أرجعت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية التقدم الروسي في أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة، إلى مدى تحسن موسكو في توصيل الإمدادات إلى قواتها عبر خطوط السكك الحديدية التي تنقل أطناناً من الذخيرة والإمدادات الأخرى.
وعلى الرغم من المعاناة التي واجهتها موسكو في بداية الحرب، فإن الصحيفة الأميركية اعتبرت أن أساليب الشحن القديمة تلك التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، كانت كلمة السر وراء التقدم الروسي في شرق أوكرانيا، تحت ستار من القصف المدفعي العنيف.
والقطارات هي الوسيلة الرئيسية التي يستخدمها الجيش الروسي لنقل قواته وأسلحته الثقيلة، ومن ثم فإن شبكات السكك الحديدية الكثيفة في منطقة دونباس الصناعية لعبت دوراً محورياً لمصلحة موسكو.
ويعتمد الجيش الروسي بقوة على القطارات إلى درجة أنه يتمسك بقوة "السكك الحديدية النخبوية"، وهي فرع خدمي بالجيش كان منتشراً في عدد من الدول في فترة الحرب العالمية الثانية.
وتمتلك الوحدة الروسية عربات قطار مصفحة ومطلية بألوان بغرض التمويه، ومجهزة بمدافع مضادة للطائرات ومدفعية لحراسة القطارات التي تحمل الإمدادات. كما أن هذه القوات مدربة على إصلاح الطرق التي تعرضت للقصف، حتى لو كانت تعمل تحت وطأة نيران العدو.
ووفقاً للصحيفة، فإن وزارة الدفاع الروسية أعلنت أنها استعادت 750 ميلاً من السكك الحديدية في الممر البري الذي تسيطر عليه الآن في جنوب شرق أوكرانيا.
أليكس فيرشينين، الضابط الأميركي المتقاعد، والمتخصص في تحليل اللوجستيات العسكرية الروسية، قال للصحيفة إنه "حتى إذا دمر الأوكرانيون خطوط السكك الحديدية، فإن ذلك سيؤدي فقط إلى إبطاء حركة الروس، ولكنه لن يوقفها".
فجوات لوجيستية خطيرة
ولكن اعتماد الروس على النقل بالقطارات، وهي تكنولوجيا تعود إلى القرن التاسع عشر، يكشف عن فجوات خطيرة في قطاع الخدمات اللوجستية، وخاصة فيما يتعلق بنقل الإمدادات بحسب "وول ستريت جورنال".
وأدت الصعوبات التي واجهتها روسيا لتوصيل الإمدادات لقواتها المتمركزة بعيداً عن خطوط السكك الحديدية إلى إبطاء وتيرة غزوها لأوكرانيا، وأسهمت في الإخفاقات الكارثية التي لازمت هجماتها المبكرة من أجل السيطرة على كييف وخاركوف.
واعتبرت الصحيفة أن هذه الصعوبات يمكن أن تشكل ملامح الصراع في المستقبل.
وبعكس الولايات المتحدة والدول الأخرى التي تبنت أنظمة لوجستية عسكرية حديثة، ظلت روسيا إلى حد كبير متمسكة بأساليب الحقبة السوفيتية التقليدية، وهو ما لم يكن "مجرد مؤشر على الإخفاق العسكري"، وإنما علامة على قصور مرتبط بالأساس بـ"افتقار الاقتصاد الروسي إلى الحداثة"، حسب ما نقلت "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين غربيين.
نظام لوجيستي عتيق
تتباهى روسيا بأن لديها واحدة من أكبر القوات العسكرية في العالم، وهي مجهزة بغواصات نووية وصواريخ باليستية عابرة للقارات، لكنها برغم ذلك، لا تمتلك سوى عدداً قليلاً من حاويات الشحن، والرافعات الشوكية، والمنصات النقالة من النوع الذي تستخدمه الولايات المتحدة لتسريع دخول الإمدادات إلى أوكرانيا، وفقاً لخبراء في الخدمات اللوجستية.
وبدلاً من النظام اللوجيستي الآلي المتطور الذي تستخدمه الشركات والجيوش الغربية منذ عقود، يعتمد الجيش الروسي على العمالة المجندة الوفيرة لنقل العتاد المعبأ في صناديق خشبية بحجم التوابيت يصعب حملها.
