من "الحرير" إلى "الحزام والطريق".. كيف تسعى الصين لإحياء نفوذها وعلاقاتها مع العرب؟

جانب من الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون بين الصين والدول العربية في قاعة الشعب الكبرى في بكين، 10 يوليو 2018 - AFP
جانب من الاجتماع الوزاري الثامن لمنتدى التعاون بين الصين والدول العربية في قاعة الشعب الكبرى في بكين، 10 يوليو 2018 - AFP
دبي-عبير مطرهاجر بيوض

مليارات الحاويات.. ملايين السفن.. وتريليونات الدولارات. هكذا تبدو حركة التجارة العابرة من الصين إلى شتى أنحاء الأرض. تفتح هذه التجارة الباب أمام بكين لمحاولة التغلغل في أنحاء العالم، ليس من بوابة السياسة، وإنما من بوابة الاقتصاد.

وتشير إحصاءات التجارة مع الصين إلى أنها ترتبط بحركة واردات وصادرات تخطت 6 تريليونات دولار أميركي خلال عام 2021، بحسب صحيفة "الشعب" الرسمية الصينية.

ووفقاً لمتحدث الإدارة العامة للجمارك الصينية مدير إدارة الإحصاء والتحليل لي كويوين، فإن هذه المرة الأولى التي تحقق فيها التجارة الخارجية الصينية هذا الرقم، بعد 8 سنوات من وصولها لأول مرة إلى 4 تريليونات دولار أميركي (عام 2013)، وبلغت الزيادة في التجارة الخارجية خلال ذلك العام 1.4 تريليون دولار.

لكن هذه ليست الحكاية بكاملها، إذ تشير الأرقام إلى نمو مستقر لواردات وصادرات الصين مع البلدان الواقعة على طول "الحزام والطريق". فخلال تلك الفترة زادت واردات الصين وصادراتها إلى البلدان الواقعة على طول المبادرة بنسبة 23.6%، بزيادة قدرها 2.2% عن معدل النمو الإجمالي.

وبحسب صحيفة "الشعب"، فإن أسرع وأكبر 5 شركاء تجاريين للصين في عام 2021، هم دول "رابطة دول جنوب شرق آسيا" (آسيان) والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، بزيادة في قيمة الواردات والصادرات بـ19.7% و19.1% و20.2% و9.4% و18.4% على التوالي.

ذلك التنامي الكبير في حجم التجارة، ينبع أساساً من الرغبة الصينية في دفع الشراكات التجارية وتعزيز النفوذ الاقتصادي، عبر مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها بكين عام 2013، وتسعى من خلالها إلى التوسع اقتصادياً، وإعادة إحياء "طريق الحرير" التاريخي، الذي ازدهرت عبره الإمبراطورية الصينية.

قرون طويلة

منذ عام 130 قبل الميلاد وحتى عام 1453 بعده، اعتبر "طريق الحرير" شرياناً تجارياً رئيسياً يربط بين الشرق والغرب. فقد كان يمتد لقرابة 10 آلاف كيلومتر من الصين وحتى أوروبا، ممثلاً حلقة وصل بفرعيه الشمالي والجنوبي، بين حضارات قديمة من الصين والهند إلى مصر والرومان. 

وامتدت تلك الطريق من المراكز التجارية في شمال الصين، فمرَّ الفرع الشمالي منه عبر شرق أوروبا وشبه جزيرة القرم حتى البحر الأسود وصولاً إلى البندقية، بينما عبر الفرع الجنوبي منه العراق وتركيا إلى البحر الأبيض المتوسط أو عبر سوريا إلى مصر وشمال إفريقيا.

ويرجع السبب في تسميته بـ"طريق الحرير" إلى ازدهار تجارة "الحرير الصيني" إلى الإمبراطورية الرومانية، ما دفع المؤرخ الألماني فرديناند فون ريشتهوفن إلى إطلاق ذلك الاسم عليه.

لكن الواقع، بحسب ما تقول منظمة "يونيسكو"، هو أن تلك الطريق لم تكن طريقاً تجارية فحسب، بل امتدت وتطورت بمرور الوقت، وفقاً للسياقات الجيوسياسية المتغيرة عبر التاريخ، كما أنها مثلت نهراً ثقافياً اختلطت فيه الثقافات والأديان، وتقاطعت معها الشعوب لتنكشف على ثقافات بعضها البعض. 

