سرقة "الأرشيف النووي".. قصة أكبر عملية للموساد تقرّ بها إيران

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو يستعرض وثائق من "الأرشيف النووي" الإيراني خلال مؤتمر صحافي بتل أبيب. 30 أبريل 2018 - REUTERS
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو يستعرض وثائق من "الأرشيف النووي" الإيراني خلال مؤتمر صحافي بتل أبيب. 30 أبريل 2018 - REUTERS
دبي-عزيز عليلو

بعد نحو 3 سنوات سنوات من النكران، أقرّت إيران الاثنين الماضي بسطو إسرائيل على آلاف الوثائق من أرشيف إيران النووي التي تثبت مخططاته لتطوير أسلحة نووية.

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، أعلن يوم 30 أبريل 2018 لأول مرة عن سرقة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) نحو 55 ألف وثيقة وعشرات الأقراص المدمجة تتعلق بأرشيف إيران النووي، وذلك إثر عملية اقتحام ناجحة لمخبأ سري ضواحي طهران.

وأنكرت إيران طيلة السنوات الماضية حقيقة ما اعتبرته "ادعاءات إسرائيلية كاذبة"، حتى أكد الرئيس الإيراني المنتهية ولايته، حسن روحاني، الاثنين الماضي لأول مرة صحة العملية في خطابه الرسمي الأخير أمام أعضاء حكومته.

ونقلت وكالة أنباء "فارس" الإيرانية عن روحاني القول إن "الإسرائيليين سحبوا الأسرار من البلاد وأعطوها لـ (الرئيس الأميركي آنذاك دونالد) ترمب، الذي انسحب الاتفاق النووي لاحقاً".

الرئيس الإيراني حسن روحاني يلتقي الفائز في الانتخابات الرئاسية إبراهيم رئيسي في مقر السلطة القضائية - طهران - 19 يونيو 2021 - @Iran_GOV
الرئيس الإيراني حسن روحاني يلتقي الفائز في الانتخابات الرئاسية إبراهيم رئيسي في مقر السلطة القضائية، طهران، 19 يونيو 2021 - @Iran_GOV

وتأتي تصريحات روحاني بشكل متناقض مع موقف إيران السابق من العملية، التي وصفها المفاوض النووي الإيراني عباس عراقجي عام 2018 بـ"المسرحية الصبيانية للغاية والسخيفة"، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

كذلك اعتبر محمد مراندي، أحد مفاوضي إيران في الاتفاق النووي لعام 2015، أن الوثائق التي نشرتها إسرائيل هي"أدلة ملفقة"، بحسب الصحيفة الأميركية.

ويبدو أن طهران كانت تراجع موقفها منذ مدة، إذ سبق وألمح محسن رضائي، مستشار المرشد الإيراني، في أبريل الماضي إلى توجه بلاده نحو الاعتراف بسرقة أسرارها النووية.

وقال رضائي، وهو يشغل أيضاً سكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يتبع المرشد الأعلى مباشرة،  إن إيران "تعرضت لانتهاكات أمنية على نطاق واسع، والمثال على ذلك أنه في أقل من عام، وقعت 3 حوادث أمنية: انفجاران واغتيال واحد"، مضيفاً: "وقبل ذلك، سُرقت وثائق من الأرشيف النووي"، بحسب صحيفة "جيروزاليم بوست".

أسرار طهران في تل أبيب

في مساء 30 أبريل 2018، كشف نتنياهو أمام وسائل الإعلام  "ملفات سرية نووية" تثبت أن إيران كانت تسعى سراً لإنتاج أسلحة نووية، على حد زعمه. 

واستعرض نتنياهو، من مقر وزارة الدفاع في تل أبيب، ما قال إنه "نسخ طبق الأصل" من "50 ألف وثيقة، و163قرصاً مدمجاًُ" حصلت عليها الاستخبارات الإسرائيلية من مخزن سري في طهران، في "عملية ناجحة بشكل مذهل".

وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، آنذاك، إن قادة إيران "نفوا مراراً السعي لامتلاك أسلحة نووية. والليلة أنا هنا لأقول لكم شيئا واحداً: إيران تكذب".

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو خلال استعراض الأرشيف النووي الإيراني، ووراءه شاشة تُظهر نصاً بالإنجليزية يقول:
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو خلال استعراض الأرشيف النووي الإيراني، ووراءه شاشة تُظهر نصاً بالإنجليزية يقول: "إيران كذبت"، 30 أبريل 2018. - REUTERS

ولفت إلى أن "آلاف الصفحات من المواد التي حصلت عليها إسرائيل توضح أن إيران خدعت العالم بإنكار أنها كانت تسعى لإنتاج أسلحة نووية".

ومن بين أهم الأسرار التي كشفها نتنياهو مشروع  “آماد” الذي بدأ في أوائل التسعينيات من القرن الماضي ووضع إيران على طريق “تصميم وإنتاج واختبار خمسة رؤوس حربية".

