أطفأت روسيا شمعة العام الثاني على ضمها 4 مناطق شرق وجنوب أوكرانيا إلى سيادتها، في وقت تنخرط البلاد في جبهات "مشتعلة"، وتمضي قدماً في تحقيق أهداف وضعها الكرملين في إطار ما تسميه موسكو بـ"العملية العسكرية الخاصة".
وذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن بلاده حاولت بعد عام 2014، تسوية النزاع في إقليم دونباس سلمياً، لكن الغرب اعتمد "نهج الكذب والخداع في المفاوضات"، على حد قوله.
وفي الفترة من 23 إلى 27 سبتمبر عام 2022، عُقدت استفتاءات حول تقرير المصير في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك ومنطقتي زابوروجيا وخيرسون. وبناء على نتائج معالجة 100% من الأصوات، صوت 99.23% من الناخبين في دونيتسك لصالح الانضمام إلى روسيا، وفي لوغانسك صوت 98.42%، وفي خيرسون فقد صوت 87.05%، في زابوروجيا صوت 93.11%.
وفي 30 سبتمبر عام 2022، في إحدى قاعات الكرملين في قلب موسكو، أقيم حفل لتوقيع اتفاقيات بشأن قبول هذه المناطق تحت سيادة الاتحاد الروسي. وهو الأمر الذي قوبل بتنديد وعدم اعتراف دولي مستمر حتى اليوم.
ومع استمرار الأعمال القتالية على جبهات مختلفة، قالت السلطات الروسية إنها تواصل أعمال إعادة الإعمار في المناطق الأربع في تلك الأجزاء البعيدة عن الخطوط الأمامية المشتعلة.
الربط مع البر الروسي
تعد برامج تنمية مناطق دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوروجيا أحد أهم الأولويات الوطنية لروسيا، بحسب الإدارة الروسية.
ومنذ عام 2022 تمت إعادة إعمار أكثر من 5 آلاف مبنى سكني وإصلاح 3.5 ألف كيلومتر من الطرق. كما جرى بناء وتجديد أكثر من 1500 منشأة في قطاع التعليم وحده، بما في ذلك 776 مدرسة، و633 روضة أطفال، و68 منشأة تعليمية إضافية، و56 منشأة للتعليم الثانوي المهني، و24 جامعة.
كما تتباهى موسكو بربط مقاطعة روستوف غربي البلاد بشبه جزيرة القرم براً، مروراً بدونيتسك وزابوروجيا وخيرسون.
الكاتب والباحث السياسي أندريه أونتيكوف اعتبر في حديث لـ"الشرق"، أن من أبرز إيجابيات ضم هذه المناطق الأربع هي بناء طريق يربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم، والذي لم يكن موجوداً قبل بدء العملية العسكرية".
وقال أنتيكوف إن ضم هذه المناطق ساهم في استخدام الطرق البرية لإيصال التعزيزات العسكرية وحل مشكلة المياه بالنسبة لسكان القرم، خصوصاً في ظل الاستهدافات الأوكرانية المتكررة لجسر كيرتش.
كما خصصت الحكومة الروسية حوالي 3.6 مليار روبل (أو ما يعادل 39 مليون دولار) لشراء معدات خاصة لاستعادة شبكات الكهرباء ومعدات لتشكيل احتياطيات الطوارئ في هذه المناطق. وتجاوز عدد المستفيدين من المعاشات التقاعدية الروسية في المناطق الجديدة 1.4 مليون.
التحدي المالي
وتوسعت رقعة القطاع المصرفي أكثر فأكثر في هذه المناطق، إذ تم افتتاح 545 فرعاً مصرفياً، بحسب نائب رئيس الوزراء مارات خوسولين.
وانخرطت موسكو في عملية الربط المالي والمصرفي في يونيو عام 2022، وكان حينها "بروم سفياز بنك" المصرف الروسي الأول الذي بدأ العمل في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
وبعد عامين أطلق المصرف الأكبر في روسيا "سبيربنك" عمل 26 فرعاً له إلى جانب 16 مكتباً منتقلاً مع إجمالي عدد أجهزة الصراف في دونيتسك ولوغانسك قدرت بـ45 على الأقل. ثم افتتح البنك "في تي بي"، فرعان له في لوغانسك. كما بدأ "بروم سفياز بنك" في استقبال العملاء في ماريوبول.