انقطاع ومحاولات إحياء

في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، حلّت اللحظة التي تغيرت معها مجريات الأمور بالنسبة لـ"طريق الحرير". إذ أعلنت الإمبراطورية العثمانية آنذاك فرض ضرائب كبيرة على التجارة مع الصين، ما دفع الأوروبيين إلى وقف التجارة عبر الطرق المارة من الصين إلى أراضي الإمبراطورية العثمانية، لتضع بذلك نهاية للتجارة المتدفقة عبر الطريق. 

لكن منذ ذلك الحين، لم تتوقف محاولات الصين لإعادة إحياء الطريق. وفي مطلع التسعينيات بدأت محاولات لإنشاء طريق الحرير الجديد، من بينها ما عرف بـ"الجسر البري الأوروبي الآسيوي"، الذي يربط بين الصين وكازاخستان ومنغوليا وروسيا، ويصل إلى ألمانيا بسكك حديدية.

ورغم ذلك، لم تتحول تلك المحاولات إلى جهود حقيقية مكثفة سوى في سبتمبر عام 2013، حين أعلن الرئيس الصيني شي جين بينج خلال زيارته إلى كازاخستان خطته لتأسيس طريق حرير جديد يصل الصين بأوروبا، تحت اسم "الحزام والطريق" وشعار "حزام واحد.. طريق واحد"، باستثمارات متوقعة تتراوح بين 4 و8 تريليونات دولار بعد انتهائه.

تبادل الوثائق بين الصين ونيبال خلال حفل توقيع يتعلق بمبادرة
تبادل الوثائق بين الصين ونيبال خلال حفل توقيع يتعلق بمبادرة "حزام واحد.. طريق واحد" الصينية، كاتماندو، 12 مايو 2017 - AFP

نطاق واسع

ويستهدف المشروع الذي أعلنه الرئيس الصيني قبل نحو عقد، تعزيز التجارة بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، إلى جانب "التركيز على السلام العالمي والازدهار الحضاري الصيني". وقد بدأت المبادرة بانضمام 60 دولة، وتوسعت لتشمل حالياً أكثر من 140 دولة، بما في ذلك دول في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية.

في وقت لاحق، من المرجح أن تستوعب المبادرة أكثر من 2600 مشروع عالمي، بقيمة 3.7 تريليون دولار. وتقول الصين التي تسعى إلى مواجهة الانتقادات الموجهة لمشروعها، إنَّ الجزء الرابط بين الصين والشرق الأوسط يقلل المسافة البحرية البالغة 13 ألف كيلومتر إلى 3 آلاف كيلومتر فقط. 

تسمية المشروع الصيني جاءت من المسارات الـ6 التي تتبعها المبادرة الجديدة، فالطريق الأولى تمتد على شكل حزام ينطلق من العاصمة الصينية مروراً بآسيا الوسطى، لتجتاز حدود أوروبا من إسطنبول باتجاه الأراضي الروسية، ثم تعود مجدداً نحو وجهتها الأخيرة، أوروبا.

هذا بالنسبة للحزام، أما عن الطريق، فبحسب المخطط الصيني ستنشئ الصين ممراً بحرياً عابراً للمحيطات والقارات. صحيح أنه أطول من الطريق البرية، لكنه أكثر حيوية، نظراً لكونه شرياناً رئيساً تمر عبره إمدادات الطاقة والتبادلات التجارية.

نصيب العرب

بالنظر إلى خريطة المسارات الستة، لن يكون للدول العربية نصيب في المخطط الأصلي لمبادرة الحزام والطريق، لكن الصين تدرك أهمية المنطقة العربية التي تطفو فوق مخزون من النفط يناهز 657 مليار برميل، أي ما يعادل نحو 40% من احتياطات النفط العالمية، وهي المنطقة نفسها التي تحصل منها بكين على ما يقرب من نصف احتياجاتها السنوية من النفط، كما أن مكانها يعتبر ممراً حيوياً لحركة البضائع والتجارة العالمية. 

وبحسب المكتب الوطني للإحصاء في الصين، بلغ إجمالي قيمة الاستثمارات الصينية في السعودية خلال عام 2021 حوالي 514 مليون دولار.

حجم الاستثمارات الصينية في السعودية خلال 2021 - الشرق
حجم الاستثمارات الصينية في السعودية خلال 2021 - الشرق

وبلغت تدفقات الاستثمارات الصينية إلى الإمارات خلال العام نفسه 894 مليون دولار، في حين بلغت تدفقات الاستثمارات الصينية إلى مصر 195.7 مليون دولار، إضافة إلى تدفقات استثمارية بقيمة 184.7 مليون دولار في الجزائر، و178 مليون دولار تدفقات استثمارية في العراق خلال الفترة ذاتها.

