قبل 10 سنوات، تصدّرت صور الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي وسائل الإعلام في العالم، وهو ممدد على الأرض جثة هامدة، لينتهي بذلك عهد العقيد الذي استمر حكمه بالحديد والنار 42 عاماً، وخلال العقد الماضي شهدت ليبيا العديد من الأحداث العاصفة، التي بدأت بنزاع دامٍ وانتهت باتفاق سياسي هش، يبني عليه الليبيون الآمال لوقف استنزاف البلاد واستعادة الأمن.
حتى اندلاع ما عرف بـ"الربيع العربي"، كانت الأوضاع في ليبيا تبدو مستتبة تماماً تحت قبضة القذافي، حتى إن العقيد نفسه، الذي اختار لنفسه لقب ملك ملوك إفريقيا، شكّك في إمكانية وصول عدوى الثورة التي بدأت في تونس إلى بلاده، لكن توقعاته لم تلبث أن خابت، وسرعان ما اندلعت الاحتجاجات في مدينة بنغازي.
معركة إسقاط العقيد
واجهت السلطات الليبية المتظاهرين بعنف مفرط، لاقى انتقادات دولية ودعوات للقذافي بالتنحي، لكنه تمسك بنظامه، متوعداً من حملوا السلاح ضده برد حاسم.
امتدت المعارك بين القوات الليبية وخصوم القذافي إلى العديد من المناطق، وفي 19 مارس 2011، بدأ تحالف دولي بقيادة واشنطن وباريس ولندن قصفاً جوياً كثيفاً على مراكز القوات التابعة للقذافي، قبل أن تنتقل قيادة العملية إلى حلف شمال الأطلسي "ناتو".
مستفيدة من الغطاء الجوي، واصلت القوات المناهضة للقذافي الزحف والاستيلاء على المنطقة تلو الأخرى، بينما كانت على رأس الأولويات مطاردة العقيد القذافي، وفي منتصف يوليو من ذلك العام، أعلن القذافي من مدينة الزاوية غرب طرابلس أنه لن يترك أرض "أجداده المقدسة"، معتبراً أن الليبيين "مستعدون للموت دفاعاً عنه"، زاعماً أن 5 ملايين ليبي يقفون إلى جانبه.
3 أشهر فقط من ذلك الظهور كانت كفيلة بإعادة رسم المشهد الليبي. فصائل المعارضة باتت تسيطر على معظم الجبهات، بينما العقيد المتواري عن الأنظار يسعى جاهداً للخروج من المأزق.
تبيّن لاحقاً أن القذافي اختار سرت، مسقط رأسه، ملاذاً من أعدائه. معلومات استخباراتية رجحت وجوده ضمن موكب سيارات في خطة للتسلل خارج المدينة، وهاجمت طائرة تابعة لحلف "ناتو" الموكب، فيما حاصرت مجموعة من المقاتلين الموقع، ليضطر القذافي إلى الاختباء في نفق إسمنتي.
وبعد ساعات على المحاصرة، انتشرت مقاطع فيديو تُظهر القذافي في أيدي المتمردين بحال يرثى لها، آخذين في جره وشتمه وضربه، وهو يتوسل إليهم ألا يطلقوا الرصاص عليه، لكن لم يشفع له ذلك، حيث أُعدم القذافي بالرصاص، وتم نقله إلى مدينة مصراتة، ثم عُرضت صور أخرى لجثته تأكيداً لموته.
انتخابات تصطدم بالانقسام
وضع مقتل القذافي نهاية لصراع دامٍ، اعتقد الليبيون أنهم مقبلون بعده على مرحلة جديدة أكثر استقراراً ورخاءً، وبعد ثلاثة أيام أعلن المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان يدير دفة المعارضة الليبية آنذاك السيطرة على البلاد بشكل كامل.
وفي 7 يوليو 2012، شهدت البلاد أول انتخابات تشريعية في تاريخها، تخللتها أعمال تخريب وعنف في الشرق، وبعد شهر واحد، سلم المجلس الانتقالي سلطاته إلى المؤتمر الوطني العام (البرلمان).
لكن آمال الليبيين سرعان ما اصطدمت بأحداث شكّلت بداية لمرحلة لم تعرف ليبيا الهدوء بعدها، إذ تعرضت السفارتان الأميركية (سبتمبر 2012) والفرنسية (أبريل 2013) لهجومين، تسبب الأول بمقتل 4 أميركيين بينهم السفير كريستوفر ستيفنز، والثاني بإصابة حارسين فرنسيين، فأغلقت أغلبية السفارات الأجنبية أبوابها، وغادرت طواقمها البلاد.