وقال ترينت تلينكو، الذي قضى 33 عاماً، في وكالة إدارة عقود الدفاع، التابعة للبنتاجون، وعكف على دراسة النظام اللوجيستي العسكري الروسي، لـ "وول ستريت جورنال": "لقد أنشأت الولايات المتحدة نظاماً لوجيستياً وكأننا نعاني من عجز في القوة البشرية، فيما أنشأت روسيا نظامها وكأن الأيدي العاملة لديها بلا حساب".
وبرغم ما تتمتع به إدارة سلاسل التوريد من ازدهار في معظم دول العالم، إلا أنه، وفقاً لأحدث تقرير لـ"مؤشر أداء الأنظمة اللوجستية"، الصادر عن البنك الدولي، فإن روسيا تقبع منذ عام 2018، في المرتبة 75 من 160 دولة، بين باراجواي وبنين، فيما تحتل ألمانيا المرتبة الأولى، والولايات المتحدة الرابعة عشر، والصين السادسة والعشرين.
ويعتمد نقل البضائع الحديثة على الحاويات ذات الأحجام المعيارية التي تناسب الشاحنات، وعربات القطارات، والسفن، ومعدات الرفع.
ووفق بيانات الأمم المتحدة، فقد تعاملت محطات الحاويات الروسية في 2020 مع عدد حاويات يفوق بقليل كولومبيا، وأقل من فرنسا.
كما ظل حجم مرور الحاويات عبر روسيا ثابتاً إلى حد كبير منذ عام 2013، فيما ارتفع الحجم العالمي بنسبة 23% خلال الفترة نفسها.
سكك حديدية بمقاييس مختلفة
ويقوم الروس بتحميل البضائع يدوياً في عربات السكك الحديدية التي تسافر عبر نظام السكك الحديدية الوطني، الذي يشكل العمود الفقري لشبكة الشحن في البلاد.
وتصل السكك الحديدية إلى بقاع قليلة السكان في سيبيريا، حيث قام عمال السخرة من العبيد في "جولاج" (معتقل سيبيريا) بالعمل في مد الكثير من هذه الخطوط في عهد ستالين.
واستخدم الاتحاد السوفيتي خطوط سكك حديدية بمقاييس أكبر من تلك المستخدمة في أوروبا الغربية، لإحباط أي غزو قد تتعرض له البلاد، من بين أسباب أخرى.
ولكن، في السنوات الأخيرة، أدى هذا التفاوت إلى إبطاء التجارة عبر خطوط السكك الحديدية مع الدول الأخرى، ما أدى إلى زيادة عزلة صناعة الخدمات اللوجستية في روسيا.
وتمتلك أوكرانيا، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي، نفس خطوط السكك الحديدية ذات المقاييس العريضة، ما جعل من السهل على القطارات الروسية السير عليها أثناء الغزو.
وبرغم كونها أكبر دولة في العالم من حيث مساحة اليابسة، لا يزيد طول الطرق السريعة في روسيا عن 963 ألف ميل، وفقاً للأرقام الصادرة في 2020 عن وكالة الإحصاء الحكومية الروسية، ما يترك بعض المدن الأصغر حجماً من دون إمكانية الوصول إلى شاحنات نقل البضائع الكبيرة.
على الجانب الآخر، تمتلك الولايات المتحدة التي تقل مساحتها عن 60% من مساحة روسيا طرقاً سريعة يبلغ طولها 4.2 مليون ميل، وفقاً للبيانات الصادرة عن الحكومة الأميركية.
وتنعكس قلة أعداد الشاحنات المدنية في روسيا على جيشها الذي عانى طويلاً من نقص الشاحنات.
وكان محللو المعلومات الاستخباراتية الغربيون في فترة الحرب الباردة يحكمون على جهوزية السوفيت للمعارك بانتشار الشاحنات التابعة للجيش لمساعدة المزارع على جمع المحاصيل، وليس لنقل القوات.
نقص الوقود والغذاء
بعد أيام من غزو موسكو لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي، أجرى جندي روسي اتصالاً لا سلكياً برفاقه ليشتكي من أنه عالق.
وقال الجندي، الذي يدعى بوران، (30 عاماً)، عبر تردد مفتوح التقطته شركة الاستخبارات "شادوبريك إنترناشيونال": "أريد فقط محطة بنزين. المعدات توقفت عن العمل".