وتاريخياً تتمتع هذه المناطق بإمكانيات تنموية كبيرة، خاصة في قطاع الاقتصاد، بما في ذلك التعدين والهندسة الميكانيكية ومجمع الصناعات الزراعية. وهذا بدوره تلقائياً يعزز إمكانات روسيا بأكملها. وتعمل 160 مؤسسة صناعية على خلق أكثر من 11.5 ألف فرصة عمل.
وذكر المحلل الروسي أونتيكوف أن الحرب ستنتهي يوماً ما، ووجود هذه المناطق ضمن روسيا سيعزز اقتصادها، رغم أنها تشكل ثقلاً عليه في الوقت الراهن.
وشدد على أن المناطق التي شهدت معارك بحاجة لإعادة الإعمار، وهذا الأمر ينعكس بثقل على الميزانية والاقتصاد الروسيين.
واعتبر أن تداعيات الأعمال القتالية سيشعر بها المواطنون لفترة طويلة، وعلى الإدارة الروسية التعامل مع ذلك. إلى جانب الألغام التي سيصعب تفكيكها كلها".
"الحدود المزلزلة"
وألقت تداعيات تغير جغرافية أوكرانيا، والتي لم تتلق اعترافاً دولياً شاملاً بظلالها على الوضع في المقاطعات الروسية الحدودية معها. وعلى مدى العامين الأخيرين زادت عمليات استهداف شبه يومي لها، ولعل الأكثر تضرراً كانت ولا تزال بيلجورود، التي تم استهدافها بالصواريخ والمسيرات والقذائف.
وزاد الوضع في بيلجورود تعقيداً، حيث اخترقت القوات الأوكرانية حدود روسيا وتوغلت في مقاطعة كورسك، وتحاول التمركز فيها منذ السادس من أغسطس الماضي، ليواصل الجيش الروسي العمليات القتالية لاستعادة المنطقة.
واتخذت السلطات الروسية كذلك قراراً بفرض نظام "عملية مكافحة الإرهاب" في 3 مناطق هي كورسك وبريانسك وبيلجورود، فيما تواصل كييف بعناد شديد طلب الضوء الأخضر لضرب عمق روسيا بصواريخ بعيدة المدى وغربية الصنع والحصول على قدر أكبر من المساعدات العسكرية من الداعمين لها.
الكاتب والباحث السياسي أندريه أونتيكوف لفت إلى أن الأزمة الأوكرانية وضم هذه المناطق لسيادة روسيا ألقت بظلالها على الوضع في المناطق الحدودية الروسية.
وأردف أونتيكوف في هذا الصدد: "ضم هذه المناطق والأزمة الأوكرانية انعكست على المناطق الحدودية الروسية بما في ذلك كورسك وبيلجورود، كون أن المواطنين كانوا يعيشون في سلام. لكن في الوقت نفسه، يجب أن نستند إلى تصريحات الإدارة الروسية الرسمية، التي مفادها أنه لو لم تطلق روسيا عمليتها العسكرية، لشهدت المقاطعات الروسية أعمالاً قتالية على أراضيها، ربما أقدمت أوكرانيا على شن هجوم على روسيا".
"جبهات مشتعلة"
وتتواصل العمليات القتالية في عدة جبهات، فيما تواصل القوات الروسية زحفها لفرض سيطرتها على كامل أراضي هذه المناطق الأربع. كما تواصل قوات موسكو يومياً استهداف منشآت الطاقة التي تغذي مؤسسات المجمع الصناعي العسكري الأوكراني، بحسب الرواية الروسية، إلى جانب تدمير ورش إصلاح وقوافل محملة بأسلحة غربية تابعة لكييف وتدمير عشرات الدبابات والمدرعات والأسلحة الغربية الأخرى.
وعلى محور دونيتسك الأكثر توتراً، يواصل الجيش الروسي زحفه غرباً نحو مدينة بوكروفسك في جمهورية دونيتسك. مع تواصل معارك عنيفة في مدينة أوجليدار.
