أفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن إدارة الرئيس جو بايدن تواجه، فيما تراجع مسألة تمركز القوات الأميركية في العالم، معضلة التركيز أكثر على الصين وروسيا، من دون تقليل اهتمامها بالتهديدات المديدة في الشرق الأوسط، وإجراء هذا التحوّل بالتزامن مع تقليص محتمل لموازنات وزارة الدفاع (البنتاغون).
وأمر وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بمراجعة "الموقف العالمي" لمدة شهر، بعد أيام على توليه منصبه. وسيقيّم أفضل السبل التي تتيح للولايات المتحدة أن تنظّم وتدعم شبكتها الواسعة من القوات والأسلحة والقواعد والتحالفات، لدعم السياسة الخارجية لبايدن.
والمراجعة هي جزء من جهود الإدارة لرسم مسار للجيش، العالق في نزاعات الشرق الأوسط، والذي يواجه موازنات ثابتة أو متراجعة، ومشكلات داخلية، مثل العنصرية والتطرف.
واعتبرت "أسوشيتد برس" أن لنتائج هذه المراجعة تأثيراً بعيد المدى في أبرز أولويات الجيش: ضمان استعداده للحرب، في عصر يشهد سيطرة ملتبسة على انتشار الأسلحة. كما أن علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها وشركائها على المحك، والتي أضعفتها في بعض الحالات سياسة "أميركا أولاً" التي انتهجتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
وسائل مبتكرة
وترتبط مراجعة أوستن بشكل وثيق، بقرار إداري معلّق، بشأن الإيفاء بتعهد الإدارة السابقة بالانسحاب الكامل من أفغانستان، بحلول 1 مايو المقبل. وهي تتقدّم بشكل منفصل عن تساؤلات بشأن تحديث القوة النووية الاستراتيجية، علماً أن ذلك سيكبّد واشنطن مبالغ طائلة.
ومثل إدارة ترمب، يرى فريق الأمن القومي لبايدن في الصين أبرز تحدٍ أمني على المدى البعيد، وليس في متشددين، مثل تنظيمَي "القاعدة" أو "الدولة". وعكس سلفه، يثمّن بايدن التزامات الولايات المتحدة إزاء الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.
وقد يؤدي ذلك إلى تحوّلات كبرى في الانتشار العسكري الأميركي، في الشرق الأوسط وأوروبا ومنطقة آسيا - المحيط الهادئ، رغم أن هذه التغييرات اختُبرت سابقاً، وسجّلت نجاحاً محدوداً. فقد شعرت إدارة ترمب، مثلاً، بأنها مُضطرة لإرسال آلاف من القوات الجوية والبحرية الإضافية، إلى الخليج العربي في عام 2019، في محاولة لردع ما اعتبرته تهديدات للاستقرار الإقليمي. وشهد بايدن تذكيراً بهذه المشكلة، من خلال العنف الذي هزّ العراق وأفغانستان أخيراً.
وأشارت "أسوشيتد برس" إلى أن ذلك قد يعني أيضاً تبنّي بايدن لجهود بذلها القادة العسكريون أخيراً، بحثاً عن وسائل مبتكرة لنشر القوات، بشكل لا يرتبط بقواعد دائمة، إذ تكبّد الولايات المتحدة تكاليف سياسية ومالية وأمنية. وكمثال حديث على ذلك، زيارة أجرتها حاملة طائرات أميركية إلى مرفأ فيتنامي، إذ يثمّن القادة العسكريون نشر القوات في مجموعات أصغر، وفي حقب أقلّ قابلية للتكهنّ بها، لإبقاء الصين غير متوازنة.
"الأصغر أفضل"
لكن تلميحات التغيير طفت قبل أن يتولّى بايدن منصبه. ففي ديسمبر الماضي، شرح رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي وجهة نظره، بأن التغيير التكنولوجي والجيوسياسي يتطلّب مراجعة الوسائل القديمة لتنظيم القوات وتمركزها.
واعتبر أن بقاء القوات الأميركية سيعتمد على تكيّفها مع صعود الصين، وانتشار تقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وظهور تهديدات غير تقليدية، مثل الأوبئة والاحتباس الحراري.