وفي الأسابيع التالية، تخلى الجنود الروس عن عشرات المركبات العسكرية التي نفد منها الوقود، أو كانت بحاجة إلى قطع غيار، وفقاً للاستخبارات الأوكرانية والغربية.
كما باتت شاحنات الوقود، المصفحة قليلاً، والتي يمكن أن تصبح بمثابة قنابل متفجرة، ومركبات الإمدادات الأخرى هدفاً سهلاً للمقاتلين الأوكرانيين. ومن ثم، فقد عانت القوات الروسية جراء نقص الوقود والغذاء والذخيرة.
لم تكن الفعالية وسلامة العمال، التي تمثل أهدافاً أساسية للعمليات اللوجستية الربحية في الغرب، ضمن أولويات مسؤولي التموين في موسكو بحسب الصحيفة الأميركية.
وكانت الصناديق الروسية المصنوعة من الخشب، والتي يمكن أن يزيد وزنها عند امتلائها عن 100 باوند، مماثلة للصناديق التي استخدمتها الولايات المتحدة في أربعينيات القرن الماضي.
وقال جيورجي، وهو روسي تم تجنيده في لواء دعم لوجستي في 2016، وطلب تعريفه باسمه الأول فقط لـ "وول ستيت جورنال: "لقد استدعوا الجميع بخلاف الضباط، وجعلوهم يحملون الأشياء إلى داخل الشاحنات".
النظام اللوجيستي الأميركي
وقال مانلي إروين، أستاذ الاقتصاد في جامعة نيو هامبشاير، والذي يدرس تاريخ البحرية الأميركية، إن الولايات المتحدة قاومت ميكنة اللوجستيات العسكرية في العقود الأولى من القرن العشرين، بهدف الحفاظ على السلام مع النقابات العمالية التي تمثل عمال الموانئ المدنيين الذين يحملون الإمدادات الحيوية، لكن هذا الوضع تغير في الحرب العالمية الثانية.
وفاقت سرعة قوات مشاة البحرية الأميركية، التي كانت تتنقل عبر المحيط الهادئ لمطاردة القوات اليابانية، سرعة الإمدادات.
ولتسريع حركة المؤن درست البحرية أنظمة النقل التي تستخدمها الشركات الأميركية، واستعانت بمديري الشركات للمساعدة في تطوير الخدمات اللوجستية العسكرية.
ووجدت دراسة أجريت في وقت الحرب أن ساعات العمل المطلوبة لتحميل وتفريغ سفن الإمدادات يمكن اختصارها إلى 203 ساعات، بدلا من 682، وذلك عن طريق استخدام أنظمة الرافعات الشوكية والمنصات الناقلة.
وقال إروين إن "ما ساعد على توفير هذه الساعات هو الاعتماد على صناعة نقل الخدمات اللوجستية"، حيث اثبتت الرافعات الشوكية أهميتها للجيش الأميركي إلى درجة تصنيف الكتابات الخاصة باستخداماتها المتباينة وطرق عملها المتنوعة في وقت الحرب على أنها سرية.
تغير في عهد بوتين
شهد الاقتصاد الروسي في عهد الرئيس فلاديمير بوتين تقدماً تجاوز من خلاله ممارسات الحقبة السوفيتية. ولكن الاستثمارات ركزت بدرجة كبيرة على قطاعات الموارد التعدينية، مثل البترول والمعادن، بدلاً من أنظمة التصنيع والخدمات اللوجستية المتقدمة.
وسمح تخفيف القيود الاقتصادية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي للبلاد بالحصول على تكنولوجيا أكثر تقدماً، ومعدات إنتاج فائقة الجودة، إلى جانب الاستعانة بمديرين أجانب ذوي خبرات. لكن هذا أيضاً زاد من اعتماد روسيا على الأجانب لبناء قاعدتها الصناعية.
ولم تبدأ الأدوار المتخصصة في مجال الصناعة، مثل الإشراف على سلسلة التوريد، في ترسيخ جذورها في الشركات الروسية إلا في عام 2014، عندما توترت العلاقات بين روسيا والغرب إثر استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
ومن المتوقع أن تؤدي العقوبات التي فرضت مؤخراً على روسيا على خلفية غزوها لأوكرانيا إلى انتكاسة النظام اللوجستي الروسي بدرجة أفدح.
