حماية أقليات سوريا الدينية.. قلق يتجدد بعد تفجير "مار إلياس" في دمشق

مشيعون خلال جنازة ضحايا التفجير الانتحاري الذي طال كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة السورية دمشق. 24 يونيو 2025 - Reuters
مشيعون خلال جنازة ضحايا التفجير الانتحاري الذي طال كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة السورية دمشق. 24 يونيو 2025 - Reuters
دبي -رامي زين الدين

جدد الهجوم الانتحاري الذي استهدف كنيسة في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق في 22 يونيو الماضي، والذي أودى بحياة وأصاب العشرات، الحديث عن مخاوف الأقليات الدينية في سوريا، فبينما تقول السلطات السورية إنها تفعل ما بوسعها لمواجهة الجماعات المتطرفة التي تُشكل تهديداً على السلم الأهلي، يُشكك البعض في جدية إجراءات الحكومة السورية، في ضوء استمرار حوادث الاعتداءات ذات الطابع الديني.

وسرعان ما أدانت الحكومة السورية التفجير الذي أودى بحياة 25 شخصاً وأصاب 60 آخرين على الأقل، وأصدر الرئيس السوري أحمد الشرع بيان تعزية لذوي الضحايا، متوعداً بملاحقة الجناة وتقديمهم للقضاء. 

بعد أقل من 24 ساعة من التفجير، استطاعت الأجهزة الأمنية السورية تحديد هوية الانتحاري واعتقال عدد من الأشخاص المتورطين في الهجوم، ومصادرة أسلحة وذخائر خلال مداهمات بريف دمشق، مشيرةً إلى أنهم ينتمون إلى تنظيم "داعش"، وقالت إن بعضهم كان في مخيم الهول شمال شرق سوريا الذي يضم سجناً لآلاف من عناصر التنظيم ومخيماً يضم عشرات الآلاف من عائلاتهم تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.

وكشفت وزارة الداخلية السورية، أن الجماعة المتشددة كانت تُخطط لتنفيذ تفجير في مقام السيدة زينب قرب دمشق.

ونشرت منصات محلية، تسجيلاً لمكالمة هاتفية بين الرئيس السوري أحمد الشرع، والوكيل البطريركي المطران رومانوس الحناة، أعرب خلالها الشرؤع عن تعازيه لضحايا التفجير الانتحاري، وتوعد بملاحقة الجناة ومحاسبتهم، وقال إن هناك "الكثير من الناس ينزعجون من الوحدة الوطنية في سوريا، ويسعون لتخريب هذه الأجواء".

وأعرب العديد من المسؤولين السوريين عن تعازيهم لضحايا الحادث، وزار بعضهم موقع التفجير والتقى ذوي الضحايا ورعايا الكنيسة.

المحامي السوري والناشط في مجال حقوق الانسان، ميشال شماس، اعتبر في تصريحات لـ"الشرق"، أن التعاطي السريع للسلطات السورية مع المخاطر الأمنية بعد تفجير الكنيسة يدل على أنها "تشعر بالخطر من انفلات الأمور في ظل وضع بالغ التعقيد"، خاصة أن "المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية لا تزال في طور إعادة الهيكلة، وهناك فجوات واضحة في التنسيق والضبط، وهو ما يفسر بعض مظاهر التقصير أو البطء في الاستجابة"، على حد وصفه. 

من هم "سرايا أنصار السنّة"؟

بينما لم يصدر حتى الآن أي بيان من "داعش" يتبنّى الهجوم، أعلنت جماعة تُطلق على نفسها "سرايا أنصار السنّة"، مسؤوليتها عن التفجير في كنيسة مار إلياس، وقالت في بيان نشرته عبر تليجرام، إن منفذ العملية هو أحد عناصرها ويدعى، محمد زين العابدين، معتبرةً أن الهجوم جاء "رداً على حظر السلطات للأنشطة التبشيرية"، في إشارة إلى حادثة سابقة شهدها الحي ذاته إثر إشكال وقع بين الأهالي.

