تواجه الحكومة الفلسطينية الجديدة التي يعكف رئيس الوزراء المكلف محمد مصطفى على تشكيلها، تحديات كبيرة غير مسبوقة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994، ما يضعها أمام اختبار مصيري.
فالحكومة المتوقع تشكيلها في غضون الأسبوعين المقبلين، حسبما أكد لـ"الشرق" رئيس الوزراء المكلف، تواجه منذ اليوم الأول نقصاً فادحاً في الموارد المالية، ما يجعلها غير قادرة على دفع كامل رواتب موظفيها، وتمويل الخدمات الأساسية خاصة التعليم الذي يسير منذ شهور بطريقة نصف وجاهية والنصف الثاني عن بعد، بسبب الأزمة المالية.
أما التحدي الأكبر فيكمن في إدارة قطاع غزة بعد الحرب الطاحنة التي أدت على هدم الجزء الأكبر منه. فمن جهة، تعارض الفصائل المهيمنة على القطاع، خاصة حركة "حماس"، قيام الحكومة بالعمل في القطاع دون اتفاق معها.
ومن جهة ثانية، لا تملك الحكومة، الموارد الكافية لتوفير الاحتياجات الأساسية لحوالي مليونين ونصف المليون شخص من سكان قطاع غزة، بعد أن دمرت الحرب معظم مقومات الحياة فيها، ناهيك عن إطلاق جهود إعادة إعمار ما دمرته الحرب من بيوت ومنشآت وبنى تحتية دون توفر دعم دولي، إذ تشير كثير من الدول إلى أن هذا الدعم "مرهون بحل سياسي غير متوقع".
وجوه جديدة
وقالت مصادر مطلعة إن محمد مصطفى، يعد لإحداث تغيير شامل في الحكومة بحيث تشمل وجوها جديدة جلها من الخبراء، مضيفةً أن نصف أعضاء الحكومة غير معروف للرأي العام.
وأشار رئيس الوزراء المكلف محمد مصطفى، إلى أنه أعد خطة لإعادة إعمار قطاع غزة، وخطة لإصلاح النظم القانونية والمالية والإدارية للسلطة الفلسطينية التي مضى عليها ردحاً من الزمن دون تغيير في غياب البرلمان المعطل منذ الانقسام في عام 2007، وفي غياب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت للمرة الأخيرة في العامين 2005 و2006.
وفي مقابلة مع وكالة أنباء العالم العربي، أعرب مصطفى عن ثقته في "اجتياز المرحلة الحالية في ظل الدمار والخراب الذي أحدثته الحرب في غزة".
وقال إن حكومته ستسعى إلى "تحسين المعايير المالية وتحقيق الشفافية وتعزيز الإيرادات وترشيد المصروفات وتطوير التعليم وكافة الخدمات وفي مقدمتها الصحية، والحد من الإجراءات البيروقراطية وتقوية سيادة القانون وتعزيز سيادة القانون واستقلاليته ومكافحة الفساد والتأكيد على حقوق الإنسان وحرية التعبير وتعزيز دور المجتمع المدني والهيئات الرقابية والتحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية".
معارضة الفصائل الفلسطينية
لكن الحكومة تواجه معارضة من القوى السياسية، خاصة في قطاع غزة، التي تقول بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس لم يجر أي مشاورات معها بشأن تشكيل الحكومة.
وقال عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" حسام بدران لـ"الشرق": "طالبت القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة بإجراء مشاورات معها بشأن تشكيلة الحكومة، والاتفاق على برنامج عملها، ومهامها، وفترة عملها، ومرجعيتها، لكن لم يتم الاستجابة لذلك، وجرى تشكيل الحكومة بصورة منفردة".
وأضاف: "لم يكن لدينا مانع من تشكيل حكومة توافق وطني سواء كانت حكومة سياسية أو حكومة خبراء، ونحن في حركة حماس لم يكن لدينا أي نية للمشاركة في الحكومة، لكن طالبنا بتوافق وطني على تشكيل هذه الحكومة".
