارسات النظافة في الحلب والتخزين، والاعتماد على تشخيص دقيق قبل وصف الأدوية، يمكن أن يقلل من انتشار العدوى، ومن الحاجة المفرطة للمضادات الحيوية.

واختتم الباحثون دراستهم بالتأكيد على أن وجود بكتيريا مقاومة للأدوية في الحليب الخام ليس مجرد مشكلة بيطرية، بل قضية صحية عامة تمس الجميع، مشيرين إلى أن اعتماد الزراعة المسؤولة والممارسات الوقائية هو الطريق الوحيد للحد من هذا الخطر المتزايد، وأن الحليب الآمن يبدأ من المزرعة، وأن مسؤولية الحفاظ على جودته تقع على عاتق المنتجين والمستهلكين والجهات الرقابية معاً.

تصنيفات

قصص قد تهمك