"السلاح الدبلوماسي السري للبيت الأبيض" هكذا وصفت مجلة "ذا أتلانتيك" مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وليام بيرنز في مقال نُشر عام 2013، والذي يبرز الآن باعتباره اللاعب الرئيسي في جهود الولايات المتحدة لتأمين إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حركة "حماس" في قطاع غزة.
ويستغل بيرنز، وهو أول دبلوماسي أميركي يشغل هذا المنصب، عقوداً من الاتصالات وقدرته على التحرك بهدوء عبر المنطقة للتعامل مع واحدة من أخطر أزمات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفق "بلومبرغ".
ويبدو أن مدير CIA، الذي يجيد التحدث باللغة العربية والروسية والفرنسية، يعمل على تنفيذ رؤيته التي ذكرها في كتابه "القناة الخلفية"، الذي صدر في عام 2019، والذي شدد فيه على الأهمية الدائمة للدبلوماسية من خلال تجربته وذكرياته في الدبلوماسية الأميركية على مدى 3 عقود، حيث عمل في إدارات 5 رؤساء أميركيين، و10 وزراء خارجية.
وشهدت الأسابيع الأخيرة لقاء بيرنز، مع رئيس الموساد الإسرائيلي ديفيد برنياع، وكذلك مع كبار المسؤولين من قطر ولاعبين إقليميين آخرين في محاولة لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين.
وسرعان ما أدت الجولات المكوكية أو ما تُسمى بـ "الدبلوماسية المكوكية" التي يقوم بها بيرنز، إلى النظر إليه من قبل الحكومات العربية باعتباره محاور الولايات المتحدة الرئيسي في الأزمة الحالية، وفقاً لعدد من المسؤولين الإقليميين.
ويبدو أن مدير CIA لم يعد أبرز رجل استخبارات في الولايات المتحدة فحسب، بل أحد كبار دبلوماسييها أيضاً، إذ عمل بشكل وثيق مع رئيس الموساد الإسرائيلي، وكان له دور محوري في التفاوض على الهدنة المؤقتة السابقة في قطاع غزة، وعمل جنباً إلى جنب مع منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بريت ماكجورك وآخرين، كما التقى في الأيام الأخيرة بعائلات الرهائن الأميركيين المحتجزين في القطاع، مما يؤكد دوره المستمر في العملية رغم تعثر المحادثات.
لاعب رئيسي
ويرجع دور بيرنز البارز هذا جزئياً إلى الوضع المُلِح في الشرق الأوسط في الوقت الحالي، وذلك نظراً للدور القوي الذي تلعبه وكالات الاستخبارات في إسرائيل وبقية دول المنطقة.
ويشير المسؤولون الأميركيون إلى أنه على الرغم من أن وزيري الخارجية الأميركيين أنتوني بلينكن، والدفاع لويد أوستن، قد انخرطا في دبلوماسية حاسمة تتطلع إلى تشكيل طبيعة الصراع الحالي، وكذلك التفكير فيما سيأتي بعد انتهاء الحرب، فإن مدير CIA يتميز بسمات فريدة ساهمت في بروزه كلاعب رئيسي في هذه العملية.
فبيرنز لديه تجربة فريدة كسفير سابق للولايات المتحدة ومسؤول كبير في وزارة الخارجية، كما أنه، على عكس بلينكن أو أوستن، لا يتعين عليه الإعلان عن جدول أعماله أو اصطحاب الصحافيين معه في رحلاته أو حتى عقد مؤتمرات صحافية، ولذا فإن قدرته هذه على التحرك بهدوء جعلته مناسباً بشكل فريد للديناميكيات المعقدة في الشرق الأوسط، حيث تفضل الجهات الفاعلة الإقليمية الحفاظ على سرية محادثاتها.
ويقول عنه تيد سينجر، وهو من قدامى العاملين في الخدمة السرية لـ CIA على مدى 35 عاماً: "كونه متمكناً ولديه معرفة شخصية بالمحاورين هو أمر يجعله مستعداً بشكل فريد للانخراط في الدبلوماسية الاستخباراتية".
وعندما تقاعد بيرنز في عام 2014 من وزارة الخارجية، وصفه وزير الخارجية جون كيري بأنه "رجل دولة لا مثيل".
وقال كيري: "بيل هو المعيار الذهبي للدبلوماسية الهادئة والمباشرة والتنفيذية". "إنه ذكي، وهو لا يفهم فقط إلى أين يجب أن تتحرك السياسة، بل يفهم كيفية التنقل بين واشنطن والعواصم في جميع أنحاء العالم. لقد عملت مع بيل عن كثب في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وهو يتمتع بموهبة فطرية في التعامل مع القضايا والعلاقات التي لا مثيل لها".
كما وصفه دينيس ماكدونو، كبير موظفي الرئيس السابق أوباما، والنائب السابق لمستشار الأمن القومي، بأنه "الدبلوماسي المثالي". وقال ماكدونو إنه "ثابت وهادئ وواضح دائماً فيما ينوي تحقيقه"، وفق "ذا أتلانتك".
ويقوم بيرنز الآن بالبناء على الدور متزايد الأهمية الذي لعبه مديرو وكالة الاستخبارات المركزية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ أشرف سلفه مايك بومبيو على تواصل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، ولعب جورج تينيت، مدير CIA في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، دوراً مماثلاً في عملية السلام في الشرق الأوسط، وفق "بلومبرغ".
ولكن يبدو أن بيرنز استطاع نقل هذه المهمة إلى مستوى جديد، إذ شارك بعمق في كل أزمات السياسة الخارجية الكبرى تقريباً منذ أن أصبح مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية في عام 2021، فسافر إلى روسيا عشية غزوها لأوكرانيا لتوجيه تحذير إلى الدائرة الداخلية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعقد اجتماعاً مع الزعيم الفعلي لحركة طالبان، بينما كانت الحكومة الأفغانية تنهار، وزار الصين عندما كانت التوترات تتصاعد بين واشنطن وبكين.
ثقة بايدن
ويقول مايكل موريل، وهو القائم بأعمال مدير CIA السابق: "غالباً ما يكون الرؤساء محظوظين بوجود مديرين لوكالة الاستخبارات المركزية يتمتعون بمهارات دبلوماسية، وهذا هو الحال بالتأكيد مع بيرنز".
ويعتمد الدور البارز لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الحالي أيضاً على ثقة بايدن فيه، والذي قال في بيان: "الشعب الأميركي سينام بأمان بعد وصول مدير CIA القادم إلى منصبه" في إشارة إلى بيرنز.
ويستند بيرنز على عقود من الخبرة في مهمته الحالية في الشرق الأوسط، فقد عينه مستشار الأمن القومي السابق كولن باول، مسؤولاً عن سياسة الشرق الأوسط في عام 1987، وكان عمره 32 عاماً، كما أنه كان أيضاً مهندساً رئيسياً للاتفاق النووي مع إيران.
ويؤكد الدور الحالي الذي يلعبه بيرنز على أن هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الاستخبارات والدبلوماسية، إذ كان مدير CIA قد صرَح في عام 2019 قائلاً إن الدبلوماسية هي "شكل من أشكال الاستطلاع، وفي كثير من الأحيان يتم هذا المسعى بشكل هادئ، فالأمر يتم من خلال قنوات خلفية، وبعيداً عن الأنظار".