تستمر أزمة تعديل المناهج في السودان في التصاعد، وإثارة الجدل، سياسياً وشعبياً، في أعقاب استقالة مدير المناهج والبحث التربوي عمر القراي.
وقالت مصادر في الحكومة الانتقالية لـ"الشرق" إن رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وافق على استقالة القراي، ومن المتوقع إعلانها رسمياً عقب عودة حمدوك من زيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة.
وأضافت المصادر أن حمدوك متمسك بقبول الاستقالة، على الرغم من محاولات ثنيه عن هذه الخطوة.
وبدأت حملة انتقادات واسعة على المنابر ومواقع التواصل الاجتماعي ضد القراي، عقب صدور كتاب مادة التاريخ للصف السادس الابتدائي يحتوي على صورة "خلق آدم" للرسام العالمي "مايكل أنجلو".
وتعرض القراي، الذي يُعرف بانتمائه لـ"الحزب الجمهوري" ذي التوجهات الفكرية المخالفة للتيار الإسلامي في السودان، لانتقادات واسعة منذ اللحظة الأولى، التي عيّن فيها للإشراف على تطوير المناهج في البلاد.
"لجنة قومية"
حملة الانتقادات الواسعة، شهدت انضمام بعض أئمة مساجد باعتبار أن هذه اللوحة تصور "الذات الإلهية"، وازدادت الحملة ضد القراي لدرجة أن دعا بعض أئمة المساجد لـ"تكفيره والمطالبة بهدر دمه".
ولم تتوقف التعبئة الشعبية ضد القراي عند المنابر الدينية، بل امتدت إلى اقتحام البعض لمركز تطوير المناهج في الخرطوم، مرددين شعارات تصف القراي بإنه "عدو الله".
وقبل أن تهدأ هذه الحملة، أصدر حمدوك قراراً بتجميد العمل بالمقترحات المطروحة من إدارة المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، لإعداد مناهج تربوية جديدة في البلاد، ما أثار المزيد من الجدل والانقسام.
وقال حمدوك في تصريح صحافي إن قضية إعداد المناهج تحتاج إلى "توافق اجتماعي واسع"، داعياً إلى أن تستند المناهج الجديدة إلى أسس علمية "تشحذ التفكير وتنمّي قدرات النشء وتحفز القُدرات الإبداعية على التفكير والابتكار".
وأعلن حمدوك تكوين "لجنة قومية" تضم تربويين وعلماء متخصصين، تمثل مختلف الآراء والتوجهات في المجتمع، لتعمل على إعداد المناهج الجديدة.
صراع سياسي
وعلى إثر القرار، تقدم مدير المركز القومي للمناهج في السودان عمر القراي باستقالته، احتجاجاً على تجميد العمل بالمقررات الدراسية الجديدة، متهماً الحكومة الانتقالية بـ"الإذعان لأصوات أنصار الرئيس المعزول عمر البشير".
وقال الخبير التربوي عبدالله حسب الله لـ"الشرق" "عادة ما يحدث تعديل وأخطاء تصاحب عملية تغيير المناهج، لكن ما يحدث الآن ليس بصراع خبراء وإنما صراع سياسي أيديولوجي لتمرير أجندة سياسية على حساب أخرى".
وطالب الخبير التربوي الجميع بـ "إعطاء دور للخبراء التربويين من أجل تعديل المناهج من دون مصادرة حقهم، وبعض ما ورد يحتاج إلى مراجعة وإصلاح"، متابعاً أن "المناهج تخضع لتقييم الأكاديميين فقط وهي ليست قراراً سياسياً، ليتم طرحه على وسائل الإعلام".
أستاذ التربية في "جامعة الخرطوم" أشرف عبدالرحمن قال لـ"الشرق"، إن "ثورة ديسمبر هي ثورة تغيير شامل، وليست ثورة جياع، وبالتالي لم يخرج الناس من أجل المطالبة بتوفير الخبز والوقود والنقود فقط، وإنما خرجوا من أجل التغيير وتحقيق الحرية والسلام والعدالة". ورأى أن "قضية تغيير المناهج هي إحدى مطالب الثورة السودانية، وبما أن الحكومة الانتقالية تختص بتحقيق أهداف الثورة فكان لزاماً عليها أن تسعى لتغيير المناهج من طرف متخصصين وتربويين".
وتابع أشرف قائلاً: "بحسب معلوماتي فإن المركز القومي للمناهج كوّن لجاناً من متخصصين في مجال وضع المناهج إلا أن نتائج هذه اللجان أغضبت البعض ممن لا يريدون التغيير، وهذا أمر طبيعي"، مشيراً إلى أن "أي تغيير يجد معارضة من الحرس القديم الذي ربما تتضرر مصالحه من تغيير مناهج الإخوان المسلمين وغيرهم من الجماعات المتطرفة أو الوسطية، بفعل مشرط التغيير، الذي حذف جزءاً من تاريخ مدمر لعقول التلاميذ لأنه يحمل في طياته سنوات عجافاً من القتل والحرب والخراب والدمار ومحشو ببطولات زائفة".
تعارض آراء
أحزاب السودان المختلفة، أدلت هي الأخرى بدلوها في قضية الساعة. وفي السياق، انتقد حزب "المؤتمر السوداني" (أحد أحزاب الائتلاف الحاكم)، المعروف باتجاهاته الوسطية، قرار حمدوك"، مطالباً بأن "تعطى المناهج، لأهل التخصص بعيداً من أصوات المنابر".
ووصف الحزب قرار رئيس الوزراء بأنه "غير صائب وغير مقبول"، ويتنافى مع طبيعة القضية موضوع القرار، كونها قضية فنية في الأساس".
ورأى في بيان أن "استناد القرار على استشارة جهات دينية وسياسية بعينها وتجاهل استشارة الجهات والمؤسسات ذات التأهيل العلمي والفني والخبرة في وضع المناهج أمر مخل".
ودعا البيان إلى إسناد أمر المناهج الدراسية الجديدة لجهات التخصص في وزارة التربية والتعليم مع مراجعة فعاليتها وتذليل معوقات عملها.
واقترح على الوزارة تنظيم مؤتمر قومي للتعليم يشارك فيه أوسع طيف ممكن من ذوي التخصص والخبرة والدراية لمناقشة قضايا التعليم كافة، بما فيها المناهج.
في المقابل، أيدت هيئة "الختمية" إحدى أكبر الطوائف الدينية بالبلاد قرار رئيس الوزراء بتجميد التعديلات على المناهج الدراسية، معتبرة أنه "يحسم الفتنة ويئدها في مهدها".
وأكدت الهيئة في بيان "ضرورة عقد مؤتمر جامع لقضايا التعليم يدعى له ذوو التخصص ليعالج ما شاب الحقل التعليمي من شوائب وما اعترض مسيرته من عوائق".
وشددت على تدارك الأخطاء التي أدت إلى هذه الأزمة والعمل على سد منافذها باختيار ذوي الكفاءات الحقيقية لشغل هذه المواقع الحساسة بعيداً من المحاصصة والترضيات.