وأصدرت 4 فصائل بياناً مشتركاً، عارضت فيه تشكيل الحكومة الجديدة، حيث قالت كل من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية" و"المبادرة الوطنية"، إن "اتخاذ قرارات فردية، والانشغال بخطوات شكلية وفارغة من المضمون دون توافق وطني هي تعزيز لسياسة التفرد، وتعميق للانقسام، في لحظة تاريخية فارقة، أحوج ما يكون فيها شعبنا وقضيته الوطنية إلى التوافق والوحدة".
وذكر البيان أن "السلطة الفلسطينية تصر على مواصلة سياسة التفرد، والضرب عرض الحائط، بكل المساعي الوطنية للم الشمل الفلسطيني، والتوحد في مواجهة العدوان على شعبنا، وإننا نعبر عن رفضنا لاستمرار هذا النهج الذي ألحق ولا زال يلحق الأذى بشعبنا وقضيتنا الوطنية".
وأشار مسؤولون في "حماس" لـ"الشرق"، إلى أنهم سيعارضون عمل الحكومة في قطاع غزة، بسبب قلقهم من أنها ستعمل بـ"أجندة سياسية معادية للحركة".
وأضاف أحد المسؤولين: "لدينا شكوك عميقة في أن الحكومة الجديدة ستعمل ضمن أجندة أمنية تهدف إلى ملاحقة المقاومة بالتعاون مع جهات معادية، لذلك لن نقبل بعودتها".
لجان شعبية في غزة
وشرعت الفصائل الناشطة في قطاع غزة مؤخراً، في تشكيل لجان حماية شعبية في مختلف التجمعات السكانية للعمل على حماية قوافل الإغاثة، وتوزيع موادها على الفلسطينيين.
وتضم هذه اللجان ممثلين عن مختلف القوى والمجموعات الفاعلة بما فيها العشائر.
وقالت مصادر مطلعة لـ"الشرق"، إن التيار الذي يقوده محمد دحلان في حركة "فتح"، يلعب دوراً مركزياً في تنظيم وتمويل اللجان الشعبية خاصة في توفير الحراسات والمعدات اللازمة للنقل، إذ تتألف حراسات قوافل الإغاثة هذه، من المجتمعات المحلية في مختلف المناطق.
وأثارت هذه الترتيبات، قلق السلطة الفلسطينية في رام الله، خشية أن تكون "نواة لإدارة محلية لقطاع غزة، تعزز الانقسام السياسي والجغرافي" الذي يتواصل منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة في منتصف العام 2007.
ووصف مسؤول في حركة "فتح" في رام الله، التعاون الجاري بين "حماس" ومحمد دحلان، بأنه "مثير للقلق، لأنه يهدد بفصل القطاع عن الضفة الغربية، ويقوض الكيانية السياسية الفلسطينية".
الاصطدام مع إسرائيل
وقالت مصادر مقربة من الرئيس محمود عباس، إنه لم يجر مشاورات مع أي من الفصائل بشأن تشكيل الحكومة "تجنباً للتعرض إلى ردود فعل إسرائيلية تؤثر على قدرة الحكومة على العمل في قطاع غزة".
وأضافت المصادر: "لقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية جهاراً نهاراً بأنه لن يسمح للسلطة الفلسطينية بالعمل في قطاع غزة، وفي حالة قيام حكومة بالتوافق مع حركة حماس فإن هذا سيعزز الهدف الإسرائيلي المعلن الرافض لدخول الحكومة إلى القطاع".
وأشارت المصادر إلى أن "الرئيس لم يجر مشاورات مع أي من الفصائل بما فيها حركة فتح، ونحن نأمل أن تتفهم كل القوى السياسية موقف السلطة، وقد وجه الرئيس رسائل غير مباشرة لحماس بهذا الشأن لكن الحركة تصر على المعارضة لأغراض سياسية".
