مع استمرار ما تعتبره بولندا، ودول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، "استفزازات روسية"، عبر اختراق المجال الجوي لدول الحلف والمسيرات، وهي اتهامات تنفيها موسكو، إلى جانب استمرار الحرب في أوكرانيا، تواصل الحكومة البولندية توسيع جيشها، في ظل قلق من تحول حدود الدولة إلى أول خطوط المواجهة مع روسيا في حال اندلاع حرب واسعة.
الحدود البولندية مع أوكرانيا من الجهة الجنوبية الشرقية، تمتد على مساحة تزيد عن 500 كيلومتر، إلى جانب مجاورتِها لحليفة موسكو، بيلاروس، على تماس يمتد لما يُقارب 400 كيلومتر، من جهة الشرق. وهذا التماس الحدودي، يضع بولندا، دون حلفائها في الناتو، ولا سيما الأوروبية منها، في فوهة المدفع، في حال توسٌّع التصعيد، لا سيما مع غياب المؤشرات على قرب نهاية حرب أوكرانيا.
الموقع الحسّاس، دفع الدولة، الشيوعية سابقاً، والخارجة من عباءَة المُعسكر الشرقي، إلى رفع سقف طموحها العسكري، ومضاعفة جيشها على مدى أكثر من عقد ليصبح، ثالث أكبر جيش في حلف المُعسكر الغربي، بالتوازي مع تعزيز اقتصادها، الذي دخل ضمن أكبر 20 اقتصاداً في العالم، كما يعد جواز سفرها سابع أقوى جواز في العالم.
ثالث أكبر جيوش الناتو
جهود بولندا لتعزيز جيشها، البالغ قوامه 216 ألف فرد، بدأت تؤتي أُكلَها، إذ جعلت تقديرات حلف الناتو، تُصنِّفه كثالث أكبر جيوش الحلف بعد الولايات المتحدة (1.3 مليون)، وتركيا (481 ألفاً)، وتليها فرنسا (204 آلاف)، وألمانيا (185,600)، ووفقاً لتقرير الإنفاق الدفاعي لدول الحلف، فقد ضاعفت بولندا جيشها أكثر من مرتين منذ عام 2014، وهو العام الذي غزت فيه روسيا شبه جزيرة القرم.
لكن طموحات وارسو، لا تتوقف عند هذا الحد، فقد اعتبر الرئيس كارول نافروتسكي، خلال واحدة من أكبر العروض العسكرية في تاريخ البلاد في أغسطس الماضي، أنه ينبغي أن "نصبح قريباً ليس الثالث، بل الأول والأقوى في الناتو داخل أوروبا".
وفي ميزانية عام 2025، تم تخصيص مبلغ قياسي قدره 186.6 مليار زلوتي بولندي (ما يعادل 51.3 مليار دولار أميركي) للدفاع الوطني، أي ما يمثل 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025، ويُعد هذا زيادة قدرها 28.6 مليار زلوتي بولندي (نحو 7.8 مليار دولار) مقارنة بعام 2024، وفق موقع القوات المسلحة البولندية.
شراء من الخارج.. وبناء في الداخل
يُعدّ الجيش البولندي، أحد الجيوش الأمامية الرئيسية في حلف الناتو، ومن أكثر الجيوش اعتماداً على المشتريات العسكرية من خارج الاتحاد الأوروبي، فبولندا تشتري دبابات، ومدافع هاوتزر، وأنظمة صواريخ متعدّدة الإطلاق من كوريا الجنوبية، إلى جانب دبابات "أبرامز" الأميركية، ومروحيات الهجوم "أباتشي"، وصواريخ الدفاع الجوي "باتريوت"، وغيرها من المعدات العسكرية.
ومع ذلك، فإن وارسو لا تكتفي بالشراء من الخارج، بل تركز أيضاً على تطوير إنتاجها العسكري المحلي لتقليل اعتمادها على مورّدين أجانب، وقد بدأت بعض منتجاتها بالفعل تحظى باعتراف دولي متزايد، فبلجيكا، بعد النرويج والولايات المتحدة، اشترت نظام الدفاع الجوي المحمول على الكتف "بيورون" (Piorun) البولندي، الذي أثبت نجاحه في أوكرانيا باستهداف الطائرات، والمسيّرات، والمروحيات التي تحلّق على ارتفاعات منخفضة.