وهدّدت الجماعة المتشددة بتنفيذ مزيد من الهجمات الانتحارية، وأعلنت ما وصفتها بـ"فتح باب التوبة" لمن يبادر قبل فوات الأوان، كما حذّرت الإدارة السورية الجديدة من عرقلة عملياتها. واعتبرت في بيان لاحق ممهور باسم، أبو سفيان الدمشقي، من "القسم الشرعي" للجماعة، أن نسب الهجوم لتنظيم "داعش" هو محاولة من الحكومة السورية لتقديم نفسها أمام الغرب والأميركيين بأنها "تحارب الإرهاب".

واتهمت جماعة "سرايا أنصار السنّة"، إدارة الشرع، بعدم الحكم وفق "الشريعة الإسلامية"، ووصفتها بـ"المرتدة".

وفي تحليل نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأقصى، أشار الباحث آرون زيلين المختص بقضايا الجماعات المتشددة، إلى أن جذور "سرايا أنصار السنة" تعود إلى ما قبل سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، عندما كانت تنتمي، كما يُزعم، إلى "هيئة تحرير الشام" وساعدت في تجنيد خلايا للعمل داخل الأراضي التي يسيطر عليها الأسد، لكن الجماعة انشقت عن الهيئة بسبب سياسة الأخيرة المتمثلة في الإفراج عن أفراد النظام الذين أُسروا خلال معركة "ردع العدوان" التي أطاحت بنظام الأسد في ديسمبر الماضي.

وفي أواخر يناير الماضي، بدأت الجماعة المتشددة رسمياً، الإعلان عن وجودها ككيان منفصل، معتمدة على ذراع إعلامي تُطلق عليه "مؤسسة دابق نيوز"، وتنشر بياناتها عادة عبر تليجرام، حيث تدير عدة قنوات على التطبيق.

هل الأقليات الدينية مهددة في سوريا؟

منذ أن أطاح تحالف لفصائل المعارضة السوية قادته هيئة تحرير الشام بنظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، شهدت بعض المناطق المسيحية في سوريا اعتداءات ومضايقات محدودة، لكنها قوبلت باستياء في الشارع السوري، وكانت أول حادثة بعد نحو أسبوعين من سقوط النظام، عندما تم إحراق شجرة عيد الميلاد في ساحة وسط مدينة السقيلبية بريف حماة، وقالت السلطات آنذاك، إن أحد المقاتلين الأجانب فعل ذلك، وتوعدت بمحاسبته ومنع تكرار مثل تلك الأفعال.

وشهدت الأشهر الماضية، تعرض بعض الكنائس لعمليات في عدة مناطق تخريب وإطلاق نار، دون وقوع ضحايا، كما شهدت أحياء ذات أغلبية مسيحية، ولا سيما في العاصمة دمشق، دخول سيارات دعوية تبث أناشيد دينية إسلامية، وهو ما أثار غضب السكان المحليين، وسبق أن طرد مجموعة من الأهالي، من بينهم مسيحيون ومسلمين "سيارة دعوية" دخلت حي الدويلعة نفسه الذي تعرض للهجوم الانتحاري مؤخراً.

رجال دين مسيحيون خلال جنازة ضحايا التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق- 24 يونيو 2025
رجال دين مسيحيون خلال جنازة ضحايا التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق. 24 يونيو 2025 - Reuters