أزمة مالية ثقيلة
وترث الحكومة الجديدة عن سابقاتها، أزمة مالية خانقة تجعلها غير قادرة على توفير الخدمات الأساسية بصورة كافية مثل رواتب الموظفين والنفقات الجارية للتعليم والصحة وغيرها.
ويعود السبب الرئيسي للأزمة المالية إلى الإجراءات الإسرائيلية "العقابية" ضد السلطة الفلسطينية. فقد أقدمت الحكومة الإسرائيلية، منذ بدء الحرب على غزة، على اقتطاع 100 مليون دولار شهرياً من الإيرادات الجمركية الفلسطينية، هي قيمة ما تحوله الحكومة شهرياً إلى غزة، لمعاقبة القطاع على هجوم السابع من أكتوبر، يضاف إلى ذلك 20 مليون دولار أخرى يجري اقتطاعها شهرياً منذ سنوات، هي قيمة ما تدفعه الحكومة من مخصصات مالية لأسر الشهداء والأسرى.
وقال وزير المالية الفلسطيني شكري بشارة في لقاء مع الصحافيين مؤخراً، إن إيرادات الحكومة، بعد الاقتطاعات الإسرائيلية، باتت تتراوح بين 20 إلى 30% فقط من نفقاتها من رواتب، ومصاريف جارية.
وتابع: "قيمة الاقتطاعات الإسرائيلية المختلفة بلغت حتى اليوم مليار ونصف المليار دولار، بينما عجز موازنة الحكومة يبلغ 880 مليون دولار"، مشيراً إلى أن إعادة الاقتطاعات المالية كافية لحل الأزمة المالية التي تواجهها الحكومة.
انكماش اقتصادي
وتراجعت الإيرادات المحلية أيضاً بفعل الإجراءات الإسرائيلية التي رافقت الحرب، ومنها منع العمال الفلسطينيين من العمل في إسرائيل، وفرض القيود على حركة الأفراد والسلع.
وقال وزير المالية إن هذه الإجراءات تسببت بانكماش اقتصادي يتراوح بين 40-50%.
ويبلغ عدد موظفي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة 144 ألفاً، فيما تبلغ فاتورة رواتبهم الشهرية حوالي مليار شيكل (الدولار 3.65 شيكل).
وتتحكم إسرائيل في الإيرادات الجمركية التي تجمعها عن الواردات الفلسطينية، وذلك بموجب الاتفاق الاقتصادي الذي وقعه الجانبان في باريس في عام 1996.
وحاولت السلطة الفلسطينية، تغيير اتفاق باريس في المحطات التفاوضية السابقة، لكن إسرائيل رفضت بشدة.
إعادة الاعمار
وقال رئيس الوزراء المكلف محمد مصطفى لـ"الشرق"، إنه أعد خطة لإعادة إعمار قطاع غزة تقوم على تأسيس هيئة مستقلة لإعادة الإعمار، تشرف عليها هيئة استشارية دولية، وتخضع لإشراف البنك الدولي وهيئة محاسبة دولية، لافتاً إلى أن هذه الهيئة سيكون لها حساب مالي مستقل عن حسابات الحكومة.
لكن العديد من الدول المانحة تشترط تمويل إعادة الإعمار التي تصل تكلفتها إلى عشرات مليارات الدولارات بوجود حل سياسي ينهي خطر تعرض قطاع غزة للهدم مرة أخرى في أي حرب قادمة، وهو ما قد يعيق إعادة الاعمار.
ومن جانبها، أعلنت إسرائيل أنها لن توقف الحرب إلا بعد تدمير كامل جهاز "حماس" العسكري، والوصول إلى المسؤولين عن هجوم السابع من أكتوبر، وهو ما يجعل كثير من المراقبين يتوقعون أن تستمر هذه الحرب، بشكلها الحالي أو بشكل آخر، لفترة طويلة قادمة ما يؤثر على إعادة الاعمار والاستقرار.