الخبير السياسي والاستراتيجي الدكتور رولاند بيدجاموف، يعتبر أن القوات الروسية تواصل عملياتها القتالية بوتيرة عقلانية في المناطق المنضمة إلى جانب مقاطعة كورسك الروسية من جهة، ومن جهة أخرى تواصل برامج إعادة إعمار وتطوير المناطق.
وقال بيدجاموف لـ"الشرق": "تواصل روسيا عملياتها بوتيرة عقلانية والتقدم متواصل بطريقة بطيئة، لكن اللافت أن الأمور تسير دون الإعلان عن موجة جديدة من التعبئة، رغم الحديث عن وجود إمكانية للإعلان عن ذلك. كذلك تصد روسيا بنجاح التوغل الأوكراني في كورسك، والهجمات الأوكرانية بالمسيرات.
"الهاوية النووية"
ومع زيادة وتيرة تصعيد الصراع الأوكراني وانخراط حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيه، بحسب التأكيد الرسمي الروسي، إلى جانب توسعه قرب حدودها وخطط لظهور بنى تحتية جديدة تابعة له، أقبلت موسكو على خطوة جديدة تتمثل في تعديل عقيدتها النووية.
واعتبرت موسكو أن "عدوان أي دولة غير نووية عليها بمشاركة أو دعم دولة نووية يعتبر هجوماً لهما على روسيا، إضافة إلى احتفاظها بالحق في استخدام الأسلحة النووية في حالة العدوان على جارتها وشريكتها الاستراتيجية بيلاروس، ومروراً بتوسيع فئة الدول والتحالفات العسكرية التي تتخذ تجاهها إجراءات الردع النووي في مسودة العقيدة النووية الروسية المحدثة، إلى جانب حال حصول موسكو على معلومات موثوقة بشأن إطلاق وسائل الهجوم الجوي باتجاه روسيا ستؤدي إلى رد نووي وبنود أخرى".
وهي التعديلات التي شكلت رسالة للدول الغربية، كون أن الاجتماع حول الردع النووي عقد علناً للمرة الأولى.
وهو ما أكده الكرملين على لسان الناطق باسمه دميتري بيسكوف أن هذا الأمر إشارة للدول الغربية تحذر من العواقب في حال شاركت في الهجوم على روسيا، فيما اعتبرت الخبيرة السياسية يلينا سوبونينا، أن الأمور لن تصل إلى استخدام السلاح النووي.
وأضافت سوبونينا لـ"الشرق": "لن تصل الأمور إلى اندلاع حرب نووية. ولهذا السبب تدخل روسيا تعديلات على عقيدتها النووية. هناك شعور بأن الغرب لا يخشى من الخطوط الروسية الحمراء، لكن بعد الإعلان عن إدخال عدد من التعديلات بدأ الغرب يستوعب الوضع، وأن الخطر في نشوب أزمة نووية محدودة موجودة. ليس باستخدام بصواريخ بعيدة المدى، بل باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، وهذا الخيار كبير. لكن بعد التعديلات، برأي المخاطر ستتقلص، كون أن روسيا أطلقت العنان، وعلى سبيل المثال بإمكانها استخدام هذه الأسلحة في حال الهجوم عليها حتى لو بأسلحة تقليدية تهدد سيادتها، كما أنها تستطيع حماية جارتها بيلاروس".
وبهذه التعديلات التي أعلنتها موسكو على عقيدتها النووية، بدأت الدول الغربية استيعاب الرسالة الروسية، وأن موسكو جادة. وعدم إسراع واشنطن في السماح لكييف بضرب العمق الروسي أكبر دليل على ذلك، وفقاً لسوبونينا التي تضيف: "التحركات الروسية هذه أثارت ردود فعل دولية، حيث وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين قرار موسكو تعديل عقيدتها النووية وجعلها تتماشى مع الواقع الجديد، بالخطوة (غير المسؤولة)، زاعماً أنها "ستأتي بنتائج سيئة".
بدوره، أعلن الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي "الناتو" ينس ستولتنبرج، أن الحلف لم يلحظ أية تغييرات في العقيدة النووية الروسية تتطلب إجراء تغيير في سياسة الناتو بهذا الصدد. داعيا أعضاء هذا التكتل العسكري إلى مواصلة تقديم المساعدة إلى كييف، وعدم الاستسلام لـ"الخطاب النووي" المزعوم الصادر عن القوات الروسية.