ويعتقد الناشط الحقوقي، ميشيل شماس، أنه على السلطات السورية أن "تعترف بحدوث انتهاكات وتجاوزات فيما يتعلق بالتدخل في حياة الناس وفي مأكلهم ومشربهم وملبسهم، وأن تعترف بوجود تقصير سابق لم تتم معالجته"، مشيراً إلى أن "المطلوب هو أن تتبنى السلطات مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية، تشمل إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بما يضمن كفاءتها وحيادها، وتدريبها على رصد التهديدات ذات الطابع الطائفي قبل وقوعها، والانفتاح مع القوى المجتمعية، وإشراك وجهاء المناطق وممثلي الطوائف في رصد المؤشرات المبكرة للتوتر، وتأمين الكنائس والمساجد والمزارات عبر وحدات أمنية مدربة، وتجريم التحريض الطائفي في الإعلام والمنابر الدينية، وتطبيق القانون بحزم على من يروّج للكراهية، والكف عن التدخل في حياة الناس، ووضع حد للحملات الدعوية خاصة التي تطوف في المناطق غير المسلمة."

كما أكد أن تفجير كنيسة مار إلياس، يُشكل "جرس إنذار حقيقي بشأن المخاطر التي تهدد الأقليات والسلم الأهلي، في لحظات التحول السياسي والأمني الذي تمر به سوريا، خاصة وأن الوضع اليوم ما يزال هشاً وضعيفاً".

وأضاف شماس في تصريحاته لـ"الشرق" أنه "رغم التقدم الذي أحرزته السلطات السورية في استعادة السيطرة على مناطق واسعة بعد سقوط نظام الأسد، إلا هناك قوى مسلحة عديدة، منها محسوبة على النظام وأخرى على المجموعات المتطرفة، وبعض الفصائل غير المنضبطة، تحاول استغلال الثغرات الأمنية لإثارة الفوضى، والفتنة الطائفية من خلال استهداف الأقليات لإظهار السلطة بمظهر العاجز عن ضمان الأمن والأمان".

ولطالما أكد الشرع أن "الطوائف السورية تتعايش مع بعضها منذ مئات السنين، ولا يحق لأحد القضاء عليها"، متعهداً في أكثر من مناسبة أن كافة المكونات ستكون آمنة، كما قال لمسؤولين غربيين زاروا دمشق بعد سقوط نظام الأسد، إن الإدارة الجديدة "لن تسعى للانتقام، ولن تقمع أي أقلية دينية أخرى". 

تعازي "غير كافية"

رغم أهمية الاتصال الذي أجراه الشرع مع المطران رومانوس الحناة في تخفيف الاحتقان في الشارع المسيحي، إلا أن تجنّب الرئيس السوري وصف الضحايا بـ"الشهداء" أو الترحم عليهم، أثار تساؤلات بشأن النهج الذي تتعامل به الحكومة تجاه السوريين، حيث هناك من رأى أنها تعد "تمييزاً على أساس الدين"، مستشهدين ببيان مماثل أصدرته الرئاسة السورية خلال فبراير الماضي للتعزية بضحايا انفجار سيارة مفخخة في مدينة منبج بريف حلب وأودت بحياة 20 شخصاً معظمهم من النساء، حيث وصفتهم البيانات الرسمية بـ"الشهداء" ودعت لهم بالرحمة.

ويُعد الترحم على "غير المسلمين" أحد المسائل الإشكالية التي تتمسك بها التيارات المتشددة، بينما تذهب معظم المجتمعات المسلمة إلى جواز الترحم من الناحية الشرعية.

ورغم الإجراءات التي اتخذتها السلطات السورية لاحتواء تداعيات الهجوم والقبض على الفاعلين، إلا أن بيانات العزاء الرسمية، التي خلت من وصف "شهداء" أو "الترحم على الضحايا" أثارت ردود فعل غاضبة في بعض الأوساط المسيحية، لا سيما التصريحات النارية للمطران يوحنا العاشر يازجي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، التي حمّل فيها الحكومة مسؤولية الهجوم، معتبراً أنه الأكبر ضد المسيحيين في سوريا منذ "فتنة 1860".

إحدى عائلات ضحايا التفجير الانتحاري الذي طال كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق خلال الجنازة- 24 يونيو 2025
إحدى عائلات ضحايا التفجير الانتحاري الذي طال كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بالعاصمة دمشق خلال الجنازة. 24 يونيو 2025 - Reuters

وفي كلمة عكست حالة الغضب خلال مراسم تشييع ضحايا التفجير، اعتبر يازجي أن تعازي الرئيس أحمد الشرع "غير كافية".

