مع ارتفاع التوقعات بشأن القمة المرتقبة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، تُواصل موسكو وكييف التشبث بمواقفهما التفاوضية، وسط تحذيرات من أن بوتين قد يستغل اللقاء للضغط على أوكرانيا للقبول باتفاق لا يصب في مصلحتها. بحسب وكالة "أسوشيتد برس".
وأشارت الوكالة إلى أن بوتين حافظ على مطالب بلاده المتشددة بشأن الحرب في أوكرانيا، رغم التهديدات والضغوط والإنذارات المتكررة، ما أثار مخاوف من إمكانية استغلال القمة المرتقبة مع ترمب لفرض تسوية غير مواتية على كييف.
وترى موسكو في القمة المحتملة مع ترمب فرصة للتفاوض على اتفاق شامل لا يقتصر على تعزيز المكاسب الإقليمية التي حققتها روسيا فحسب، بل يضمن أيضاً منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" واستضافة أي قوات غربية، بما يمهّد الطريق أمامها لإعادة كييف تدريجياً إلى دائرة نفوذها.
وبحسب "أسوشيتد برس"، يعتقد بوتين أن عامل الوقت يصب في مصلحته، في ظل معاناة القوات الأوكرانية المنهكة ذات التسليح الأضعف في التصدي للتقدم الروسي على عدة محاور من خط المواجهة الممتد لأكثر من 1000 كيلومتر، بينما تتعرض المدن الأوكرانية لقصف مكثف من أسراب الصواريخ والطائرات المسيّرة الروسية.
في المقابل، تمسك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بموقفه، ووافق على وقف إطلاق النار الذي اقترحه ترمب، لكنه شدد في الوقت نفسه على رفض بلاده التخلي عن سعيها للانضمام إلى الناتو، كما رفض الاعتراف بضم روسيا لأي من المناطق الأوكرانية.
موقف روسيا
بالنسبة لتفاصيل المواقف، أوضحت "أسوشيتد برس" أن روسيا عرضت في مذكرة قُدمت خلال محادثات إسطنبول في يونيو الماضي، خيارين لوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً، تمثّل الأول في مطالبة أوكرانيا بسحب قواتها من دونيتسك ولوجانسك وزابوريجيا وخيرسون، وهي المناطق الأربع التي أعلنت موسكو ضمّها بشكل أحادي في سبتمبر 2022، رغم أنها لم تفرض سيطرتها الكاملة عليها.
أما الخيار البديل، فتمثّل فيما وصفته موسكو بـ"المقترح الشامل" والذي تضمن وقف كييف لعمليات التعبئة العسكرية، وتجميد تسليم الأسلحة الغربية، ومنع وجود أي قوات أجنبية على أراضيها، كما طالبت بإنهاء الأحكام العرفية في كييف، وإجراء انتخابات تمهيداً لتوقيع معاهدة سلام شاملة.
وبحسب الطرح الروسي، فإن أي اتفاق لوقف القتال يجب أن يتضمن "اعترافاً قانونياً دولياً" بضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014، والمناطق الأربع الأخرى في 2022.
كما تشدد موسكو على أن معاهدة السلام يجب أن تنُص على إعلان أوكرانيا حيادها بين روسيا والغرب، والتخلي عن مساعيها للانضمام إلى الناتو، وتقليص حجم قواتها المسلحة، والاعتراف باللغة الروسية كلغة رسمية على قدم المساواة مع اللغة الأوكرانية، وهي شروط تعكس أهداف بوتين الأولية منذ بدء الحرب.
كذلك تطالب روسيا أوكرانيا بحظر "تمجيد النازية والنازية الجديدة والدعاية لها"، وحل الجماعات القومية، وهي اتهامات دأب بوتين على تكرارها منذ اندلاع الحرب، مدعياً أن الجماعات النازية الجديدة تؤثر في السياسة الأوكرانية خلال عهد زيلينسكي، وهو يهودي الديانة، وقد قوبلت هذه المزاعم برفض واسع من كييف والدول الغربية.
وترى موسكو أن معاهدة السلام الشاملة يجب أن تتضمن رفع العقوبات والقيود من كلا الجانبين، والتخلي عن المطالبات بالتعويض عن أضرار الحرب، واستئناف العلاقات التجارية والاتصالات، وإعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ورداً على سؤال صحافي، الخميس، بشأن ما إذا كانت موسكو مستعدة لتقديم تنازلات لتمهيد الطريق لعقد لقاء بين بوتين وترمب، قال مستشار الكرملين للشؤون الخارجية، يوري أوشاكوف، إن الموقف الروسي "لم يتغير".
الموقف الأوكراني: لا تنازل عن الأراضي
في المقابل، أكدت المذكرة التي قدمها الجانب الأوكراني خلال محادثات اسطنبول على ضرورة وقف إطلاق نار شامل وغير مشروط لمدة 30 يوماً، كخطوة أولى لتهيئة الظروف لمفاوضات السلام.
وجدّدت كييف رفضها القاطع للمطالب الروسية بالحياد، ووصفتها بأنها اعتداء مباشر على السيادة الأوكرانية، مشددة على حقها الكامل في اختيار تحالفاتها، ومؤكدة أن عضويتها في "الناتو" ستُحسم وفقاً لتوافق داخل الحلف.
كما رفضت أوكرانيا أي قيود على حجم أو تركيبة قواتها المسلحة، أو على الوجود العسكري الأجنبي على أراضيها.
وعارضت المذكرة الأوكرانية الاعتراف بأي مكاسب إقليمية حققتها روسيا خلال الحرب، لكنها أشارت إلى أن خط التماس الحالي يمكن أن يُستخدم كنقطة انطلاق للمفاوضات.