وقال ميلي: "الأصغر سيكون أفضل في المستقبل. إن قوة صغيرة غير مرئية تقريباً ولا يمكن كشفها، وتكون في حالة حركة دائمة، وموّزعة على نطاق واسع، ستكون قوة يمكنها النجاة (من الأخطار المحدقة بها). لن يحقق المرء أيّ هدف إذا مات".
في السياق ذاته، قال أوستن الشهر الماضي، بشأن تمركز القوات الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ، رداً على أسئلة وجّهها أعضاء في مجلس الشيوخ، خلال جلسة لتثبيت تعيينه وزيراً للدفاع: "لا شك في أننا نحتاج تمركزاً أكثر مرونة وتوزيعاً للقوة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، استجابة لقدرات الصين ونهجها في التدخل المضاد، مدعوماً بمفاهيم تشغيلية جديدة".
كذلك أشار أوستن إلى قلقه بشأن التنافس مع روسيا في القطب الشمالي، التي "تتحوّل بسرعة إلى منطقة تنافس جيوسياسي، ولديّ مخاوف جدية بشأن التعزيزات العسكرية لروسيا، وسلوكها العدواني في القطب الشمالي، وحول العالم. وبالمثل، أنا قلق جداً بشأن النيات الصينية في المنطقة".
القطب الشمالي
هذا لا يعني التخلّي عن المراكز الضخمة للجيش الأميركي في الخارج، لكنه يشير إلى مزيد من التركيز على نشر مجموعات أصغر من القوات، في فترات تناوب أقصر إلى وجهات غير تقليدية.
واعتبرت "أسوشيتد برس" أن هذا التحوّل جارٍ، إذ أن الجيش يطوّر "لواءً" من جنود قادرين على الانتشار في القطب الشمالي، وهي منطقة تماس محتملة، إذ تتنافس قوى كبرى على موارد طبيعية يمكن الوصول إليها بشكل أكبر، مع انحسار كتل جليدية. وأرسل سلاح الجوّ الأميركي، للمرة الأولى، قاذفات بعيدة المدى من طراز "بي-1"، إلى النرويج، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي وجارة لروسيا.
تعتبر الصين نفسها دولة في القطب الشمالي، لكن اهتمام الولايات المتحدة بشأنها ينصبّ على سياساتها الصارمة بشكل متزايد في آسيا والمحيط الهادئ. وترى واشنطن أن بكين تستهدف بناء قوة عسكرية تمكّنها من ردع، أو منع، أي جهد أميركي للتدخل في تايوان، التي تعتبرها الصين جزء لا يتجزأ من أراضيها.
ووصف تقرير أعدّه "مجلس العلاقات الخارجية" هذا الشهر، تايوان بأنها الشرارة الأكثر ترجيحاً لحرب بين الولايات المتحدة والصين، وهذا احتمال عواقبه الإنسانية وخيمة، اعتبر المجلس أنه "يجب أن يشغل فريق بايدن". ونبّه التقرير إلى أن "ملايين الأميركيين قد يموتون، في أول حرب في تاريخ البشرية بين دولتين نوويتين".
مبالغة الصين
كذلك أعربت واشنطن عن قلقها بشأن جهود بكين لتحديث ترسانتها النووية، وربما توسيعها، علماً أنها ترفض المشاركة في أي مفاوضات دولية للحدّ من الأسلحة النووية.
بدأ التركيز الشديد على الصين، خلال إدارة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما. وذهبت إدارة ترمب أبعد من ذلك، بإعلانها رسمياً أن الصين وروسيا، لا الإرهاب العالمي، هما أبرز تهديد للأمن القومي للولايات المتحدة.
لكن بعضهم يتساءل الآن هل أن هذا التحوّل ذهب بعيداً. وقال كريستوفر ميلر، الذي شغل منصب وزير الدفاع بالوكالة في الشهرين الأخيرين من رئاسة ترمب، إنه يوافق على أن الصين هي أبرز تهديد للأمن القومي.
واستدرك ميلر أن قادة عسكريين أميركيين في أماكن أخرى من العالم، أبلغوه أن التركيز على الصين يكبّدهم موارد ضرورية. وزاد: "لذلك شعرت بأن الوقت حان لإعادة التفكير في هذا الأمر، والتأكد من أننا لم نُحدِث أي عواقب غير مقصودة".