بعد إحكامها السيطرة على البلاد، طفت على السطح خلافات حادة بين الفصائل الليبية المسلحة، بسبب تباين في الأيديولجيات والولاءات والانتماءات القبلية، ثم انقسمت البلاد إلى معسكرين على الضفتين الشرقية والغربية، وأفضى الصراع إلى سنوات من الفوضى والنزاع المسلح وصعود التنظيمات المتطرفة.
لم تقتصر الهجمات على البعثات الدبلوماسية فحسب، بل تعرّض أيضاً العمال الأجانب لاعتداءات وعمليات خطف على أيدي عناصر ميليشيات أو جماعات متطرفة. وفي ديسمبر 2014، بدأ نفوذ تنظيم داعش يتنامى في ليبيا، وفي يونيو 2015، سيطر التنظيم على سرت، قبل أن يُطرد من المدينة نهاية عام 2016.
حكومتان بأجندات مختلفة
في مايو 2014، أعلن الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر بدء عملية عسكرية ضد جماعات مسلحة شرق ليبيا، ثم تم انتخاب برلمان جديد، جاءت أغلبيته مناوئة للإسلاميين الذين قاطعوه.
تطور الوضع إلى سيطرة ائتلاف "فجر ليبيا"، الذي ضم العديد من الفصائل المسلحة على العاصمة طرابلس، بعد أسابيع من المعارك الدامية، في أغسطس 2014، وأعاد الائتلاف إحياء "المؤتمر الوطني العام"، البرلمان المنتهية ولايته، والذي انبثقت عنه حكومة استقرت شرق البلاد.
أثمرت الجهود الدولية للتهدئة في ديسمبر 2015 عن توقيع ممثلين للمجتمع المدني ونواب في الصخيرات بالمغرب، اتفاقاً برعاية الأمم المتحدة، وأُعلنت حكومة المجلس الرئاسي، ثم نجح رئيس الحكومة فايز السراج في الانتقال إلى طرابلس في مارس 2016، لكن في الشرق، بقيت الحكومة الموازية التي يدعمها حفتر والبرلمان معارضين له.
في ظل هذا الواقع، أصبح في ليبيا برلمانان وحكومتان، ما فتح أبواب البلاد أمام التدخلات الإقليمية والدولية، فانخرط في الصراع المسلح، كما تقول تقارير أممية، العديد من الميليشيات والجماعات الأجنبية.
الهجوم على طرابلس
بعد 3 سنوات من القتال، أعلن الجيش الوطني الليبي، في يوليو 2017، استعادة السيطرة الكاملة على بنغازي من قبضة الجماعات المتطرفة، وفي أواخر يونيو 2018، تمكنت قوات المشير خليفة حفتر من دخول درنة، معقل المتطرفين والمدينة الوحيدة في الشرق التي كانت خارجة عن سيطرته.
ثم بدأ الجيش الوطني في مطلع 2019 هجوماً على الجنوب، مسنوداً بدعم القبائل المحلية، فسيطر على سبها والشرارة، حيث أحد أكبر الحقول النفطية في البلاد.
في الرابع من أبريل، أمر حفتر الجيش بالتقدم نحو العاصمة طرابلس، غير أن المهاجمين واجهوا مقاومة عنيفة من القوات الموالية لحكومة المجلس الرئاسي المدعومة من تركيا.
تدخلات أجنبية
وصل الانقسام في ليبيا إلى ذروته خلال عام 2019، حيث سعى الجيش الوطني جاهداً إلى دخول طرابلس، بينما حاولت القوات المدافعة الصمود بكل ما أوتيت من قوة.
تدخلت تركيا لدعم حكومة المجلس الرئاسي في طرابلس، ووقعت معها اتفاقاً في نوفمبر 2019 لتعزيز التعاون العسكري وترسيم الحدود البحرية، ما قوبل بانتقادات دول عدة منها مصر وفرنسا.
وفي ديسمبر 2019، قالت الأمم المتحدة إن العديد من الشركات والدول تنتهك حظر بيع السلاح المفروض على ليبيا منذ عام 2011، عبر تسليم أسلحة أو إرسال مقاتلين إلى المعسكرين، وذلك بعد أشهر من حديث وسائل إعلام دولية عن مشاركة مرتزقة من مجموعة "فاجنر" الروسية إلى جانب قوات حفتر، في حين أفادت تقارير أخرى بنقل تركيا عناصر من المعارضة السورية لدعم قوات حكومة طرابلس.
وفي الخامس من يناير 2020، أعلنت أنقرة بدء نشر جنود أتراك دعماً لحكومة طرابلس، ما مهد الطريق أمام تقدم القوات الموالية لحكومة السراج، ثم أعلنت الأخيرة أنها استعادت السيطرة على ترهونة، آخر معقل للجيش الوطني في الغرب.