وفي أكتوبر الماضي، أعلن وزير الدفاع السويدي بال يونسون، خلال زيارته إلى بولندا، أن بلاده طلبت شراء قاذفات صواريخ بولندية مضادة للطائرات.
وبعد الاختراق الروسي بطائرات مسيّرة في سبتمبر، أصبح التركيز الحالي لبولندا منصباً على المسيّرات، سواء من حيث الإنتاج أو الشراء، ومؤخراً، أصبحت أكبر مشترٍ لمسيّرات "أهاماني" التايوانية، ما قلل من اعتمادها على المكوّنات الصينية، وفق "بلومبرغ".
توتر العلاقات مع إيران
تُعدّ الطائرات المسيّرة موضوعاً حساساً يثير توتر دبلوماسي بين بولندا وإيران، فقد عرض وزير الخارجية البولندي رادوسلاف سيكورسكي طائرة مسيّرة إيرانية الصنع من طراز "شاهد-136" خلال فعالية في مجلس العموم البريطاني في لندن في أكتوبر الماضي.
وزعم شيكورسكي، أن هذه الطائرة أُسقطت فوق أوكرانيا، مشيراً إلى أنها تُظهر تعاون طهران مع موسكو، في هذه الحرب.
ورد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في منشور على منصة "إكس" باللغة البولندية، قائلاً: "عرض طائرة مسيّرة نُسبت زوراً وبشكل خبيث إلى إيران في البرلمان البريطاني، هو مشهد مثير للشفقة من إخراج لوبي إسرائيل ومموّليه".
ما استدعى رداً من شيكورسكي لم يكن دبلوماسياً، فعلى الرغم من أنه أثنى على كتابته منشوره بالبولندية، لكنه اعتبر أنه "كان من الأفضل لو لم يبع الطائرات المسيّرة، ورخص إنتاجها إلى روسيا بينما كانت تمارس عدوانها على أوكرانيا"، متمنياً لو كانت "حكومة الشعب الإيراني معنية بإعادة بناء الحضارة الفارسية التي أدهشت العالم يوماً ما"، بدلاً "من تصدير الثورة، وتخصيب اليورانيوم".
المسيّرات.. رأس الحربة
العرض البولندي في مجلس العموم البريطاني، ونبرة رد وزير الخارجية على نظيره الإيراني، يعكس مدى القلق التي تعيشه وارسو من تأثير المسيّرات وهجماتها على أراضيها.
وعن ذلك قال كاتسبر كرميتس، المحلل في موقع Defence24.com، المتخصص في قضايا الدفاع والأمن، إن الابتكار التكنولوجي الأبرز الذي ميّز الحرب الروسية الأوكرانية هو صعود الطائرة بدون طيار (UAV).
وتبين وفق ما وضح كرميتس لـ"الشرق" أن الطائرات المسيّرة "شديدة الكفاءة" مقارنة بتدني كلفتها، و"قابلة للتكيّف على نطاق واسع من المهام، بما في ذلك الهجمات المباشرة، وتحديد الأهداف، والمراقبة، والاستطلاع، واللوجستيات، بل وحتى استخدامها كطُعم. صغيرة الحجم، وهادئة نسبياً، ويمكن نشرها بأعداد كبيرة، وهي قادرة بسهولة على اختراق المجال الجوي للعدو وضرب الأهداف العسكرية والبنى التحتية.. حتى الأهداف المدنية على بُعد مئات الكيلومترات"، كما ثبُت من خلال ضرب أهداف في العُمق الروسي.
بين أقوى اقتصادات العالم.. ولكن
خطورة موقع بولندا جعلها ترفع من طموحاتها الدفاعية، وإلى جانب ذلك تمكين اقتصادها، ما عزز الثقة الدولية به، فوفقاً لصندوق النقد الدولي، فإن بولندا تدخل هذا العام ضمن أكبر 20 اقتصاداً في العالم، حيث يُتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 1.04 تريليون دولار أميركي.