ليس هذا فحسب، فالمنطقة بموقعها الذي يمتد بين آسيا وإفريقيا، تطل على منافذ حيوية للتجارة العالمية، بدءاً من مضيق هرمز الذي يمر عبره 30% من النفط المنقول بحراً، مروراً بمضيق باب المندب الذي تمر عبره قرابة 25 ألف سفينة، وليس انتهاء بقناة السويس التي تعد أقصر طريق يربط بين الشرق والغرب، ويمر عبره 40% من بضائع العالم.

وترتبط تلك المنافذ بحجم التبادل التجاري الصيني الضخم مع المنطقة العربية، والذي يناهز 330 مليار دولار سنوياً. ولا يتضمن هذا الرقم استثمارات البنية التحتية في إطار الحزام والطريق، والتي بلغت تدفقاتها من جانب الصين أكثر من 120 مليار دولار بين عامي 2016 و2020.

استثمارات الصين في الدول العربية - الشرق
استثمارات الصين في الدول العربية - الشرق

وعلى سبيل المثال لا الحصر، استثمرت شركات صينية في منطقة الدقم المطلة على بحر العرب، ما يصل إلى 11 مليار دولار، بهدف تحويلها إلى مركز صناعي، بالإضافة إلى تسارع وتيرة التعاون بين القاهرة وبكين إزاء منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري بالسويس بعد الإعلان عن الحزام والطريق.

بحسب وزارة الخارجية الصينية، تمكنت المبادرة من استقطاب دول عربية للاستفادة من مشاريع البنية التحتية التي تغطيها، عبر مذكرات تفاهم ووثائق للتعاون الاقتصادي مع بكين، إذْ وقَّعت 20 دولة تقريباً مذكرات تفاهم مع الصين بشأن المبادرة، بينما أنشأت الصين شراكات استراتيجية شاملة مع 12 دولة عربية ضمن نطاق المبادرة. 

تعاون وتحديات

إضافة إلى ذلك، تسعى الصين إلى تعزيز مشاركة الدول العربية في مبادرة "الحزام والطريق"، ففي أغسطس 2021، دعا الرئيس الصيني إلى تعزيز التعاون مع الدول العربية، لدفع جهود التنمية وتعزيز العلاقات.

وقال شي جين بينج إن "الصين مستعدة للعمل مع الدول العربية لبناء الحزام والطريق بشكل مشترك بجودة عالية، ودفع الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية إلى مستوى أعلى"، مضيفاً أنَّ "الصين والدول العربية، المرتبطة بتاريخ طريق الحرير القديم، شركاء طبيعيون لتعاون مبادرة الحزام والطريق، ولديهم تكامل ملحوظ".

وتابع الرئيس الصيني: "الصين تظل الشريك التجاري الأكبر للدول العربية، ففي عام 2020، بلغ إجمالي حجم التجارة بين الصين والدول العربية 239.8 مليار دولار أميركي. وبلغت واردات الدول العربية من الصين 122.9 مليار دولار بزيادة 2.1% على أساس سنوي رغم تأثير الوباء، وهذا دليل على الصمود الكبير والإمكانات والإنجازات الملموسة للتعاون الصيني العربي".

هذا عن التعاون، أما التحديات فتتمثل في العلاقات مع إيران، فـ"بكين" ترتبط بشراكة استراتيجية تجارية وعسكرية مدتها 25 عاماً مع طهران، في وقت تشن جماعات مسلحة مدعومة من إيران هجمات على دول المنطقة.

لكن "المجلس الأطلنطي للدراسات والأبحاث" يرى أن تلك الشراكة رغم التساؤلات الكثيرة التي تفرضها، لن تؤثر على تعزيز الصين علاقاتها العربية -ولا سيما مع دول الخليج- لأن إيران ليست الدولة الوحيدة التي ترتبط بشراكة فريدة من نوعها مع الصين، فهناك السعودية والإمارات اللتان ترتبطان أيضاً باتفاقيات شراكة استراتيجية شاملة على أعلى المستويات. 

وبحسب المجلس الأطلنطي، فإن ما ستحاول الصين فعله خلال السنوات المقبلة هو موازنة علاقاتها مع دول الخليج التي تمثل أهمية وأولوية بالنسبة لها مع علاقاتها مع إيران في الوقت نفسه، سعياً إلى الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط، وتعزيز نفوذها ليمتد من الاقتصاد إلى السياسة.

تصنيفات