وشددت المذكرة على ضرورة وجود ضمانات أمنية دولية، لضمان تنفيذ أي اتفاق سلام ومنع تكرار العدوان في المستقبل.
وتضمّن المقترح الأوكراني للسلام أيضاً المطالبة بإعادة جميع الأطفال المرحّلين أو النازحين بشكل غير قانوني، إلى جانب تنفيذ تبادل كامل للأسرى، كما أبقت كييف الباب مفتوحاً أمام رفع تدريجي لبعض العقوبات المفروضة على روسيا في حال التزامها ببنود الاتفاق.
ترمب يهدد موسكو بالعقوبات
وكثيراً ما أعرب الرئيس الأميركي عن إعجابه ببوتين، بل تبنّى في أكثر من مناسبة مواقف قريبة من رواية الكرملين بشأن الحرب، وشهد المكتب البيضاوي في 28 فبراير الماضي مواجهة حادة بين ترمب وزيلينسكي، قبل أن يُخفّف الأول من حدة لهجته لاحقاً.
ومع استمرار رفض بوتين وقف إطلاق النار وتصعيده للهجمات الجوية، أبدى ترمب استياءه من الرئيس الروسي، وهدد بفرض عقوبات جديدة على موسكو.
ورغم ذلك، فإن موافقة ترمب على لقاء بوتين دون حضور زيلينسكي على طاولة المفاوضات أثارت مخاوف جدية في أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين، خشية أن يؤدي اللقاء إلى انحياز الرئيس الأميركي لموسكو أو إجبار كييف على تقديم تنازلات.
وفي تصريحات مقتضبة، قال ترمب إنه "سيكون هناك تبادل للأراضي، بما يصب في مصلحة الطرفين"، في إشارة إلى ما قد يتضمنه أي اتفاق سلام سيناقشه مع بوتين خلال لقائهما المرتقب، الجمعة، من دون الخوض في التفاصيل.
مخاوف من "مقايضات إقليمية"
ومن جانبه، حذر بوتين مراراً من أن أوكرانيا ستواجه شروطاً أكثر صعوبة إذا لم تقبل مطالب موسكو، في وقتٍ تواصل فيه القوات الروسية التقدم في مناطق جديدة لبناء ما وصفه بـ"المنطقة العازلة".
ويشير بعض المراقبين إلى احتمال استخدام روسيا هذه المكاسب الأخيرة كورقة تفاوض لمقايضتها بالأراضي التي أعلنت ضمها لكنها لا تزال تحت سيطرة القوات الأوكرانية.
وقال سام جرين، الباحث بكلية "كينجز كوليدج" في لندن لـ"أسوشيتد برس"، إن هذا السيناريو "قد يمنح بوتين هامشاً واسعاً للمناورة، طالما تمكّن من استخدام هذه الأوراق لإجبار أوكرانيا على قبول اتفاق لا يلبي تطلعاتها، وكذلك لتهميش الدور الأوروبي بشكل فعّال".
وأضاف جرين: "السؤال المحوري هو: هل سيوافق ترمب على ذلك؟ وهل يمتلك النفوذ الكافي لإجبار الأوكرانيين والأوروبيين على الالتزام به؟".
وأشار جرين إلى أن بوتين قد يوافق على هدنة مؤقتة لكسب تعاطف ترمب، في إطار سعيه لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع.
وتابع: "قد يقبل بوتين بوقف لإطلاق النار طالما أنه سيُبقيه مسيطراً، من دون وجود رادع حقيقي يمنع تجدد العدوان في المستقبل... الرئيس الروسي يُدرك أن طريقه الوحيد لبلوغ هذه الغاية يمر عبر ترمب".
وإشارة محتملة إلى اعتقاده بإمكانية التوصل إلى هدنة أو اتفاق سلام قريب، أجرى بوتين اتصالات مع قادة الصين والهند وجنوب إفريقيا، إلى جانب عدد من رؤساء دول الاتحاد السوفيتي السابق، في محاولة لإبلاغهم بالاتفاقيات المحتملة.
ونقلت "أسوشيتد برس" عن تاتيانا ستانوفايا، الباحثة في مركز كارنيجي لروسيا وأوراسيا، قولها إن بوتين لن يتراجع عن أهدافه الأساسية.
وكتبت ستانوفايا، عبر منصة "إكس": "مهما كانت صياغة الشروط، فإن جوهرها واحد، وهو أن تتوقف أوكرانيا عن المقاومة، وأن يوقف الغرب إمدادات الأسلحة، وأن تقبل كييف بشروط موسكو، التي تُشكل استسلاماً فعلياً".
وأضافت: "يمكن للجانب الروسي تقديم هذه المطالب بأكثر من طريقة، ما يعطي انطباعاً زائفاً بأن موسكو منفتحة على تقديم تنازلات والتفاوض بشكل جاد، لكنها في الواقع لم تغير موقفها الجوهري، وهو استسلام أوكرانيا".
وتوقعت ستانوفايا أن يوافق بوتين على لقاء زيلينسكي، لكنها أشارت إلى أنه لن يُقدم على ذلك إلا "إذا جرى الاتفاق مسبقاً على جدول أعمال ونتائج محددة سلفاً، وهو أمر قالت إنه "يصعب تصوره".
وختمت بالقول: "السيناريو الأرجح هو أن تفشل هذه الجهود الجديدة للسلام، وهو ما سيكون تطوراً سلبياً بالنسبة لأوكرانيا، لكنه أيضاً لن يُحقق لبوتين كل ما يريد، على الأقل ليس بالطريقة التي يطمح إليه، ولذا فيبدو أن الصراع، بين فترات من الحرب المفتوحة وأخرى من التوتر المتصاعد، سيستمر في المستقبل المنظور".