وقال إن "الضحايا ليسوا مجرّد قتلى، بل شهداء الوطن"، ورداً على مطالبات بإعلان يوم حداد عام في سوريا على الضحايا، وهو ما لم يحدث، رأى يازجي أنه "إن لم يكن حداداً على الضحايا، فليكن يوماً للحداد على الحكومة".

تصريحات مثيرة للجدل

كما أثارت تصريحات للمطران رومانوس الحناة، الكثير من الجدل، إذ قال في تسجيل مصور، موجهاً حديثه لمسؤولين حكوميين بعد الهجوم على الكنيسة: "أنت بتجيب 20 ولد.. أنا بنجيب ولد"، في إشارة إلى أن المسلمين ينجبون الكثير من الأطفال بينما المسيحيون ليسوا ذلك. 

ولاقت عبارة الحناة انتقادات واسعة بين السوريين، حيث اعتبر البعض أنها توحي وكأن "هناك حياة ثمينة وأخرى غير ثمينة"، ليوضح الحناة لاحقاً أن كلامه لا يحتمل أي إساءة، مؤكداً تمسكه بتلك التصريحات، وأضاف: "طبيعة المجتمع المسيحي هي إنجاب ولد أو اثنين، أما بقية المجتمع، ينجبون 10 أولاد مثلاً.. وإن شاء الله لا يتعرض أحد للموت، لكن إذا فقد المسيحي إبنه الوحيد لن يوجد أحد ليعيزيه".

وفيما بدى أنه تعليق على الانتقادات التي وجهها رجال دين مسيحيون لأداء السلطات السورية، قال الرئيس السوري أحمد الشرع، خلال لقائه مع وجهاء وأعيان محافظة القنيطرة والجولان بعد أيام من الهجوم على الكنيسة: "أحياناً بعض التصريحات الانفعالية تؤدي إلى تأزيم الموقف. الكبار يحب أن يكونوا عقلاء وحكماء، لكن أحياناً تخونهم الحكمة في وقت هم بأمس الحاجة إليها. نحن نصبر على هذا المشهد إلى أن نواجه كل الصعاب".

وعمّا إذا كان أسلوب بعض رجال الدين المسيحيين الهجومي تجاه السلطات مبرراً، رأى ميشيل شماس في تصريحاته لـ"الشرق" أنها "تعكس في جوهرها حجم القلق والغضب المتراكم داخل بعض الأوساط الدينية إزاء ما يعتبرونه تقصيراً في حماية المواطنين، خصوصاً بعد سلسلة من الحوادث المؤلمة. بالتالي، يمكن فهم هذه اللغة بوصفها صرخة استغاثة أكثر منها موقفاً سياسياً، وهي تأتي في سياق شعور متزايد بأن الصوت المعتدل لم يعد يُسمع بما يكفي".

وينتمي معظم المسيحيين في سوريا إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية (الروم الأرثوذكس)، وإلى كنيسة السريان الأرثوذكس، إضافةً إلى الكنائس الكاثوليكية الشرقية مثل كنيسة الروم الكاثوليك (الملكيين) والكنيسة المارونية، فضلاً عن حضور محدود لكنائس آشورية وكلدانية في شمال شرق البلاد.

وتُقدّر أعداد المسيحيين في سوريا حالياً بنحو 400 ألف، أي ما يُشكل 2% من السكان على الأكثر، حيث شهدت العقود الماضية هجرة أعداد كبيرة من مسيحيي سوريا بعد أن كانوا يُشكلون 10% على الأقل، وشهد العقد الماضي تزايداً في هجرة المسيحيين، شأنهم في ذلك شأن باقي المكونات السورية بفعل الحرب وتداعياتها الأمنية والاقتصادية.

تصنيفات

قصص قد تهمك