شكّل تجمّع أوكرانيين في ملاجئ ومخابئ لم تُستخدم منذ الحرب العالمية الثانية، نتيجة الغزو الروسي لبلادهم، جرس إنذار بالنسبة إلى دول كثيرة في أوروبا، لم تشعر بخطر القصف الجوي، منذ نهاية الحرب الباردة، ناهيك عن إهمال البنية التحتية للمخابئ المُشيّدة خلال نصف قرن، كما أوردت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.
ونقلت عن روزانا فاربويل، وهي مؤرخة للحرب الباردة في جامعة آرهوس بالدنمارك، قولها: "في العالم الغربي، كنا مفتونين جداً بطريقة انتهاء الحرب الباردة، سلمياً في الغالب. أدركنا للتوّ أننا كنا ساذجين".
وذكّرت المجلة بأن الحرب العالمية الثانية اعتماد تكنولوجيات جديدة، مثل القنابل الحارقة، التي استخدمتها قوات الحلفاء في قصف مدينة دريسدن الألمانية، واليابان، من أجل "إرهاب المواطنين وكسر عزيمتهم". وواجهت المملكة المتحدة وألمانيا ودول أخرى، هذا الأمر من خلال الدفاع المدني، الذي يضمن مرونة أثناء الحرب.
وشمل الدفاع المدني التخطيط لعمليات إجلاء من المدن الكبرى، وتدريب مدنيين على إخماد قنابل حارقة، وتطوير دعاية شعبية لإرشاد الجمهور إلى الاستعداد لحالات طوارئ. كذلك شمل برامج واسعة لبناء ملاجئ عامة محصّنة، أولاً في ألمانيا ثم في كل أنحاء أوروبا.
في نهاية الحرب، ومع بدء الصراع بين الاتحاد السوفياتي والغرب، ضخت الحكومات ملايين الدولارات في تشييد قلاع شاسعة تحت الأرض، مثل مقرّ الحرب التابع للحكومة المركزية في المملكة المتحدة، في ويلتشاير بإنجلترا.
ملاجئ فاخرة
وأشارت "فورين بوليسي" إلى أن شركات لتشييد الملاجئ، مثل "أرتيميس بروتيكسيون" Artemis Protection الفرنسية، و"سابتيرانيان سبيسز" Subterranean Spaces البريطانية و"أطلس سيرفايفال شيلترز" Atlas Survival Shelters الأميركية، أعلنت عن زيادة الاهتمام ببنائها، منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا والمخاوف من استخدام أسلحة نووية.
وقال تشارلز هاردمان، مدير "سابتيرانيان سبيسز": "منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في أوكرانيا، لا يتوقف هاتفي عن تلقي مكالمات... كان الجميع خائفين".
تكلّف الملاجئ الفاخرة، مثل تلك التي تشيّدها "سابتيرانيان سبيسز"، مئات الآلاف من الدولارات. كما أن شركات، مثل "فيفوس أندرجراوند سيرفيفال شلترز" (مقرها كاليفورنيا)، بنت ملاجئ بملايين الدولارات، في منشآت حكومية ألمانية وأميركية سابقة.
وفي الأشهر الماضية، زادت بشكل كبير عمليات البحث العالمية عن كلمات، مثل "ملجأ" و"حرب نووية"، في ظلّ مخاوف في أوروبا من استخدام روسيا لأسلحة نووية.
شبكات تحصينات عامة
وحاولت دول، مثل الدنمارك والسويد وسويسرا، التي تعلن امتلاكها شبكات تحصينات عامة واسعة، خلال العقدين الماضيين تحديد وضع دفاعاتها المدنية. وفي ألمانيا والمملكة المتحدة ودول أخرى، أُغلقت مخابئ كثيرة منذ الحرب الباردة، أو حوُلت إلى متاحف.
وقالت زورا شيلبرت، التي تنظّم جولات في مخبأ "سونينبيرج" العام بمدينة لوسيرن السويسرية: "تلقيت مكالمات من أشخاص يسألونني: هل يمكنك أن تخبريننا أين سنذهب إذا اقتربت الحرب في أوكرانيا؟". وأضافت: "هذه الملاجئ هي جزء من تاريخنا. لكنني لم أفكّر أبداً في أنها ستصبح خطة احتياطية".
