"اتفاق ويندسور".. هل يحقق سوناك أكبر مكاسبه السياسية؟

رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال إدلائه ببيان عن بروتوكول أيرلندا الشمالية في مجلس العموم بلندن- 27 فبراير 2023 - AFP
رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال إدلائه ببيان عن بروتوكول أيرلندا الشمالية في مجلس العموم بلندن- 27 فبراير 2023 - AFP
لندن-بهاء جهاد

في اليوم التالي لتوقعيه "اتفاق ويندسور" مع الاتحاد الأوروبي، زار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إيرلندا الشمالية، محاولاً انتزاع موافقة "بلفاست" على الاتفاق، للتحفيف من ضغوط المعارضين للصفقة في لندن، وضمان تمريرها في البرلمان البريطاني دون التسبب بانقساماتٍ داخل حزب المحافظين. 

وعبر إقرار البرلمان للاتفاق الجديد مع الاتحاد الأوروبي، يحقق سوناك مكسباً سياسياً كبيراً لنفسه، حتى إنَّ ساسة وصفوا الأمر بالإنجاز الذي دشَّن زعامة الرجل الفعلية لحزب المحافظين، ومنح الحزب الحاكم "بصيص أمل" في الصمود أمام منافسة المعارضة العمالية في الانتخابات العامة المقبلة المقررة منتصف 2024.

ولا يحتاج رئيس الوزراء فعلياً إلى موافقة البرلمان على "اتفاق ويندسور" إو "إطار ويندسور"، لأنه ضمن صلاحيات الحكومة، لكن تجاهله لمعارضيه داخل الحزب قد يحول "أكبر مكاسبه السياسية" إلى خسارة، خاصة وأنَّ رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون هدَّد بمحاربة الاتفاق الجديد من قبل أن يعلن. ويقول مقربون منه إنه يعد العدة لذلك. 

ممرات وحدود 

ويعالج الاتفاق الجديد بعض المشكلات التي أفرزها البروتوكول المتضمن في اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" عام 2019.

وأولى هذه المشكلات هي الحدود البحرية بين إيرلندا الشمالية وبقية أجزاء المملكة المتحدة، إذ كان يتم تفتيش وفحص السلع القادمة من بريطانيا أو ويلز أو اسكلتندا قبل دخولها إلى إيرلندا الشمالية التي بقيت ضمن السوق الأوروبية الموحدة بعد "بريكست". 

استبدل "اتفاق ويندسور" الحدود البحرية بممرات خضراء وأخرى حمراء. الخضراء تخصص للبضائع البريطانية القادمة إلى إيرلندا الشمالية، ولا تخضع لأي إجراء كتفتيش أو فحص طبي.

أما الحمراء فهي للبضائع العابرة إلى جمهورية إيرلندا. وتطبق عليها الإجراءات المتبعة في التصدير كما هو منصوص عليه في الاتحاد الأوروبي. 

ومع غياب الحدود البحرية، يقول رئيس الوزراء البريطاني إنَّ كل البضائع والأدوية والسلع المتوفرة في بريطانيا واسكتلندا وويلز، ستتواجد دون تأخير أو نقص في إيرلندا الشمالية، وما على المصدرين إلا التسجيل في نظام إلكتروني موجود أصلاً، ولا يحتاج إلى مئات الأوراق وعشرات الإجراءات المعقدة كما كان متبعاً في البروتوكول السابق.

ومعالجة مشكلة الحدود البحرية، سهلت عمل المصدرين البريطانيين إلى السوق الأوروبية. ليس فقط لأنه تم فصلهم عن سوق إيرلندا الشمالية، بل لأنَّ الاتفاق الجديد أيضاً وضع قواعد وإجراءات أبسط لانتقال البضائع بين شقي الجزيرة الإيرلندية. وبالتالي سهَّل العمل، وضمن تدفق الحركة التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.

توحيد نظام الضرائب 

"اتفاق ويندسور" أيضاً أزال العوائق التي كانت تمنع الحكومة البريطانية من توحيد نظام الضرائب في كامل دول المملكة المتحدة.

وبات من الممكن الآن فرض ضريبة القيمة المضافة البريطانية على السلع التي تباع في أسواق إيرلندا الشمالية، أما السلع الأوروبية فتخضع لتعليمات الضرائب المنصوص عليها في لوائح بروكسل، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها لا تشكل أكثر من 75% من إجمالي المنتجات المستهلكة في إيرلندا الشمالية.  

ويحمي اتفاق ويندسور السلام في الجزيرة الإيرلندية من خلال صون حرية التنقل والحركة للسكان بين شقي الجزيرة، أمَّا في حال نشوب نزاع تجاري بينهما، أو قيام الاتحاد الأوروبي بأي تغيير في أسواقه يضر بالاتفاق الجديد، فمن حق بريطانيا أن ترفع الفيتو في وجهه، لكن المحكمة الأوروبية هي من سيفصل في الخلاف بنهاية المطاف. 

تحفظات مقلقة 

ثمة إجماع بين القوى السياسية في المملكة المتحدة على أن "اتفاق ويندسور" فتح صفحة جديدة في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، عنوانها الرئيسي هو غياب التوتر حول مختلف القضايا بسبب "بريكست".

ولكن ثمة تحفظات على بعض القضايا المتعلقة بنفوذ قوانين بروكسل على النزاعات التي قد تنشأ عن الاتفاق في المستقبل. 

ويدافع رئيس الوزراء البريطاني عن نفسه في هذه النقطة، بأنه أبقى بيد لندن حق الفيتو للاعتراض على أي تعديل أو إجراء أوروبي يهدد اتفاق ويندسور أو اتفاق الجمعة العظيمة الذي أوقف الحرب الأهلية بين شقي الجزيرة الإيرلندية. ولكن شكوكاً إزاء فعالية "الفيتو البريطاني" تجول الآن في الأروقة المعارضة لسوناك وحكومته.    

ما يحاول سوناك فعله في بلفاست اليوم هو توضيح قوة "الفيتو" البريطاني في مواجهة أي مشكلة قد يفرزها "اتفاق ويندسور" مستقبلاً.

لكن الباحث في الشأن البريطاني رياض مطر، يقول إن سوناك يعرف تماماً أنَّ الكلمة العليا لحل النزاعات بين إيرلندا الشمالية وجارتها الجنوبية، ستبقى بيد القضاء الأوروبي، كما أوضحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال الإعلان عن الاتفاق الجديد في لندن.

وأوضح مطر لـ"الشرق"، أن سوناك لا يحمل ضمانات بعدم حصول خلاف تجاري مستقبلاً مع بروكسل، ولا يمتلك أيضاً تأكيداً بأنَّ تطبيق الاتفاق الجديد لن يحمل بعض التحديات، لكنه يراهن على أن الغالبية الساحقة من المشكلات الاقتصادية عولجت عبر "اتفاق ويندسور"، وإصرار الحزب الوحدوي على رفض المشاركة في الحكومة المقبلة بحجة فشل البروتوكول، سيضعه في مواجهة سكان إيرلندا الشمالية.

ولفت الباحث في الشأن البريطاني إلى أنَّ لغة رئيس الحكومة في بلفاست ستنطوي على نوع من التهديد الضمني للأحزاب السياسية، لافتاً إلى أن لندن لن تتردد بعد "اتفاق ويندسور"، في الدعوة لانتخابات جديدة بإيرلندا الشمالية إن أصرَّ الوحدويون على موقفهم، وهي انتخابات يصعب التنبؤ بنتائجها بعد توقيع الاتفاق مع بروكسل.

"شيطان التفاصيل"

أقوى جبهات المعارضة التي يخشاها رئيس الحكومة لا تتمثل بحزب العمال وأنصاره في مجلس العموم، ولا نواب الحزب الوحدوي في إيرلندا الشمالية، وإنما صقور النواب المحافظين المطالبين بإلغاء بروتوكول إيرلندا الشمالية في اتفاق بريكست الأصلي الموقع بين لندن وبروكسل في نهاية عام 2019. 

لم يعلن أي من "صقور بريكست" بين نواب حزب المحافظين، عن رفضه للاتفاق مباشرة. ولكن واحداً من أبرزهم، وهو النائب المحافظ بيل كاش، قال إنه يدرس بنود الاتفاق جيداً قبل أن يعلن موقفه، فـ"الشيطان يكمن في التفاصيل". وهو أيضاً ما نقله مقربون من جونسون الذي غاب عن البرلمان في جلسة إعلان "اتفاق ويندسور". 

وترى عضو حزب المحافظين سامنثا سونز، أنَّ جونسون وفريقه من المعارضين للاتفاق الجديد مع الاتحاد الأوروبي، يقفون أمام خيارين كلاهما يصب في مصلحة سوناك، فإمَّا أن يقبلوا بالأمر الواقع، أو يحدثوا ضجَّة داخل الحزب، تنتهي لصالح ضرورة التكاتف مع الزعيم من أجل عدم الإضرار بسمعة الحزب أكثر فأكثر.

وتقول سونز لـ"الشرق"، إنَّ "اتفاق ويندسور" يعد "اختراقاً حقيقياً للاستعصاء الذي تعيشه المملكة المتحدة في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي منذ عامين على الأقل، وإنكار ذلك لا يخدم أحداً في البلاد، خاصة في ظل الظروف السيئة التي يمر بها الاقتصاد البريطاني عموماً، والأزمة السياسية في إيرلندا الشمالية". 

وبحسب العضو في الحزب الحاكم، لن يتردد سوناك في الاعتماد على دعم حزب العمال في حال قرر تمرير الاتفاق الجديد عبر البرلمان رغم المعارضة الداخلية له بين صفوف المحافظين.

كما أنه من الخطأ الاستهانة بالنواب الذين وقفوا مع سوناك ضد جونسون، في انتخابه زعيماً للحزب ورئيساً للحكومة قبل أشهر قليلة. 