ودمج "آماد" كافة أنشطة إيران النووية العسكرية السابقة. ويُعتقد أن إيران قد قررت أنه من الضروري الحصول على أسلحة نووية بعد أن رأت كيف نجحت القوات الأميركية بإخراج العراق برئاسة صدام حسين من الكويت بكل سهولة عام 1991. 

ولفت نتنياتهو إلى أن "آماد" يشمل خمسة عناصر رئيسية هي "تصميم الأسلحة النووية، تطوير النوى النووية، بناء أنظمة الانفجار النووي، إعداد التجارب النووية، ودمج الرؤوس النووية بالصواريخ".

خطة سرية 

وأوضح أن إيران أغلقت مشروع “آماد” في عام 2003 وسط ضغوط دولية، وذلك دون أن "تتخلى عن طموحاتها النووية"، إذ أقدمت على تقسيم برنامجها النووي إلى مسارات سرية وعلنية لتجنب التدقيق والرقابة.

ولفت نتنياهو إلى أن جزءًا من الخطة كان تأسيس منظمات جديدة لاستكمال الجهود التي بدأها مشروع "آماد" بطريقة سرية، أبرزها "منظمة الابتكار والبحث الدفاعي" (SPND )، التي كان يقودها العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده، حتى اغتياله بطهران في نوفمبر 2020.

وقال إن المشروع يهدف لإنتاج خمس رؤوس نووية، تبلغ قوة كل منها 10 كيلوطن من مادة ثالث نترات التولوين (تي إن تي) شديدة الانفجار.

جنود إيرانيون يشيعون جثمان العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في مدينة مشهد الإيرانية - 29 نوفمبر  2020 - VIA REUTERS
جنود إيرانيون يشيعون جثمان العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في مدينة مشهد الإيرانية، 29 نوفمبر 2020 - REUTERS

وتابع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أن فخري زاده كان في السابق هو مدير مشروع "آماد"، مؤكداً أن “إيران خططت على أعلى المستويات لمواصلة العمل المتعلق بالأسلحة النووية تحت مظاهر مختلفة واستخدام نفس الأفراد”.

وشدد نتنياهو على أن إيران واصلت مساعي تطوير معرفتها وقدرتها النووية حتى بعد توقيع الاتفاق النووي مع القوى العالمية سنة 2015.

صورة بالأقمار الصناعية لمنشأة نووية إيرانية تعمل على تخصيب اليورانيوم - 8 يناير 2020 - AFP
صورة بالأقمار الصناعية لمنشأة فوردو ضواحي مدينة قم الإيرانية، 8 يناير 2020 - AFP

ووفقاً لنتنياهو، فإن إيران كانت تخطط لتخصيب اليورانيوم بهدف تطوير الأسلحة النووية في منشأة "فوردو" النووية التي بنتها إيران تحت جبل بالقرب من مدينة قُم ولم تعلن عن وجودها حتى عام 2009. 

ولم تكن المنشأة مخبأةً فحسب، بل كان من الصعب أيضاً، إن لم يكن مستحيلاً، تدميرها حتى باستخدام القنابل الخارقة للتحصينات الأكثر تطوراً، وفقاً لنتنياهو.

"اتهامات كاذبة"

ونفى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ما وصفها بـ "الاتهامات الكاذبة" التي ساقها نتنياهو ضد طهران، بقوله إنها تمتلك برنامجا نوويا عسكريا سرياً.

وقال ظريف في تغريدة على تويتر إنه "ليس من باب الصدفة أن الاتهامات الكاذبة (...) تأتي قبيل 12 مايو (2018)" في إشارة إلى المهلة التي حددها الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترمب لإعلان موقفه من الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.

من جانبه، قال علي رضا ميريوسفي، المتحدث باسم  إيران في منظمة الأمم المتحدة، في رسالة عبر البريد الإلكتروني وجهها إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، إن "المزاعم الإسرائيلية حول سرقة كمية كبيرة من الوثائق السرية للبرنامج النووي الإيراني من طهران، لا معنى لها وتثير السخرية".

وأضاف ميريوسفي أن "الادعاء بأن إيران قد تركت مثل هذه المعلومات الحساسة في مستودع مهجور في أطراف العاصمة طهران لا معنى له بصورة مثيرة للسخرية (…) يبدو أنهم يسعون لفبركة مزاعم عجيبة وغريبة كي يقتنع المتلقي الغربي".

وقال البيت الأبيض في بيان عقب ندوة نتنياهو، إن المعلومات التي كشفها رئيس الوزراء الإسرائيلي حول البرنامج النووي الإيراني تمثل "تفاصيل جديدة ومقنعة" بشأن جهود طهران لتطوير سلاح نووي.

وأوضح البيت الأبيض في البيان أن هذه "الحقائق تتسق مع ما تعرفه الولايات المتحدة منذ وقت طويل: إيران لديها برنامج نووي نشط وسري حاولت إخفاءه عن العالم وعن شعبها وفشلت".

وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في مؤتمر صحافي في وزارة الخارجية. 11 يناير 2021 - AFP
وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في مؤتمر صحافي في وزارة الخارجية. 11 يناير 2021 - AFP

كما نقلت وكالة "فرانس برس" عن وزير الخارجية الأميركية آنذاك مايك بومبيو، تأكيده صحة المعلومات بشأن مشروع "آماد". وقال بومبيو: "ما جاء صحيح في جزء منه. برنامج أماد انتهى قرابة ديسمبر 2003 ويناير 2004. ومن الصحيح القول أيضاً إننا نعلم بأمره منذ فترة".

ولفت بومبيو إلى أن الوثائق التي تحدث عنها نتانياهو تحتوي على "آلاف الوثائق الجديدة والمعلومات الجديدة. نحن ما زلنا بصدد تحليلها وما زال هناك الكثير من العمل للقيام به لتقييم مدى ونطاق هذا الأمر".

وجاء عرض نتنياهو للوثائق في الوقت الذي يواجه فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب موعداً نهائياً لاتخاذ قرار بشأن بقاء أميركا في “خطة العمل الشاملة المشتركة”، الاسم الرسمي للاتفاق النووي.

وانتقد كل من نتنياهو وترمب الاتفاق بشدة مستهدفين بعض بنوده باعتبار أنها لا تتناول برنامج إيران النووي أو انخراطها في العديد من الصراعات الإقليمية. وبعد أيام من عرض نتنياهو، أعلن ترمب انسحاب بلاده من الاتفاق.

"أعظم إنجازات" الموساد

وخلال مراسيم مغادرة يوسي كوهين منصب رئيس الموساد في يونيو الماضي، قال نتنياهو إن عملية التسلل إلى الأرشيف النووي الإيراني وتهريب الملفات إلى إسرائيل بأنها "من أعظم إنجازات الموساد على مدى تاريخه".

وعقب أيام من مغادرته رئاسة الموساد، حكى كوهين تفاصيل عملية التسلل في حوار مع الصحافية إيلان دايان عبر برنامجها الوثائقي "أوفدا" (الحقيقة) على القناة 12 الإسرائيلية.

الرئيس الجديد للموساد ديفيد برنيع يتوسط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس السابق للموساد يوسي كوهين - من حساب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تويتر
الرئيس الجديد للموساد ديفيد برنيع يتوسط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس السابق للموساد يوسي كوهين - Twitter

وقال كوهين إنه أدار العملية "من مركز قيادة الموساد في تل أبيب"، وأن الموساد كان قد بدأ العمل على ذلك قبل عامين "بناءً على تعليماته".

وأضاف: "فهمنا أنهم يخزنون أسرارهم النووية، الأشياء التي لم نكن نعرفها، في هذا المكان، فقررت أننا يجب أن نرى ما يخططه لنا الإيرانيون، وأخبرت رجالي أن عليهم الاستعداد لإحضار هذه الوثائق إلى تل أبيب"، لأنها قد تكشف "الصورة الكبرى" للبرنامج الإيراني. 

عملية الـ"7" ساعات

وقالت دايان إن "20 من عملاء الموساد شاركوا في هذه العملية لم يكن أي منهم مواطناً إسرائيلياً"، فيما كشف كوهين أن "الموساد أنشأ نسخة مطابقة للموقع، وعلم كل شيء عن الخزائن التي تحتوي على الوثائق، وكيف يتم ترتيبها". 

وأشار كوهين إلى أنهم عرفوا أن لديهم 7 ساعات كحد أقصى داخل الموقع، و"بعد ذلك، ستصل الشاحنات والحراس والعمال"، وعندئذ "لا يمكنك القفز من فوق الأسوار أو الاندفاع من خلال الجدران".

وقام الفريق بتعطيل أجراس الإنذار، وإزالة أبواب المستودع، وفتح 32 خزنة تحتوي على الوثائق. ولم يستغرق فتح خزائن كهذه "أكثر من دقائق لكل خزنة"، بحسب وصف رئيس الموساد السابق. 

وأضاف: "عندما تم فحص صور الوثائق الفارسية والمواد الأخرى الموجودة في الخزائن في مركز القيادة بتل أبيب في نفس الوقت، أدركنا أن ما كنا نريده صار تحت أيدينا، وأننا أمام برنامج إيران النووي العسكري، انتابتنا جميعاً حالة من الإثارة لا يمكن وصفها".

وكان لدى الموساد العديد من "الشاحنات التمويهية" التي كانت تتحرك في جميع أنحاء طهران "لصرف الإيرانيين عن الشاحنة الوحيدة" التي كانت تحمل "50 ألف وثيقة، و163 أسطوانة" إلى خارج إيران "عن طريق البر"، بحسب كوهين.