وقف إطلاق النار
بعد محادثات استمرت 5 أيام في جنيف برعاية الأمم المتحدة، وقّع طرفا النزاع في ليبيا في 23 أكتوبر 2020، اتفاقاً لوقف دائم لإطلاق النار، ثم أعلنت مؤسسة النفط الوطنية إعادة فتح آخر حقل نفطي معطل.
وفي 13 نوفمبر، أعلنت الأمم المتحدة أن المندوبين الليبيين المجتمعين في تونس توصلوا الى اتفاق على إجراء انتخابات عامة في 24 ديسمبر 2021.
وأسفر حوار للقوى الليبية في 5 فبراير الماضي عن انتخاب عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة للفترة الانتقالية حتى موعد الانتخابات، إلى جانب مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أعضاء، وفي 10 مارس، منح البرلمان الثقة لحكومة الدبيبة التي حلت محل حكومة المجلس الرئاسي ونظيرتها بقيادة عبد الله الثني.
عودة التوتر
حذّر مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يان كوبيتش، في 15 يوليو الماضي، من أن البلاد تشهد حالة جمود، على الصُعد السياسية والأمنية والمالية.
وفي 9 سبتمبر، صادق رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح على القانون المنظم للانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن خطوته لاقت اعتراضاً بسبب عدم عرض النص على التصويت البرلماني، ثم صوت البرلمان خلال الشهر ذاته على اقتراح بحجب الثقة عن حكومة الوحدة الوطنية، ما أدى إلى عودة التوتر وانفجار الخلافات بين المعسكرين المتنافسين.
وفي 4 أكتوبر الجاري، اعتمد مجلس النواب، الذي ينعقد في الشرق، القانون الذي ينظم الانتخابات التشريعية، في حين اعترض المجلس الأعلى للدولة، وهو بمنزلة هيئة ثانية في البرلمان ومقره طرابلس، فاضطر البرلمان إلى تعديل مواعيد التصويت على أن تجرى الانتخابات الرئاسية في موعدها يوم 24 ديسمبر المقبل، على أن تتبعها الانتخابات التشريعية بعد ذلك بشهر.
تداعيات اقتصادية
حولت سنوات الحرب ليبيا التي تملك أكبر احتياطات نفطية في إفريقيا، من بلد ينعم بالوفرة إلى اقتصاد منهار يعاني كثير من سكانه الفقر والحاجة.
وإضافة إلى عدم الاستقرار الأمني، أدت الانقسامات العميقة بين سلطتين متنافستين تتنازعان السيطرة على "الهلال النفطي"، إلى عجز ليبيا عن استثمار مواردها.
لكن في ديسمبر من العام الماضي، بدأت مؤشرات التغيير الاقتصادي تطل برأسها في البلاد، إذ انتعش الإنتاج النفطي في ضوء تراجع حدة التوتر، ليبلغ 1.3 مليون برميل يومياً، أي 10 أضعاف ما كان عليه في الربع الثالث من عام 2020، لكنه ظل أقل من 1.6 مليون برميل، المستوى الذي كان عليه قبل 10 سنوات.
ظهور سيف الإسلام
خلال حكم القذافي، كان نجله سيف الإسلام الأوفر حظاً بين أشقائه في خلافة العقيد، وفي 19 نوفمبر 2011 ألقى مقاتلو المعارضة الليبية القبض عليه، في منطقة الزنتان شمال غرب البلاد، وقضت محكمة في طرابلس بإعدامه مع آخرين، على خلفية اتهامات من بينها ارتكاب إبادة جماعية.
واختفت أخبار نجل العقيد تماماً لقرابة عشر سنوات، حتى ظنّ البعض أن خصومه ألحقوه بمصير والده، لكن سرعان ما تبددت تلك الظنون، عندما ظهر في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في يوليو الماضي، ليعلن من خلالها أنه حي يرزق وأن من اعتقلوه في الأمس أصبحوا حلفاءه اليوم.
اعتبر القذافي الابن أن تحذيراته التي أطلقها في بداية التمرد ضد نظام والده بشأن انقسام البلاد والانزلاق إلى حرب أهلية صدقت، ثم أعلن في وقت لاحق نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المرتقبة.
اختبار الانتخابات
على مدى العقد المنقضي، استنزفت الحرب الأهلية موارد ليبيا وأرهقت سكانها ودفعت الآلاف منهم إلى الهجرة. واليوم تقف البلاد أمام اختبار تاريخي، سيحدد مصيرها وموقعها على الخريطة الجيوسياسية في السنوات المقبلة، حيث يتطلع الليبيون إلى توافق القوى السياسية وتخطي الاستحقاق الانتخابي بنجاح، ليودعوا سنوات الاضطراب.