الثالث والعشرون من شهر ديسمبر الماضي، يوم لا تنساه الفلسطينية سمية منون التي تقطن محافظة شمال قطاع غزة، فقد حُفِر حفراً في ذاكرتها من هول أحداثه.
تروي سمية شهادتها الحية على اقتحام الجيش الإسرائيلي مربع المدارس في منطقة معسكر جباليا في ذلك اليوم وتقول: "لجأنا إلى مدارس الإيواء في معسكر جباليا بعد قصف مربعنا السكني في الشمال بالأحزمة النارية.. حالنا كحال معظم أبناء شعبنا في ظل الحرب والعدوان".
وتتابع: "بينما كنا جالسين داخل إحدى غرف المدرسة يوم 23 ديسمبر، فوجئنا بدخول طائرات انتحارية (مسيّرات) علينا. كان ابن أخو زوجي يقف أمام الشباك يحاول فهم ما يجري، فانفجرت أمامه المُسيرة وبترت ذراعه وذراع ابنتي التي كانت تقف بجواره".
"حاولنا الهرب سريعاً إلى مدرسة مجاورة يتملكنا الخوف والفزع. لم نكن ندرك أننا محاصرون بالدبابات التي أطلقت قذائفها تجاهنا فور خروجنا من المدرسة، وسط قصف جوي من الطائرات التي أطلقت صاروخاً حصد أرواح 19 شهيداً من العائلة، من ضمنهم ابني مصطفى وزوجي عزو".
وتضيف قائلة لوكالة أنباء العالم العربي: "أول صاروخ تسبب في قطع رأس أخو زوجي صالح منون؛ ليسقط بين قدميّ ابني خالد (5 سنوات)؛ فأصيب بنوبة هيستيريا وصراخ من شدة الفزع، ولم يقوَ أي منا على تهدئته أو منحه شعوراً زائفاً بالأمان وقدراً من الطمأنينة".
وواصلت: "كنا جميعاً نرتجف رعباً ونحن نعيش شعور الموت ألف مرة في اللحظة، تحاصرنا أصوات الانفجارات ودخان بارودها والشظايا الملتهبة، وكلنا بحاجة إلى قشة غريق نُعلّق عليها شيئاً من آمال النجاة بعد أن تفرقت العائلة بين شهيد ومبتور ومصاب".
وتابعت حديثها قائلة: "لم نكن نبحث عن شيء سوى طريق الخروج من هذا الجحيم، حتى لو كان ما ينتظرنا على الطرف الآخر جحيم أيضاً".
الفرار من مدرسة إلى مدرسة
استطاع من تبقى من عائلة منون والعوائل الأخرى التحصن بسور مدرسة ثانية مع استمرار عمليات القصف الجوي والمدفعي وحركة الطائرات الانتحارية المسيرة، قبل أن ينتقلوا إلى ملجأ ثالث عبارة عن مدرسة أيضاً مجاورة للمدرستين، ليبدأ فصل جديد من المعاناة.
تقول سمية منون "ظننت أن ابني مصطفى (14 عاماً) قد استشهد رفقة أبيه عندما دخل بقيتنا المدرسة وسط قصف الطائرات والدبابات. كان جميع من معنا مواطنين عاديين ومسالمين لا يحمل منهم أي سلاح. لكن كوننا مواطنين عُزّل لم يشفع لنا كي يتوقف القصف ويقف استهدافنا بشتى الطرق".
وتواصل: "لم نستطلع لوهلة أن نطمئن على من بقي منا ونعرف من فارق الحياة أو نحاول وقف نزيف المصابين. كل رجائنا لم يغير من واقع المذبحة المستمرة شيئاً. كلنا غارقٌ في الصدمة وعاجزٌ عن استيعاب ما يجري، حتى انهار ابني أحمد بجواري يصرخ من شدة البكاء والألم".
وتتابع: "كان قلب أحمد (19 عاماً) يتقطع من الحسرة والوجع على أخيه مصطفى الذي لا يزال ملقى بالخارج. كان يصرخ: أخي تحوَّل إلى أشلاء مهروسة أسفل جنزير الدبابة ولا أقدر على الخروج لانتشاله والعودة بما تبقى من رفاته". فقد كانت هناك دبابة على باب مدرسة الإيواء مما يحول دون خروج أحد من المبنى لأنه سيكون عرضة للنيران. وأخذ أحمد يصيح "إيش اعمل؟ بدي خوي.. بدي اياه بأي طريقة".
وبينما كان يحاول بعض الشبان إيجاد سبيل للوصول إلى ما تبقى من جسد مصطفى ومن سقط معه وانتشالهم من بين الدبابات خلف سور المدرسة، سقطت قذيفة أخرى داخلها فتسببت في حرق 6 أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتتساءل سمية: "لا أعرف ما الخطر الذي يمكن أن يشكله ذوو إعاقة على هذا الجيش المدجج بالسلاح والدبابات والطائرات المسيرة؟ تحول المساكين جميعاً إلى جثث متفحمة أمام أعيننا وعجزنا عن فعل شيء لهم".
أما عن ابنها مصطفى فقالت: "استمرت محاولات انتشاله من الساعة السادسة والنصف صباحاً حتى جاؤوا به بأعجوبة في تمام التاسعة. كان حين جاؤوني به مبتور اليدين والقدمين وينزف الدم من مناطق متعددة من جسده. لم نستطع إسعافه بأي شيء سوى الضغط على بعض جروحه بقطع من ملابسنا".
وتتابع: "حاول أحد الشبان الخروج رافعاً راية بيضاء للحديث مع الجنود وإبلاغهم بوجود طفل مصاب بحاجة لإسعافه ووقف النزيف، فعاد الشاب مصاباً في كلتا قدميه".
كانت دماء مصطفى تتصفى بين يدي أمه، بينما يسقط على وجنته ما تذرف به عيناها من الدمع؛ ثم فارق الحياة بعد 7 ساعات من النزيف.
خرجت الأم من الحدث مصابة هي وابنتها وتم تحويلهما للعلاج في مستشفيات جنوب وادي غزة، بعيداً عمن تبقى من أهلها وذويها ومدافن من رحل منهم، بسبب تعطل عمل المنظومة الصحية في شمال غزة تعطلاً تاماً.
والآن، تطالب السيدة الفلسطينية الدول العربية والمجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية والإنسانية بوقف الحرب على غزة بأي طريقة، وفتح المعابر لتسهيل خروج المصابين وتلقي العلاج، قبل أن يتحولوا بدورهم إلى أرقام جديدة تُضاف إلى أعداد القتلى.