كانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تستعد لانسحاب هادئ من الحياة السياسية بعد 4 ولايات في الحكم، شهد آخرها خيبات كثيرة. ثم حلّ فيروس "كورونا" المستجد، فأعادها مجدداً إلى الواجهة، خصوصاً نتيجة تعاملها السلس مع الأزمة.
تحتل ألمانيا المرتبة الثامنة في العالم من حيث عدد الإصابات بالفيروس (178534)، ولكن الوفيات ضئيلة نسبياً (8279) ولا تُقارَن بما في دول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، ناهيك عن الولايات المتحدة.
وشرح وزير الصحة الألماني ينس شبان كيف كبحت بلاده الجائحة، وكتب في موقع "برودجيكت سينديكيت" أن هناك 3 أسباب أتاحت ذلك، أولها "النظام الجيد للرعاية الصحية في ألمانيا"، مستدركاً أنه "بُـني خلال حكومات سابقة كثيرة".
تمثلت النقطة الثانية في أن ألمانيا "لم تكن الدولة الأولى التي يجتاحها الفيروس، وبالتالي كان لديها الوقت الكافي للاستعداد". وأشار ثالثاً إلى وجود مختبرات كثيرة في ألمانيا و"باحثين متميزين"، معتبراً أن ذلك جعلها تطوّر "أول اختبار سريع لكورونا".
ورأى شبان أن ألمانيا التي لم تفرض حظر تجوّل عام "نجحت في إبطاء انتشار الفيروس لأن الغالبية العظمى من مواطنيها يريدون التعاون، انطلاقاً من شعورهم بالمسؤولية عن أنفسهم والآخرين"، محذراً من "خطر حدوث موجة ثانية من الوباء".
"مهمة تاريخية"
ميركل، المتخصصة في الكيمياء، تعاملت مع الأزمة بطريقة علمية، ولم تصف الفيروس بأنه "عدو" أو تعتبر أن بلادها تواجه "حرباً"، كما فعل زعماء آخرون.
في خطابها الرئيسي الأول حول الأزمة، في 18 مارس الماضي، تحدثت ميركل عن "مهمة تاريخية" و"تحدٍ ضخم". وبعد شهر على ذلك، لم تبدّل نبرتها، إذ قالت أمام البرلمان الألماني في 23 أبريل إن الوضع يشكّل "اختباراً جدياً" و"أزمة دراماتيكية".
الحكومة الألمانية خفّفت الشهر الماضي التدابير المتخذة لمكافحة "كورونا"، ولكن ميركل تواجه تحدياً مزدوجاً من حكام المقاطعات الـ16 في البلاد الذين يستعجل بعضهم إجراءات تتمهّل السلطات في تنفيذها، ومن مواطنين تظاهروا بالآلاف في الأسابيع الأخيرة، مطالبين باستعادة "حريتهم" واستئناف أعمالهم، واعتقلت الشرطة عشرات منهم.
وأعربت المستشارة عن "تفهّمها مخاوف" المحتجين، مستدركة بوجوب "الامتناع عن المجازفة بما حققناه". وأضافت أمام البرلمان: "دعونا نكُن شجعاناً ويقظين"، علماً أن صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" اتهمت حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف باستغلال التظاهرات سياسياً.
انكماش الاقتصاد الألماني
نجاح الحكومة في كبح "كورونا" لم يمنع انكماش الاقتصاد الألماني بنسبة 2.2% في الربع الأول من العام، وفق أرقام رسمية. كما أن الصادرات تراجعت بنسبة 11.8%، مسجلة أبرز انخفاض منذ توحيد ألمانيا عام 1990.
أما رئيس غرف الصناعة والتجارة في ألمانيا إريك شفايتزر فرجّح أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 10% على الأقل هذا العام، متحدثاً عن "تراجع تاريخي". ورأى أن "الشركات الألمانية تواجه أضخم تحدٍ لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
في السياق ذاته، أعلنت وزارة المال أن الإيرادات الضريبية للحكومة الألمانية والمقاطعات الاتحادية الـ16 تراجعت بنسبة 25.3% في أبريل إلى نحو 39 مليار يورو، نتيجة الفيروس. ورجحت السلطات ألا تتجاوز العائدات الضريبية هذا العام 717.8 مليار يورو، بعدما بلغت 779.3 مليار عام 2019.
وأفادت وكالة "رويترز" بأن "أضخم اقتصاد في أوروبا يواجه كساداً هو الأقسى منذ الحرب العالمية الثانية"، علماً أن وزير المال أولاف شولتز شدد على أن انخفاض الإيرادات الضريبية لن يمنع الحكومة من تقديم حزمة تحفيز أولية لمساعدة الشركات على التعافي من الأزمة، تتجاوز قيمتها 750 مليار يورو، جعلت الحكومة تقترض للمرة الأولى منذ عام 2013.
استقالة "خليفة" المستشارة
على الرغم من هذه الأرقام المتشائمة، قد يكون من حظ الألمان أن ميركل أدارت الدفة خلال محنة "كورونا"، لما تميّزت به من حكمة، قبل الانتخابات النيابية المرتقبة في خريف 2021.
وكانت وزيرة الدفاع أنيغريت كرامب-كارنباور استقالت من زعامة حزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الحاكم، بعدما خلفت ميركل في المنصب عام 2018، إثر مشكلات في الحزب الذي استعاد، مع حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" الشقيق في ولاية بافاريا، بعضاً من شعبية متآكلة في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد أزمة المهاجرين إلى ألمانيا عام 2015.
نجاح ميركل في التصدي لـ"كورونا" لا يعني أنها لا تواجه تحديات كثيرة، بينها زعماء المقاطعات الذين يرفضون الانصياع لكثير من تعليماتها في شأن الفيروس، علماً أن صلاحياتهم واسعة في هذا الصدد. وبعضهم يطمح إلى خلافة المستشارة، مثل رئيس مقاطعة بافاريا ماركوس سودر، وهو قيادي في حزب "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" يُعتبر شخصية صاعدة في المشهد السياسي الألماني.
ولم تقتصر "حكمة" ميركل على الداخل الألماني، بل طاولت دول الاتحاد الأوروبي، بعدما اقترحت مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطة تحفيز اقتصادية قيمتها 500 مليار يورو، فاجأت القارة، إذ تشكّل تحوّلاً في موقف برلين الرافض مبدئياً لتقاسم عبء الاستدانة مع دول أخرى، لا سيما في جنوب أوروبا.
"متلازمة ما بعد ميركل"
وكانت مجلة "ذي إيكونوميست" تحدثت عن "متلازمة ما بعد ميركل"، معتبرة أن تعهدها التنحّي في خريف 2021 "أحدث فراغاً في الحكم" في ألمانيا.
أما جودي ديمبسي من "معهد كارنيغي أوروبا"، فكتبت أن المستشارة التي "اعتُبرت بطّة عرجاء في يناير 2020" تجاوزت عراقيل كثيرة في مواجهة "كورونا"، بينها تعقيد النظام الفيدرالي المطبّق في ألمانيا، مشيدة باعتمادها على خبراء، وخصوصاً "معهد روبرت كوخ".
واستدركت معتبرة أن ألمانيا "تفتقر إلى استراتيجية متماسكة" في السياسة الدولية، لافتة إلى أن ميركل "لم تصغ أفكاراً حول كيفية إعادة تشكيل العلاقات عبر الأطلسي (في إشارة إلى الولايات المتحدة)، أو التعامل مع النفوذ العالمي المتزايد للصين".