أهداف عمالية 

وأعلن رئيس الوزراء البريطاني أنه سيمنح البرلمان فرصة التصويت على الاتفاق الجديد، ولكن في الوقت المناسب، بعد أن يعطي كل الأطراف المعنية فرصة التدقيق في بنوده، والاطلاع على ما يحققه من إصلاحاتٍ اقتصادية ومنافع سياسية للمملكة المتحدة، ولـ"سكان إيرلندا الشمالية" بشكل خاص، كما كرر في خطابه أمام البرلمان.

وأكد زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر تأييده للاتفاق الجديد مع الاتحاد الأوروبي، رغم أنه ليس كاملاً، على حد تعبيره.

وقال ستارمر أمام البرلمان الاثنين الماضي، إنَّ حزبه سيصوت لمصلحة الاتفاق إذا قررت الحكومة وضعه بين يدي أعضاء مجلس العموم، لتأكيد الدعم الرسمي والشعبي له أمام الأوروبيين. 

وبرأي عضو حزب العمال إيفان جاش، لا تريد المعارضة العمالية تسجيل أي موقف قد يضعها مجدداً في مرمى الاتهامات برفض "بريكست" كما حدث أيام الزعيم السابق جيرمي كوربين.

وأضاف في تصريحات لـ"الشرق": "كما أن الاتفاق ينطوي على نقاط إيجابية كثيرة من الخطأ تجاهلها. وخاصة أنها تمس حياة سكان إيرلندا الشمالية بشكل كبير وحساس". 

وأوضح جاش أنه من خلال تأييد الحكومة ودعمها، تقاسم حزب العمال النصر بتحقيق الاتفاق مع المحافظين، فالرأي العام على يقين الآن بأنَّ حزب العمال يريد ما يصب في مصلحة البلاد، ولا يمارس "الألعاب والمراهنات السياسية" عندما يتعلق الأمر بحياة سكان المملكة المتحدة، كما قال ستارمر أمام البرلمان.  

وأشار عضو حزب العمال إلى أنه إذا نجح الرافضون للاتفاق داخل حزب المحافظين، بوقفه، فإنَّ المعارضة ستكون في موقف قوي بينما يعاني الحزب الحاكم مزيداً من التدهور في علاقته مع الشارع في كل دول المملكة المتحدة، معتبراً أنه "مع خسارة من هذا النوع، فإنَّ المحافظين سيقفون خارج المعادلة السياسية في أي استحقاق مقبل". 

ولفت عضو حزب العمال إلى أن الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي سجل بوصفه مكسباً سياسياً كبيراً لصالح سوناك، ولكنه لم ينقذ حزب المحافظين من التردي الشعبي الذي طاله، على حد وصفه.

وأضاف: "بالتالي لا يمكن القول إن الحزب الحاكم استرد مكانته تماماً، وردم الهوة بينه وبين حزب العمال في نوايا تصويت البريطانيين خلال الانتخابات العامة المقبلة".

صفحة جديدة 

ولا تتوقف فوائد "اتفاق ويندسور" عند تعزيز موقف حزب المحافظين، شعبياً وسياسياً، فإقراره يفتح الباب أمام صفحة جديدة من العلاقات الإيجابية مع الاتحاد الأوروبي ودول العالم الأخرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

وقال الباحث في الشأن البريطاني جوناثان ليز، إنَّ الاتفاق "بمثابة ضوء أخضر لاستئناف التعاون مع لندن بعد تخليها عن نوايا مخالفة القانون الدولي من خلال إلغاء بروتوكول إيرلندا الشمالية".

وأوضح ليز لـ"الشرق" أنَّ المصالحة مع الاتحاد الأوروبي في ملف إيرلندا الشمالية تسهل التعامل مع التكتل في ملفات عديدة، مشيراً إلى أنها تفتح الباب أيضاً أمام استئناف مفاوضات عالقة مع الولايات المتحدة بشأن اتفاق التجارة الحرة، وتشجع دولاً كثيرة على توسيع علاقات العمل والاستثمار مع المملكة المتحدة بعد "بريكست".

ولفت الباحث إلى أنَّ بروكسل أبدت مرونة حقيقية في التفاوض مع سوناك وحكومته لأسباب عدّة، على رأسها الحاجة إلى التحالف والتعاون بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة في دعم أوكرانيا ضد روسيا، وثانياً رغبة الأوروبيين بتحجيم وتقليم أظافر المحافظين المتشددين في ملف "بريكست" تحت قبة مجلس العموم البريطاني.  

وأشار ليز إلى أنَّ الاتحاد الأوروبي لا يريد القطيعة مع البريطانيين في ظل هذه الظروف التي تمر بها القارة العجوز، مشدداً على أنَّ "النوايا الانتقامية" من المملكة المتحدة بسبب "بريكست" لدى بعض دول التكتل، إن وجدت أصلاً، تبدَّدت بعد الحرب الأوكرانية، وبات من الضروري للجميع تعزيز العمل المشترك لمواجهة المتغيرات العالمية. 

اقرأ أيضاً:

تصنيفات