وتعليقاً على ذلك، يؤكد يان أولشتشوك- زكمونتوفسكي، الرئيس المشارك لشبكة الاقتصاد البولندية (Polish Economics Network)، وهي جمعية تضم خبراء اقتصاديين، بالإنجازات الكبيرة التي حققتها بولندا، ويتفق مع وصف أحد الاقتصاديين البولنديين لما يحدث بأنه "العصر الذهبي لبولندا، قائلاً لـ"الشرق" إن بلاده "بين أغنى دول العالم."
نمو الاقتصاد البولندي، انعكس في ثقة جعلت جواز سفرها يقفز إلى المرتبة السابعة عالمياً، بين جوازات السفر الأكثر قوة في العالم، متقدماً على البريطاني والأميركي، وفقاً لأحدث تصنيف صادر عن مؤشر هينلي لجوازات السفر (Henley Passport Index)، وهو نظام تصنيف عالمي لجوازات السفر يعتمد على عدد الدول التي يمكن لحامله دخولها من دون تأشيرة.
القوة المتزايدة لجواز السفر البولندي ما هي إلا علامة واحدة على مسيرة بولندا خلال الخمسة والثلاثين عاماً الماضية، منذ تحولها من دولة شيوعية إلى ديمقراطية ليبرالية وعضو في الاتحاد الأوروبي، وحلف (الناتو).
على الرغم من الإنجازات التي حققها الاقتصاد البولندي، لكن الخبير الاقتصادي أولشتشوك– زكمونتوفسكي، في سياق تصريح لـ"الشرق" حذر من أن نموذج التنمية الحالي في بولندا غير مستدام، ويحتاج إلى تغيير، مفسراً تحذيره بأن "عصر انخفاض تكاليف العمالة، والترحيب الواسع بالشركات الأجنبية يقترب من نهايته"، مشدداً على الحاجة الفعلية حالياً "إلى الصعود في سلسلة القيمة، وألا نكون مجرد مصنع تجميع، بل أن نبدأ في الابتكار والإبداع".
كما يتفق مع الآراء التي ترى أن الإنفاق العسكري قد يكون له تأثير إيجابي على التنمية المستقبلية لبولندا، مشيراً إلى "ما يُعرف بالاستخدام المزدوج، أي أننا ننفق الأموال على المنتجات العسكرية، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تكون مفيدة للأغراض المدنية أيضاً".
اختبار جاهزية الناتو
لكن سباق بولندا لتوسيع إنتاجها المحلي من الأسلحة، وتحديث قواتها لا يُحرّكه فقط دافع الدفاع عن النفس، بل أيضاً ردع العدوان؛ فقد حثّ وزير الدفاع البولندي فلاديسلاف كوشينياك كاميش في تصريح حديث له، على وجوب الاستعداد "لمختلف السيناريوهات.. علينا أن نتسلّح من أجل الردع".
فالأخبار الواردة من دول البلطيق الأخرى لا تبعث على الاطمئنان في وارسو، ففي نهاية سبتمبر الماضي، انتهكت ثلاث مقاتلات روسية المجال الجوي الإستوني، وحلّقت فوق البلاد دون تصريح لمدة 12 دقيقة كاملة، وعلى الرغم من نفي روسيا، إلا أن إستونيا اعتبرته رابع انتهاك روسي لأجوائها هذا العام.
واعتبر وزير الدفاع البولندي أن هذه الانتهاكات "تُظهر أننا يجب أن نظل في حالة يقظة دائمة.. روسيا لا تُظهر أي بوادر تهدئة أو تراجع".
ويرى عدد من الخبراء أن هذه الانتهاكات الأخيرة على الجناح الشرقي للناتو تمثل اختباراً من روسيا لجاهزية الحلف وعزيمته على الرد.
