رحلة حاكم مصرف لبنان المركزي مع القضاء الفرنسي

محافظ المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة يقف بجانب سبائك من الذهب في البنك المركزي في بيروت. 24 نوفمبر 2022 - via REUTERS
محافظ المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة يقف بجانب سبائك من الذهب في البنك المركزي في بيروت. 24 نوفمبر 2022 - via REUTERS
بيروت/دبي-الشرقعماد عاصي

لا تزال قضية إصدار القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية بحق حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة تتفاعل على المستويات السياسية والاقتصادية والشعبية اللبنانية على حد سواء، علماً أنه لم يمثل أيضاً أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت شربل أبو سمرا، الخميس، للرد على تهم "الرشوة والتزوير وتبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتهرّب الضريبي"، تقدمت بها هيئة القضايا بوزارة العدل في 15 مارس الماضي.

مذكرة التوقيف الدولية الصادرة التي أصدرتها القاضية الفرنسية أود بوريزي، تحقق في أموال وممتلكات سلامة، إذ يشتبه المحققون الفرنسيون في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية عبر "مخطط احتيالي معقّد"، بالإضافة إلى إساءة استخدام أموال الدولة اللبنانية خلال ثلاثة عقود من تولي منصبه.

لقاء سلامة وبوريزي في بيروت

وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، فإن القاضية بوريزي، وخلال استجواب سلامة في بيروت في مارس الماضي، أبلغته بنيتها استدعاءه للمثول أمامها في باريس، ما وضع الكثير من الشكوك بشأن نيته فعلاً في الذهاب إلى باريس.

وقال مصدر مقرب من القضية للصحيفة إنه "لو سافر سلامة فعلياً إلى باريس، كان سيواجه تهماً ويتم وضعه تحت الرقابة القضائية"، لافتاً إلى أن "من المؤكد أنه كان هناك تفاوض بينه (سلامة) وبين القاضية الفرنسية في هذا الشأن".

في بيروت، ردّ سلامة ببيان، الثلاثاء، قال فيه إنه سيعمد إلى "الطعن بهذا القرار الذي يشّكل مخالفة واضحة للقوانين"، فيما تعهد محاميه بـ"رفع دعوى أمام المحاكم المختصة".

والاثنين، قدم محامو سلامة وشقيقه الأصغر رجاء، ومساعدته السابقة ماريان الحويك، اعتراضاً للقضاء اللبناني، مؤكدين أنه لا يجب السماح للقضاء الفرنسي بالعمل على قضية توجد تحت طائلة التحقيق في لبنان.

وقال مصدر قضائي لبناني لـ"للشرق"، إن "لبنان لم يتبلغ بمذكرة التوقيف الصادرة عن القاضية الفرنسية"، مضيفاً أنه "عندما يتسلم  لبنان هذه المذكرة رسمياً، سيطلب من السلطات الفرنسية إيداع نسخة عن الملف والأدلة التي استندت عليها القاضية الفرنسية، لإصدار مذكرة التوقيف بحق سلامة".

وشدد المصدر على أنه "إذا كانت الأدلة صحيحة، فسينفذ لبنان مذكرة التوقيف، ويشرع بمحاكمة رياض سلامة في لبنان، ولا يسلمه للسلطات الفرنسية، لأن القانون اللبناني لا يجيز تسليم مواطن لدولة أخرى".

واعتبر ويليام بوردون، محامي "جمعية شيربا" و"جمعية ضحايا الممارسات الاحتيالية والجنائية في لبنان"، وهم الطرف المدني في القضية، أنه "حتى اللحظة الأخيرة، استمر سلامة في اتباع استراتيجية من الاستخفاف، وابتكر أعذاراً هزلية من الناحية القانونية، بدعم من بعض القضاة اللبنانيين الذين يتجاهلون التزامات لبنان بالتعاون مع فرنسا، وهذا ما استنتجته القاضية فعلاً".

تفاصيل قضايا سلامة

يتابع القضاء الفرنسي رياض سلامة في دعويين قضائيتين، بشأن غسل أموال وعمليات احتيال تم ارتكابها داخل لبنان وخارجه، كلتاهما موجهتان بالأساس ضد حاكم مصرف لبنان ومقربين منه.

الشكوى الأولى قدمتها المؤسسة السويسرية Accountability Now، في أبريل 2021، وهي مؤسسة تحارب الإفلات من العقاب، أما الدعوى الثانية، فتم رفعها في أبريل 2021 من قبل منظمة "شيربا" المتخصصة في مكافحة الجريمة.

وفي الوثيقة التي أُرسلت إلى مكتب المدعي المالي الوطني في 2021، والتي حصلت "لوموند" عن نسخة منها، تقول المنظمتان إن "سلامة، الذي يحمل الجنسية الفرنسية، قام بشكل غير قانوني بتشكيل ثروة بملايين اليورو"، ولفتتا إلى أن "المقدار غير المتناسب من ثروته الشخصية مع رواتبه وأجوره التي يتقضاها، تؤكد وجود غسيل للأموال".