ووفقا لما نقلته "وول ستريت جورنال"، قال المحللون إنه بدون توافر خبرات لوجستية محلية، فإن الجيش الروسي سيفتقد النموذج لتحدي مقاومته للتغيير، وهو ما يميز القوات المسلحة بوجه عام.
نموذج فيتنام وخبرات القطاع الخاص
في عام 1965 أنقذت خبرات القطاع الخاص البنتاجون، عندما كثفت واشنطن قواتها في فيتنام، وتراكمت المؤن والإمدادات على شواطئ الدولة المحاصرة، وانتظرت السفن أسابيع لتفريغ حمولاتها.
في ذاك الوقت، أقنع رجل الأعمال الأميركي الرائد في مجال الشحن، مالكولم ماكلين، الذي قاد تطوير حاوية الشحن القياسية قبل هذا العام بعقد من الزمان، وزارة الدفاع بتبني ابتكاراته. وخاطر باستثمار أمواله الخاصة في بناء محطة حاويات في خليج "كام رانه" في فيتنام.
وقال مارك ليفينسون، مؤلف كتاب The Box، والذي سرد فيه تاريخ حاويات الشحن، إن "كثير من ضباط الجيش عارضوا فكرة الحاويات في فيتنام، وتبنوا موقفاً مفاده "ليس هذا مكان أو وقت الابتكار".
وأضاف: "ولكن، في غضون وقت قصير للغاية، تمكنت الحاويات من حل مشاكل الجيش. وكانت بمثابة نقلة حقيقية في قدرة الأميركيين على خوض الحرب".
وقال ليفينسون إن استخدام الحاويات من قبل الجيش أدى إلى زيادة الطلب سريعاً لدى شركات نقل البضائع المدنية.
وفي وقت مبكر من هذا العام، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير، هبط عدد كبير من طائرات الشحن الأميركية في مطار بوريسبيل في العاصمة الأوكرانية كييف.
ونقلت الشاحنات الآلية منصات صواريخ "جافلين" المضادة للدبابات، وقذائف وذخيرة المدفعية إلى الرافعات الشوكية، التي رفعتها بدورها إلى شاحنات عسكرية متجهة إلى قواعد في جميع أنحاء أوكرانيا.
وساعدت عمليات التسليم السريعة الأوكرانيين على منع القوات الروسية من دخول العاصمة كييف.
نظام تحميل وشحن يدوي
ويتجسد التزام الجيش الأميركي بأتمتة الخدمات اللوجستية في نظام صواريخ المدفعية عالية الحركة التي وعد الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخراً بإرسالها إلى أوكرانيا، حيث تمتلك الشاحنة، التي يبلغ وزنها 5 أطنان، أذرع روبوتية تقوم بتحميل الصواريخ الجاهزة للإطلاق، والتي يمكن أن يقوم جندي واحد بتشغيلها.
في المقابل يجب أن يتم تحميل وإعداد الأنظمة الصاروخية المماثلة في روسيا يدوياً، عن طريق فريق من الجنود.
وقال ترينت تلينكو، المسؤول السابق في البنتاجون، والذي تابع تطورالأنظمة المميكنة على مر سنوات، لـ"وول ستريت جورنال" إن "التناقض بين البلدين يعكس كيفية تعامل مجتمعاتهما مع المخاطر"، مشيراً إلى أنه "في الولايات المتحدة دفعت المساءلة العامة واحتمالات التقاضي بالجيش إلى تقليل احتمالية الخطأ البشري إلى أقصى درجة ممكنة في قطاع الخدمات اللوجستية".
وأضاف أن "هناك نفوراً ثقافياً تجاه المخاطر المرتبطة بسلاسل توريد الجيش الأميركي، وهذا على النقيض تماماَ من الوضع في روسيا".
وتحقق السلامة والكفاءة المضاعفة مكاسب إضافية للبنتاجون، تتمثل في تقليل المدفوعات للمحاربين، والتي تمثل تكلفة طائلة، وتوفير مبالع أكبر للعمليات، والتدريب، والمعدات.
وأوضح تلينكو: "لا يمكن أن يكون الجيش أفضل من النظام الاجتماعي الذي خرج من رحمه".