ليس الخلاف على ما سيحدث.. بل متى؟
ويتفق العديد من الخبراء العسكريين على أن الهجوم المحتمل ليس مسألة "هل سيحدث؟"، بل "متى سيحدث؟"، وتتباين التقديرات: فبعضهم يرى أن الإطار الزمني المحتمل هو من ثلاث إلى خمس سنوات، بينما يعتقد آخرون أن الهجوم قد يأتي خلال سبع إلى عشر سنوات، إذ تحتاج روسيا إلى وقت لإعادة بناء جيشها بعد الخسائر التي تكبّدتها في أوكرانيا.، والسؤال المطروح الآن: هل بولندا وحلفاؤها مستعدون لهجوم محتمل؟
الأرقام لا تصب في مصلحة الناتو؛ فوفقاً لعقيد (احتياط) داريوش كوزرافسكي، وهو خبير عسكري بارز قاد بعثات تدريب تابعة لحلف الناتو في بغداد، وكييف وعضو في قسم الأمن القومي بجامعة ياجيلونيان في كراكوف (أقدم جامعة في بولندا)، أن عدد قوات الحلف على جناحه الشرقي نحو 460 ألف جندي في الخدمة الفعلية، مقارنةً بالقوة العسكرية المشتركة لكل من روسيا وبيلاروسيا التي تُقدّر بنحو 1.4 مليون جندي في الخدمة.
ولفت كوزرافسكي إلى وجود فارق "شاسع"، يكاد يلامس المليون جندي في على الضفة الأخرى.
وأضاف الخبير العسكري البولندي، في حديث لـ"الشرق" أن اختراق 21 طائرة مسيّرة روسية للأجواء البولندية في سبتمبر، كشف عن نقص القدرات الدفاعية المضادة للمسيّرات على الجناح الشرقي للحلف، موضحاً أنه تم تحييد ثلاث مسيّرات فقط من أصل 21، أي فعالية لا تتجاوز 14%.
وانتقد ضابط الاحتياط والأستاذ الجامعي في اختصاصه، الرواية الرسمية للحلف وللسلطات البولندية، التي "تُركّز على وحدة الناتو وفعالية عملياته في تحييد المسيّرات الروسية"، لكنه نبه إلى أن "مثل هذه الحجج قد تُقنع القلّة فقط"، نظراً لانخفاض "فعالية الإجراءات الحليفة، وغياب القدرات الحقيقية لمواجهة المسيّرات في المنطقة، رغم استمرار الصراع المسلح في أوكرانيا".
"استنزاف حربي"
لكن هناك من يرى في بولندا وخارجها أن استجابة الناتو كانت إيجابية أكثر، ومن هؤلاء ياروسلاف كرومادجينسكي، الذي يحمل رتبة فريق في الجيش البولندي، والرئيس التنفيذي لـ"معهد الدفاع"- المنظمة البولندية المتخصصة في الأبحاث والاستشارات في مجالي الأمن والدفاع- إذ يرى أنه "في حالة أزمة مثل التي واجهناها، سارت الإجراءات كما ينبغي.. لقد فعّلنا النظام بأكمله: القوات الجوية، ووحدات الدفاع الجوي.. كل شيء عمل كما يجب".
لكنه يشير إلى أن الاستجابة لم تكن فعّالة من حيث التكلفة، مشبهاً ذلك بأنه "كان الأمر أشبه بإطلاق مدفع على ذبابة"، ويضيف موضحاً أن بولندا "استخدمت مقاتلات F-35- وهي أكثر الطائرات الحربية تقدماً- لاعتراض طُعم روسي، أي طائرات مسيّرة مصنوعة من مادة الستايروفوم صُممت لتقليد الأهداف الحقيقية، وتبلغ تكلفة الواحدة منها نحو ألف دولار فقط، بينما أطلقنا في المقابل صواريخ تبلغ قيمة الواحد منها قرابة مليون دولار".
ويعترف كرومادجينسكي، بأن بولندا، والعديد من الجيوش الأوروبية لا تزال تفتقر إلى أنظمة دفاع فعّالة مضادة للطائرات المسيّرة.
الوقت يمرّ بسرعة بالنسبة إلى بولندا ودول الناتو عموماً، والأوكرانيون والروس أصبحوا أكثر الجيوش خبرة في حروب الطائرات المسيّرة، بينما يحاول الآخرون اللحاق بالركب.
وفي محاولة أخرى لعدم التخلُّف عن هذا الركب، وقّعت بولندا مؤخراً اتفاقية تعاون في مجال الطائرات المسيّرة مع أوكرانيا، بهدف الاستفادة من الخبرة الأوكرانية في حرب المسيّرات من خلال إنشاء برامج تدريب عسكرية، ومشروعات تصنيع مشتركة، بينما يأمل خبراء ألّا يكون ذلك قليلاً، ومتأخراً جداً.