وتشير هذه الشكوى إلى "تورط نجل رياض سلامة، ندي سلامة (36 عاماً) والشقيق الأصغر لحاكم المصرف اللبناني، رجاء سلامة ( 62 عاماً) والذي يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً، ومساعدته السابقة ماريان حويك (42 عاماً)"، وأضافت أن الثلاثة أشخاص "شركاء لحاكم مصرف لبنان في الاستثمارات التي لا حصر لها في الخارج، على مدى 20 عاماً".

ويؤكد رياض سلامة منذ نحو عام ونصف، أنه خلال عام 1993، تاريخ وصوله إلى مصرف لبنان، بلغت أصوله الشخصية 23 مليون دولار (19 مليون يورو)، نتيجة ميراثين ومكافآت سابقة له في البنك الاستثماري "ميريل لينش"، وأن نمو أصوله منذ ذلك الحين، ناتج عن استثمارات لا تتعارض مع التزاماته.

وقالت "لوموند" إن رياض سلامة، يمتلك ثلاث شركات قابضة في لوكسمبورغ استثمرت في مدن أوروبية عدة، منها ميونيخ وبريستول ولندن. ويقدر المحامي ويليام بوردون من "شيربا"، وجود ثروة لسلامة في سويسرا بقيمة 94 مليون دولار.

وقدرت مصادر "لوموند" أن قيمة عقارات سلامة في فرنسا تُقدر بنحو 35 مليون يورو، وأنها باسم رياض سلامة أو أفراد مقربين منه، وتم الحصول عليها بعد تعيينه على رأس مصرف لبنان.

وتشير الشكوتين المقدمتين إلى أن ماريان حويك، التي دخلت كمتدربة في مصرف لبنان عام 2003، وتم ترقيتها بعد أربع سنوات إلى منصب مدير المكتب التنفيذي للمؤسسة، اشترت في عام 2013 شقة في "المثلث الذهبي" الباريسي (شارع ميسين)، بقيمة 1.8 مليون يورو، نقداً.

وقالت ماريان حويك في 2020 إنها تتلقى راتباً بقيمة 8 آلاف دولار، ولم تشر إلى حصولها على أي إرث أو أموال من جهة أخرى.

وبحسب "لوموند" فإن الاكتشاف الأكثر إحراجاً للمقربين من سلامة، كان في سويسرا، حيث أرسل المدعي العام لبيرن طلب مساعدة قانونية متبادلة إلى بيروت، بعدما "اكتشف أنه بين عامي 2002 و2015، دفع مصرف لبنان 333 مليون دولار في حساب لشركة غير معروفة تسمى "فوري" ومقرها جنيف، وأن شقيقه رجاء سلامة هو المستفيد مالياً". وتقول الرواية الرسمية وفق "لوموند" إن تحويل هذه الأموال كان قانونياً.

"تشويش قضائي"

محامي حاكم مصرف لبنان، بيار أوليفيي قال لـ"لوموند"، الأربعاء، إن الاستدعاء "لم يصل أبداً إلى يد رياض سلامة"، مشيراً إلى أنه تم إرساله قبل 10 أيام فقط من جلسة الاستجواب.

ولفت المحامي إلى ما وصفه بـ"التشويش القضائي الذي يعرفه لبنان"، والذي بسببه "لم يتم تسليم الاستدعاء لسلامة أبداً".

وتوجهت الشرطة إلى مقر المصرف المركزي لأربعة أيام متتالية، بهدف تسليم المذكرة إلى سلامة، ولكن رجال الأمن المولجين بحراسة المكان كانوا يبلغوهم في كل مرة أن رياض سلامة "غائب"، وفق "فرانس برس".

وزير العدل اللبناني الأسبق إبراهيم نجار، قال لـ"للشرق"، إن "المذكرة الفرنسية ليس لها وقع في لبنان، لأن مفعولها محصور ضمن الحدود الفرنسية".

وأضاف نجار أن لبنان "لا يمكنه أن يحقق بجرائم وقعت في فرنسا، لأن القوانين الفرنسية تطبق ضمن الأراضي الفرنسية فقط، إلا إذا صدر حكم نهائي فرنسي، وحصل تنسيق مع القضاء اللبناني، وبعد إحالة الملف الفرنسي إلى لبنان، حينها تطبق المعاهدات والاتفاقيات الدولية"، معتبراً أن "وقع المذكرة الفرنسية في لبنان سياسي ومالي ومعنوي".

ولم يسبق للبنان أن سلّم مطلوبين إلى القضاء الفرنسي، إذ لم يسلم رجل الأعمال اللبناني الفرنسي زياد تقي الدين المحكوم عليه في ما يسمى بقضية "كراتشي"، ولم يسلم أيضاً الرئيس التنفيذي السابق لشركة "رينو-نيسان" كارلوس غصن، بعد لجوئه إلى لبنان هرباً من اليابان.