وطيلة سنوات، كان مسؤولون سويسريون يضغطون من أجل تخفيف قانون أُقرّ في عام 1963، يطالب بتشييد ملاجئ في غالبية منازل العائلات، نتيجة تكاليف البناء المرتفعة والفائض الحالي من مساحة الملاجئ في البلاد.
ومنذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قلّصوا حجم الملاجئ العامة الضخمة، مثل "سونينبيرج". وذكرت شيلبرت أنها وضعت عنوان منزلها في موقع حكومي، لتحديد أقرب ملجأ لها، فتلقت إجابة مفادها أنه لا يوجد أيّ ملجأ متاح، علماً أن سويسرا مشهورة عالمياً بتكنولوجيا المخابئ، التي تشكّل إلى حد ما أيديولوجيا وطنية للدفاع عن الدولة المحايدة.
نصائح بشأن كيفية النجاة
وفي أماكن أخرى، لا يزال الدفاع المدني يؤدي دوراً أساسياً في السياسة الدفاعية، كما في السويد وفنلندا، اللتين تسعيان إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو). واشتهرت فنلندا بتخزين إمدادات طبية ومعدات للبقاء على الحياة، في مخبئها الحكومي.
وبعدما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية، في عام 2014، أصدرت هيئة الدفاع المدني في السويد توصية باستئناف تشييد المخابئ. وفي عام 2018، أصدرت كتيّبات لجميع المدنيين، تتضمّن نصائح بشأن كيفية النجاة من مراحل أولى لحرب تقليدية.
واعتبرت فاربويل أن النهج السويدي "ذكي"، إذ يشجّع التخطيط في وقت يشهد أزمات متعددة ولا يشعر فيه أحد بتهديد. واستدركت أن الدنمارك "ستُترك من دون أدنى فكرة عن كيفية التعامل مع ذلك"، مشيرة إلى أن أيّ محاولات الآن في هذا الصدد "ستندرج في سياق حرب محتملة".
ورأت فاربويل أن إحدى نتائج نهاية الحرب الباردة، تمثلت في أن الشعوب "ليست مستعدة ذهنياً" لمواجهة حرب.
كيف تبدو الملاجئ؟
قال برادلي جاريت، وهو خبير جغرافي ومستكشف مخابئ في كلية دبلن الجامعية بأيرلندا، ومعدّ كتاب "الملاجئ: بناء لأوقات النهاية"، واصفاً ملاجئ عاينها: "ثمة أماكن للنوم، ومطابخ صناعية، وبحيرة تحت الأرض، ومرافق بثّ لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، ومكتبة تضمّ كل وثيقة وخريطة مطلوبة لإعادة تشكيل حكومة المملكة المتحدة. لم أرَ في حياتي شيئاً من هذا القبيل".
"قنبلة القيصر"
فيما كانت الحكومات تشيّد مخابئ أفضل، كانت تطوّر أيضاً قنابل أكثر قوة. وشهد الدفاع المدني تحوّلاً، في عام 1954، بعدما أجرت الولايات المتحدة في جزر مارشال، أول اختبار علني لقنبلة هيدروجينية، تزيد قوتها بألف مرة عن القنبلة النووية التي ألقتها واشنطن على مدينة هيروشيما اليابانية في عام 1945. وفي عام 1961، أنتج الاتحاد السوفياتي ما يُعرف باسم "قنبلة القيصر"، وكانت أقوى بأربع مرات من تلك الأميركية.
وقالت فاربويل إن المملكة المتحدة "تخلّت نوعاً ما عن الدفاع المدني، بعد تطوير القنبلة النووية الحرارية". وبدلاً من تشييد مخابئ، نصحت بريطانيا مواطنيها بالاختباء تحت سلالم أو سدّ نوافذهم بكتب، فيما استثمرت مبالغ ضخمة لتصنيع أسلحة نووية. وبحلول عام 1968، أُغلقت منشآت كثيرة من البنية التحتية للدفاع المدني في بريطانيا.
وفي ألبانيا، شيّدت الحكومة الشيوعية لرئيس الوزراء السابق أنور خوجا، نحو 175 ألف مخبأ من الخرسانة المسلّحة، وأجرت تدريبات منتظمة على صدّ غزو متخيّل.
واعتبرت إميلي جلاس، وهي عالمة آثار بريطانية وباحثة في الملاجئ، أن هذا الشعور المستمرّ بالتهديد ساهم في تبرير قمع انتفاضات محتملة، وغذّى "قومية معادية للأجانب" ميّزت حكم خوجا.
اقرأ أيضاً: