هجوم كورسك في روسيا.. تداعيات داخلية وانتقادات وسط هدوء إعلامي

جنود أوكرانيون على مركبة عسكرية في منطقة سومي قرب الحدود مع روسيا- 10 أغسطس 2024 - Reuters
جنود أوكرانيون على مركبة عسكرية في منطقة سومي قرب الحدود مع روسيا- 10 أغسطس 2024 - Reuters
موسكو-الشرق

بينما كانت أنظار العالم تتجه نحو كورسك الروسية، والجيش الأوكراني يواصل هجومه في المنطقة ويعلن عن انجازات على الأرض، يقابلها تعثر وارتباك عسكري روسي، ذهب الرئيس فلاديمير بوتين في زيارة دولة إلى أذربيجان. وبحسب موقع الكرملين، فإن موضوع حرب أوكرانيا لم يتم التطرق إليه ولو مرة واحدة في هذه الرحلة. 

لم يبدُ بوتين قلقاً. ولم يغير خططه المرسومة سلفاً، في وقت واجهت بلاده "غزواً" برياً للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. ذهب إلى باكو لمناقشة تطوير العلاقات الثنائية وإطلاق مشروعات استراتيجية لطرق التجارة والإمدادات، فضلاً عن بحث ملف الاستقرار في منطقة جنوب القوقاز، والعلاقة مع أرمينيا وتركيا وإيران في هذا الشأن.

وفي طريق عودته، عرج سيد الكرملين ليس على كورسك التي تشهد مع محيطها معركة قاسية منذ أكثر من أسبوعين، أو حتى روستوف الآمنة نسبياً، والتي تتمركز فيها قيادة القوات الضاربة في أوكرانيا، بل توجه إلى الشيشان.

ويحظى بوتين بدعم شعبي واسع وفريد في الشيشان، كما أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة (100%) في هذه الجمهورية ذاتية الحكم في روسيا، والوحيدة التي تمد الجبهة عموماً وجبهة كورسك حالياً بالمقاتلين الأشداء الذين يقومون بالجهد الحربي الأكبر تأثيراً إلى جانب الجيش.

وأظهرت تحركات بوتين أن المستوى السياسي الروسي مطمئن تماماً لمسار تطور الأحداث، ولا يتخوف من اختراقات أو هزات كبرى قد تجلبها "غزوة" كورسك.

وخلال أسبوعين عقد الرئيس الروسي 4 اجتماعات للقيادة العسكرية، خُصصت لمناقشة الوضع في كورسك، وكان يركز في كل منها على ضرورة عدم السماح بأن يترك الهجوم الأوكراني تأثيراً على مسار العمليات على الجبهة الشرقية في أوكرانيا، وخصوصاً في محيطي دونيتسك وخاركيف، برغم أنه اضطر إلى سحب جزء من قواته من هاتين المنطقتين لتعزيز حماية الحدود بعدما أثبت توغل كورسك أنها هشة وفيها كثير من الثغرات.

النخب السياسية هادئة

تحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انسحبت أيضاً على النخب السياسية الأخرى، إذ لم يأت إلى المنطقة سوى بعض المسؤولين الفيدراليين. قام وزير الطاقة سيرجي تسيفليف، ووزير الصحة ميخائيل موراشكو، ووزير النقل والحاكم السابق للمنطقة رومان ستاروفويت، ونائب وزير الدفاع أندريه بوليجا، بزيارة مدينة كورسك للاطلاع على الوضع عن قرب.

كما حضر النائب الأول لرئيس الإدارة الرئاسية الروسية، سيرجي كيرينكو، إلى مدينة كورشاتوف، حيث تقع محطة كورسك للطاقة النووية.

بينما لم يقم أي مسؤول فيدرالي بما في ذلك حاكم منطقة كورسك أليكسي سميرنوف، بزيارة أي من المناطق التي مزقتها الحرب في محيط كورسك، واكتفى بالتقاط بعض الصور وهو يزور مبنى سكنياً تضرر خلال هجوم شنته القوات المسلحة الأوكرانية في كورسك، ويستقبل المساعدات الإنسانية، ويزور مستشفى للجيش ومراكز الإقامة المؤقتة في كورسك نفسها، أي بعيداً عن جبهة القتال.

ويُشير مراقبون إلى أن السلطات الروسية تتصرف بنفس الطريقة التي كانت تتعامل بها أثناء تمرد يفجيني بريجوجين في يونيو 2023، ما يدل على أنه "لم يحدث أي شيء طارئ للغاية وغير عادي".

أكثر من ذلك، خلال أسبوعين من المعارك الضارية، وبينما كان العالم يتحدث عن هزة كبيرة أطاحت بسمعة الرئيس الروسي ومعنويات جيشه، لم يقم بوتين بتوجيه أي نداء إلى الأمة بشأن هذه المسألة. ولم يتم استدعاء مجلس النواب (الدوما) من إجازته السنوية، التي بدأت في 4 أغسطس.

ولوحظ أيضاً أن الكرملين علّق بشكل مقتضب جداً على توغل الجيش الأوكراني في منطقة كورسك، وعُرض   خلال أسبوع كامل على شاشات التلفزيون الرسمي مرة واحدة فقط مقطع فيديو مدته 30 ثانية من اجتماع بوتين مع قوات الأمن وأعضاء الحكومة وحكام مناطق الخطوط الأمامية.

وفي ذلك اليوم قاطع بوتين حاكم كورسك عندما تحدث عن خسائر منطقته وأبلغه بحزم أن هذا الأمر متروك "لتقييم الجيش".

وفي المرة الثانية بعد مرور أكثر من أسبوعين على الهجوم الأوكراني ظهر بوتين في مقطع فيديو قصير وهو يتحدث عن محاولة أوكرانية لمهاجمة محطة كورسك النووية. بينما في كل تلك الفترة كان سكرتيره الصحافي ديمتري بيسكوف، مثل العديد من المسؤولين الآخرين، في إجازة.

في الوقت نفسه، لاحظ مراقبون أن تصرفات السلطات الروسية على الأرض تختلف مع سلوكها الهادئ نسبياً إزاء الحدث الضخم في كورسك، إذ تم إدخال نظام عمليات مكافحة الإرهاب في مناطق كورسك وبيلجورود وبريانسك، كما تم إعلان حالة الطوارئ الفيدرالية في منطقتي كورسك وبيلجورود، ودعت السلطات إلى إجلاء سكان المنطقة.

ويُفسر أحد علماء السياسة الروس سلوك النخب السياسية بأنه "يحدث شيء ما يندرج بوضوح ضمن مواد عقيدة الأمن القومي للاتحاد الروسي، بموجب العديد من الوثائق التي تنظم مثل هذا الوضع على المستوى القانوني، إذ يتم اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية بصمت، لعدم إثارة الذعر".

لكن في جانب آخر من هذا المشهد، ثمة ما يوحي بثقة عالية واطمئنان إلى تماسك الجبهة الداخلية، إذ خلافاً للوضع عندما وقع تمرد بريجوجين، لا يوجد دليل في روسيا حالياً على حدوث شرخ ما في النخب المحيطة ببوتين، أو تباينات في آليات التعامل المطلوبة مع الحدث المتطور.

انتقاد أداء المستوى العسكري

لم يترك كل هذا انطباعاً بأن روسيا تواجه خطراً داهماً هو الأول من نوعه منذ عقود، لكن هدوء الرئيس وأركان سلطته، لا يعني أن النخب الروسية لم تواجه انتقادات حادة.

وهذه الانتقادات وُجهت بالدرجة الأولى إلى المستويين الأمني والعسكري، إذ يدور الحديث عن فشل أمني في توقع الهجوم، برغم أن الإعداد له استغرق فترة طويلة، ولاحقاً تعثرت القوات التي تحمي الحدود في مواجهة التوغل، ما أسفر عن اختراق واسع ومباغت انتهى إلى إحكام السيطرة على مناطق واسعة تزيد مساحتها عن 1000 كيلومتراً.

ورغم أن هذه الانتقادات النادرة طالت المستوى العسكري، لكنها لم تمس القيادة العليا للبلاد، فالأخطاء هنا وفقاً لتعليق صحافي معارض تقوم على مبدأ "الخسائر يتحملها المنفذون والمكاسب تكتب لأصحاب القرار".

بهذا المعنى تحديداً جاء تسريب معطيات عن "أخطاء فادحة" ارتكبها جنرال بارز أسفرت عن اختراق كورسك، ووفقاً للتسريبات، في ربيع هذا العام، فكّك المسؤول العسكري الجديد ألكسندر لابين الذي عيّنته موسكو للإشراف على الأمن في مقاطعة كورسك الروسية، مجلساً مكلفاً بحماية المنطقة الحدودية المعرضة للخطر.

وقال حينها الجنرال إن الجيش الروسي وحده لديه القوة والموارد اللازمة لحماية حدود البلاد، لكن كما اتضح لاحقاً، فقد تركت خطوة لابين هذه ثغرة واسعة في دفاعات روسيا الحدودية الضعيفة، والتي انهارت في وقت سابق هذا الشهر، عندما نفذت القوات الأوكرانية هجوماً خاطفاً عَبَر الحدود إلى كورسك الروسية.

وبحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال"، لا شك أن خطأ الجنرال لم يفتح وحده الأبواب أمام أول غزو أجنبي للأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد واجه الجيش الروسي نقصاً حاداً في المقاتلين، ودلّت متابعات صحافية إلى أن المجندين حديثي العهد وقليلي الخبرة تم زجهم مع حرس الحدود لحماية هذه  المناطق الحدودية، تمهيداً لإرسالهم لاحقاً إلى الجبهة.

اللافت أن معطيات تسربت لاحقاً من جانب مراسلي الجيش الروسي، أكدت أن قيادة لابين أرسلت تقارير إلى موسكو في الأيام التي سبقت غزو أوكرانيا، تحذر من أن القوات الأوكرانية كانت تزيد أعدادها على خط المواجهة، لكن الأشخاص المطلعين على مناورات الحدود قالوا إن هذه الحيلة كانت تُستخدَم من قبل على الجانبين كتكتيك للحرب النفسية، ورفضت موسكو التحذيرات.

وعلى الرغم من المعلومات الاستخباراتية بشأن التحركات العسكرية، فإن القوات التي يقودها الجنرال لابين فشلت في التحرك من خلال فرض خطوط دفاعية أو زرع الألغام كما فعل الجنود الروس العام الماضي لإحباط هجوم مضاد أوكراني كبير ومُخطط له جيداً.

وعندما دخل الجنود الأوكرانيون المنطقة العازلة بين البلدين، لم يواجهوا أي مقاومة، وفي داخل روسيا، لم تكن هناك قوات دفاع إقليمية لإبطاء الهجوم الأوكراني.

 كيف تعامل الروس مع الحدث؟

أكثر ما لفت الأنظار في هجوم كورسك على الصعيد الداخلي الروسي، هو درجة عدم التفاعل من جانب المواطنين الروس. يقول أحد الخبراء إن الروس الذين تعبوا من الحرب المتواصلة لمدة تزيد على 30 شهراً، ومن تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، لم يعودوا يكترثون كثيراً بتطورات الجبهة، إلا لجهة مستوى تأثيرها المباشر على حملات التعبئة الشاملة أو الجزئية.

وكتب أحد المعلقين أن "سكان روسيا، الذين يتابعون الوضع في منطقة كورسك، لا يهتمون كثيراً بالتطورات، طالما لم تظهر دعوات لنوع من الحرب المقدسة".

واللافت أكثر أن هذا التغيب موجود أيضاً في وسائل الاعلام الحكومية، التي تنقل أخبار الجبهات بشكل مقتضب، وتوسع أكثر من حجم تغطياتها عندما يتعلق الأمر بهجوم ناجح على الجبهة داخل أوكرانيا، لكن، مع تلك الاخبار تبدو العناوين المرافقة لافتة للنظر في وقت صعب ومعقد بالنسبة إلى روسيا.

ومن بين الأمثلة على ذلك، تركيز عناوين اليومين الماضيين على موضوعات "إطلاق سفينة نقل البضائع Progress MS-28 إلى المدار"، و"بدأت أسعار التفاح في الاتحاد الروسي بالارتفاع الأسبوع الماضي"، و"مؤتمر صحافي مخصص لأسبوع موسكو السينمائي الدولي" . هذه كانت عناوين وكالات الأنباء الروسية في وقت اقتربت المعارك الضارية من المدن الروسية، وباتت على بعد مئات الكيلومترات من موسكو وسانت بطرسبيرج.

أما ما يتعلق بالجبهة المشتعلة، فإن التقارير الإعلامية الرسمية تركز على المعارك في المناطق الحدودية الروسية بشكل عرضي وكشيء عادي: "يقوم حرس الحدود بمهام حماية القانون والنظام في المناطق الحدودية لمناطق كورسك وبريانسك وبيلجورود".

كما تقول القنوات التلفزيونية عن النازحين إن الدولة "لن تتخلى عنهم"، كما تقول عادةً عن أولئك الذين فقدوا منازلهم نتيجة الفيضان أو انفجار الغاز. وهذا أمر ملفت للنظر لكل من كان يتابع رسائل الهياكل الرسمية الروسية ووسائل الإعلام القريبة من الحكومة في الأيام الأخيرة.

من الواضح وفقاً لخبراء أن رد الفعل الإعلامي الرسمي يهدف إلى التقليل من شأن الأحداث، إن لم يكن إسكاتها بشكل كامل، فيؤكد على جوانبها غير العسكرية.

وهناك الكثير من الحديث عن المساعدة الاجتماعية، وعن مكان إيواء النازحين، وأين يتم وضع الأطفال بشكل منفصل، وكيف سيواصلون إجازاتهم الصيفية، وكيف سيتم منح الجميع الفرصة لبدء العام الدراسي، وما إلى ذلك. وهذا يعني أن هذا روتين لما يحدث.

وفي هذه الحالة، تلاحظ الخبيرة إيكاترينا شولمان، أن "الروتين لا يعني التطبيع. الناس لا يعتبرون هذا أمراً طبيعياً، لكنهم يعتقدون أن رد فعلهم، مهما كان، لن تكون له أي فائدة، ولن تكون هناك عواقب".

ويرى خبير في مركز "كارنيجي" أن "العلامة الأخرى على رد الفعل الشعبي هي ما يسمى بـ"النصب التذكارية الشعبية". عندما يحدث شيء يُقلق الناس، فإنهم يبدأون بإحضار الزهور والشموع والألعاب إلى الساحات العامة. حدث ذلك بعد حرائق أسفرت عن سقوط ضحايا، و"هجمات إرهابية"، وبعد وفاة بريجوجين، ووفاة المعارض أليكسي نافالني.

كما توجد هذه النصب التذكارية الشعبية بأشكال مختلفة (الزهور في المعالم الأثرية، والنصب التذكارية في الشوارع والجسور، وما إلى ذلك)، لكنها موجودة، أي أن الناس يعتبرون أنه من الضروري إظهار نوع من رد الفعل. لكننا لا نرى شيئاً من هذا القبيل حتى الآن.

ويخلص الخبير إلى أن "المشاعر العامة خاملة إلى حد ما.. لذلك دعونا لا نستخلص استنتاجات نهائية بعد. لا نعرف ماذا سيحدث خلال أسبوع، لكن من المستحيل الآن أن نقول إن هذه الأحداث (كورسك) صدمت روسيا".

تصنيفات

قصص قد تهمك