وقال المحامي سعيد مالك لـ"الشرق"، إن "ليس باستطاعة لبنان أن يتصرف قبل أن تصدر النشرة الحمراء عن الانتربول الدولي"، مشيراً إلى أن "النائب العام التمييزي، وعملاً بأحكام المادة 35 من قانون العقوبات، سيستمع إلى حاكم المصرف بعدها، ويقرر إما توقيفه أو ياخذ القرار بحفظ الملف".

"تجاوزات" سلامة

واعتبر النائب في "كتلة التيار الوطني الحر" جورج عطالله في حديث لـ"الشرق"، أن "تجاوزات حاكم مصرف لبنان كثيرة، ويجب أن يحاكم". وأوضح أنه "لو كان القضاء اللبناني جدياً في التعاون مع الدول الأوروبية، لم نكن لنصل إلى هذا الحد". كما لفت إلى أن "تهرب سلامة من التحقيق الفرنسي يشير إلى تورطه".

وذكر عطالله أن "الحكومة اللبنانية تتعاطى مع القضية كأنها غائبة عن الوعي، فيما عليها أن تبادر إلى إيجاد حل، وأن تأخذ القرار بوقف رياض سلامة عن ممارسة مهامه كحاكم لمصرف لبنان، أو وضع حارس قضائي على عمله".

كما تساءل الوزير الأسبق نجار قائلاً: "لا أفهم كيف أن الحكومة اللبنانية ماضية في إصدار تدابير تمنح فيها رياض سلامة صلاحيات إضافية، بدل أن تذهب إلى تعيين حاكم جديد للبنك المركزي".

وبشأن ما إذا كان بقاء حاكم مصرف لبنان في مركزه يتعارض مع المذكرة الفرنسية، قال بول مرقص، رئيس "مؤسسة جوستيسيا" وعميد كلية العلاقات الدولية في ستراسبورج بفرنسا، إنه "ليس هناك في قانون النقد والتسليف نصاً صريحاً يجيز للحكومة إقالة حاكم المصرف المركزي، لأن شروط المادة 19 من النقد والتسليم ضيقة جداً، ما لم يذهب هو إلى ذلك اختيارياً".

وأضاف بول مرقص أنه "إذا أقدمت الحكومة على إقالته (سلامة) بسبب مخاطر السمعة المحيطة به، فإن هذا الأمر يعود التقدير فيه للقضاء".

صدمة في الداخل والخارج

ويواجه لبنان أزمة اقتصادية كبيرة، إذ تهاوت العملة اللبنانية بشكل متزايد، ففي السوق السوداء بلغ سعر الدولار الواحد 100 ألف ليرة لبنانية، فيما كان يقدر قبل ستة أشهر بـ35 ألفاً، علماً أن سعر الصرف كان لوقت قريب يقدر بـ1500 ليرة. وبلغت نسبة البطالة 30٪، وزادت نسبة الفقر ضعفاً خلال سنتين، ونسبة التضخم بلغت 330٪، وهي الأعلى في العالم.

ووسط هذه الأزمة، تشكل ثروة رياض سلامة "صدمة" في الخارج بالنظر إلى أن لبنان على "حافة الهاوية"، وفق وصف موقع "فرانس أنفو".

ووسط هذه الأزمة الاقتصادية، يرى الكثير من اللبنانيين أن التغيير على مستوى البنك المركزي اللبناني أمر لا مفر منه.

ورحّب النائب  عن "كتلة التغيير" وضاح الصادق بمذكرة القضاء الفرنسي، وقال لـ"الشرق" إنه "كان على القضاء اللبناني أن يقوم بواجباته حيال سلامة وغيره"، مشيراً إلى أنه "إذا كان حاكم المصرف المركزي تتم ملاحقته حول 300 مليون دولار، فلا مفر من السؤال عن مليارات الدولارات التي فقدها اللبنانيون، والتي يتحمل مسؤوليتها سلامة، وكل من شارك في المنظومة التي حكمت البلد".

ويواجه صغار المدخرين مشكلات للحصول على مدخراتهم المحجوزة في البنوك، كما أن المصارف تدخل في إضرابات متقطعة.

 واعتبر نائب رئيس مجلس الوزراء السابق، النائب عن "كتلة القوات اللبنانية" غسان حاصباني أن أنه "يجب ترك العدالة تأخذ مجراها بحسب الأصول"، داعياً في الوقت ذاته إلى تحصين  لبنان من أي تداعيات بما يحفظ حق الدولة اللبنانية في استعادة الأموال في حال ثبتت التهم على حاكم مصرف لبنان".

وشدد حاصباني من ناحية ثانية على ضرورة العمل لإعادة الانتظام إلى عمل الدولة، بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية ومروراً بتعيين بديل لحاكم مصرف لبنان، والمراكز التي شغرت أو ستشغر، بأشخاص ذات كفاءة، وعدم استبدال منظومة فاسدة قديمة بمنظومة فاسدة جديدة".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات